موسوعة اللغة العربية

المَبْحَثُ الثَّاني: بَديعُ الزَّمانِ الهَمَذانيُّ والمقاماتُ


ظَلَّت "المقاماتُ" بمعنى الخُطَبِ والوَعْظِ حتَّى جاء بَديعُ الزَّمانِ الهَمَذانيُّ أحمدُ بنُ الحُسَينِ بنِ يَحيى بنِ سَعيدٍ، فوضَعَ نَوعًا فريدًا مِنَ الأدَبِ، عِبارةً عن قِطعةٍ أدَبيَّةٍ تَعتَمِدُ على قِصَّةٍ قَصيرةٍ، وتعتَمِدُ على الخيالِ في تأليفِ حَوادِثِها، وتهتَمُّ بجانِبِ الضَّحِكِ والفُكاهةِ، مع تَوجيهِ النَّقْدِ اللَّاذِعِ لطَبَقاتِ المجتَمَعِ.
كَتَب بَديعُ الزَّمانِ اثنْتَيَنِ وخَمسينَ مَقامةً، جعلها في مَوضوعاتٍ شَتَّى، منها الوَعْظُ والنَّقْدُ والوَصْفُ والمَدْحُ، وأكثَرُ مَوضوعاتِه عَدَدًا الكُدْيةُ؛ حَيثُ يُصَوِّرُ فيها بَديعُ الزَّمانِ أصنافًا وألوانًا مِنَ النَّاسِ يَتحَيَّلون لكَسْبِ المالِ بطُرُقٍ عَديدةٍ، منها التَّسَوُّلُ والخِداعُ والكَذِبُ والغِشُّ والوَعْظُ وغَيرُ ذلك.
كما تحَدَّث عن البُخَلاءِ مُتأثِّرًا بالجاحِظِ في ذلك، وتحدَّث كذلك عن بَعْضِ الشَّخصيَّاتِ المُعَقَّدةِ ومُحَدِّثي النِّعْمةِ.
وقد ركَّز بَديعُ الزَّمانِ في مَقاماتِه على نَقْدِ المجتَمَعِ، وكَشْفِ السِّتارِ عن عُيوبِ أهلِ عَصْرِه؛ فإذا أورد حديثًا عن قاضٍ ظالمٍ يأكُلُ أموالَ اليتامى، فإنَّه يَدِينُ طائِفةَ القُضاةِ جميعًا، ويتَّهِمُهم بالجَوْرِ في الحُكْمِ، والرِّشوةِ، وحُبِّ المالِ والسَّعْيِ في جَمعِه سواءٌ كان من حلالٍ أم من حَرامٍ ... كما أنَّه إذا صوَّر واعِظًا يحُضُّ النَّاسَ على الخَيرِ ثُمَّ يخرُجُ مِنَ المسجِدِ فيَشرَبُ الخَمْرَ، فإنَّه يمثِّلُ نمطًا مِنَ الوُعَّاظِ وعُلَماءِ الدِّينِ الَّذين يأمُرونَ النَّاسَ بالبِرِّ ويَنسَونَ أنفُسَهم.
وتعتَمِدُ المقاماتُ على الحِكايةِ المؤَثِّرةِ الفُكاهيَّةِ، الَّتي يَغلِبُ عليها السَّجْعُ كثيرًا، وتدورُ تلك الحِكاياتُ حَولَ البَطَلِ الَّذي اتَّخَذه بديعُ الزَّمانِ، وسمَّاه "أبا الفَتْحِ الإسْكَندَريَّ"، وهو صاحِبُ تلك الأهوالِ والأفعالِ، مَرَّةً يكونُ واعِظًا، وأخرى يكونُ لِصًّا، وثالثةً يكونُ قاضيًا، وغيرَ ذلك. المهِمُّ أنَّه في كُلِّ مَرَّةٍ يتحايَلُ للحُصولِ على المالِ الَّذي يُنفِقُه على لذَّاتِه الخاصَّةِ. ويتتَبَّعُ أمرَ ذلك البَطَلِ رَجُلٌ مشهورٌ بالعِلْمِ، محِبٌّ للاستِطلاعِ، شَديدُ الذَّكاءِ، يُدعى عيسى بنَ هِشامٍ، وهو الَّذي يروي حكاياتِ أبي الفَتحِ، وهما شَخصِيَّتانِ مِن نَسجِ خَيالِ بَديعِ الزَّمانِ.
وقد انتَشَرت تلك المقاماتُ انتِشارًا بالِغًا، فوصَلَت مِصرَ والحِجازَ والأندَلُسَ وسائِرَ بِلادِ العالَمِ الإسلاميِّ آنَئِذٍ، واهتَمَّ بها تلاميذُ بَديعِ الزَّمانِ جِدًّا وحاكُوا على مِنوالِها [161] يُنظر: ((صبح الأعشى في صناعة الإنشاء)) للقلقشندي (14/ 124)، ((الفن ومذاهبه في النثر العربي)) لشوقي ضيف (ص: 247)، ((محاضرات في الفنون الأدبية بالأندلس)) لشعبان مرسي (ص: 198). .

انظر أيضا: