موسوعة اللغة العربية

الفَصْلُ الثَّاني: حُسْنُ التَّخَلُّصِ


وهو أن ينتَقِلَ الشَّاعِرُ أو النَّاثِرُ مِنَ المُقَدِّمةِ إلى المقصودِ مِن مَوضوعِه، أو أن ينتَقِلَ مِن غَرَضٍ إلى آخَرَ، ومِن مَوضوعٍ إلى مَوضوعٍ، بتخَلُّصٍ سَهْلٍ يُختلَسُ اختِلاسًا رَشيقًا دقيقَ المعنى، بحَيثُ لا يَشعُرُ السَّامِعُ بالانتِقالِ مِنَ المعنى الأوَّلِ إلَّا وقد وقع في الثَّاني؛ لشِدَّةِ المُمازَجةِ والالْتِئامِ والانسِجامِ بَيْنَهما، حتَّى كأنَّهما أُفرِغَا في قالَبٍ واحِدٍ.
وإنَّما كان هذا المَوضِعُ مِنَ المواضِعِ الَّتي يَنْبغي للمُتكَلِّمِ أن يتأنَّقَ فيها؛ لأنَّ السَّامِعَ مُترَقِّبٌ للانتِقالِ مِنَ الافتِتاحِ إلى المقصودِ كيف يكونُ، فإذا كان حَسَنًا متلائِمَ الطَّرَفينِ حرَّك من نَشاطِ السَّامِعِ، وأعان على إصغاءِ ما بَعْدَه، وإلَّا فبالعَكْسِ. والتَّخَلُّصُ على النَّاثِرِ أسهَلُ منه على الشَّاعِرِ؛ فإنَّ الشَّاعِرَ تَحكُمُه القافيةُ والوَزنُ؛ ولذا يُعَدُّ التَّخَلُّصُ دليلًا على حَذْقِه وقُوَّةِ تصَرُّفِه [130] يُنظر: ((سر الفصاحة)) للخفاجي (ص: 268)، ((الطراز لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز)) للمؤيد بالله العلوي (2/ 173)، ((خزانة الأدب وغاية الأرب)) لابن حجة الحموي (1/ 329). .
ومِن جَميلِ التَّخَلُّصِ ما وقع في كِتابِ اللهِ تعالى في قَولِه جَلَّ وعلا: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ * رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ * وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ * وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ * وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ * وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ * وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ * وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ * وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ * فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ * وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ * قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ * تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ * فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ * فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الشُّعَراء: 69-104] .
فإنَّ اللهَ جَلَّ وعلا انتَقَل مِنَ الحديثِ عن قِصَّةِ إبراهيمَ وقَومِه إلى ذِكْرِ الجَنَّةِ والنَّارِ ومَصيرِ الكافِرينَ والظَّالِمينَ وحَشْرِهم في النَّارِ، وما كان من مخاصَمةِ الكافِرينَ بَعْضِهم بَعْضًا في النَّارِ، مِن دونَ أن يَشعُرَ القارِئُ بانقِطاعٍ.
ومِن جَميلِ التَّخَلُّصِ أيضًا ما كتَبَه ابنُ الأثيرِ لصَديقٍ له، يَصِفُ له بَرْدَ بِلادِ الرُّومِ، ثُمَّ يَخلُصُ منه إلى ذِكْرِ الشَّوقِ، دونَ إشعارِ القارِئِ بانقِطاعٍ، فيَقولُ: (وممَّا أشكُوه مِن بَرْدِها أنَّ الفَرْوَ لا يُلبَسُ إلَّا في شَهرِ ناجِر، وهو قائِمٌ مقامَ الظِّلِّ الَّذي يُتبرَّدُ به من لَفْحِ الهواجِر، ولَفْظُ شِدَّتِه لم أجِدْ ما يحَقِّقُه فَضْلًا عمَّا يُذهِبُه؛ فإنَّ النَّارَ المُعَدَّةَ له تَطلُبُ مِنَ الدِّفءِ أيضًا ما أطلُبُه، لكِنْ وَجَدْتُ نارَ أشواقي أشَدَّ حَرًّا فاصطَلَيْتُ بجَمْرِها الَّتي لا تُذكَى بزِنادٍ، ولا تَؤُولُ إلى رَمادٍ، ولا يُدفَعُ البَرْدُ الوارِدُ على الجَسَدِ بأشَدِّ من حَرِّ الفُؤادِ، غَيْرَ أنِّي كُنتُ في ذلك كمَن سَدَّ خَلَّةً بخَلَّةٍ، واستشفى من عِلَّةٍ بعِلَّةٍ، وأقتَلُ ما أَغَلَّكَ ما شَفاك، فما ظَنُّكَ بمن يَصْطلي نارَ الأشواقِ، وقد قَنِعَ مِن أخيه بالأوراقِ، فَضَنَّ عليه بالأوراقِ؟!) [131] يُنظر: ((المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر)) لابن الأثير (2/ 254). .

انظر أيضا: