موسوعة اللغة العربية

المَبحَثُ الثَّالثُ: نشأةُ المُعجَمِ العَرَبيِّ


(لم يكُنِ العَرَبُ يَعرِفون التأليفَ المُعجَميَّ قَبْلَ العصرِ العبَّاسيِّ، وقدَّم إميل يعقوب أنَّ ذلك لأسبابٍ عِدَّةٍ، أهمُّها:
(1) انتِشارُ الأمِّيَّةِ بينهم، فالذين كانوا يَعرِفون القِراءةَ والكتابةَ قَبلَ الإسلامِ قليلون.
(2) طبيعةُ حياتِهم الاجتماعيَّةِ القائمةِ على الغَزوِ والانتقالِ من مكانٍ إلى آخَرَ.
(3) إتقانُهم للُغتِهم، فقد كانت العربيَّةُ عندَهم على لسانِ المحادَثةِ والخَطابةِ والشِّعرِ، حتَّى يقولَ ابنُ عَبَّاسٍ: (الشِّعرُ ديوانُ العَرَبِ، فإذا خَفِي علينا الحرفُ من القرآنِ الذي أنزله اللهُ، رجَعْنا إلى الشِّعرِ فالتمَسْنا معرفةَ ذلك منه). وإن كانت العرَبُ لم يعرِفوا المعاجِمَ قَبلَ العَصرِ العبَّاسيِّ، لكِنْ لا شكَّ في أنَّ الفِكرةَ المُعجَميَّةَ كانت قد بدأت تراوِدُهم منذُ أن بدؤوا أن يَشرَحوا القُرآنَ) [309] يُنظَر: ((المعجم العربي نشأته وتطوره)) لحسين نصار (1/ 40 - 45). .
ويُعَدُّ التَّأليفُ في غَريبِ القُرآنِ النَّواةَ الأُولى لتَأليفِ المَعاجِمِ، وقد عُرِف عنِ ابنِ عبَّاسٍ رضِي اللهُ عنه اهتِمامُه بتَفسيرِ الألفاظِ الغَريبةِ في القُرآنِ، وتَوضيحِ مَعناها، وذِكرُه لبعضِ الشَّواهِدِ الشِّعريَّةِ، وقد ألَّف بعدَه عددٌ مِنَ العُلَماءِ في هذا المَجالِ؛ حيثُ الاقتِصارُ على الألفاظِ الغَريبةِ، وذِكرُ بعضِ الأشعارِ المُؤيِّدةِ لمَعناها.
وقد جرَى جَمعُ ألفاظِ اللُّغةِ العَربيَّةِ على مَراحِلَ ثَلاثٍ:
المَرحَلةُ الأُولى: عرَفت هذه المَرحَلةُ تَدوينَ ألفاظِ اللُّغةِ وتَفسيرَها من دون تَرتيبٍ، وقد جرى هذا الجَمعُ بفَضلِ ارتِباطِ الرُّواةِ والعُلَماءِ منذُ أواخِرِ القَرنِ الهِجريِّ الأوَّلِ، وكان السَّماعُ عنِ الأعرابِ مِنَ المَصادِرِ الأساسيَّةِ الَّتي اعتَمدَها الرُّواةُ في جَمعِ اللُّغةِ، ويُعَدُّ كِتابُ النَّوادِرِ في اللُّغةِ لأبي زيدٍ الأنصاريِّ مِن أفضَلِ الكُتُبِ اللُّغويَّةِ الَّتي تُمثِّلُ هذه المَرحَلةَ؛ ذلك أنَّ المُؤلِّفَ يُورِدُ فيه النُّصوصَ الشِّعريَّةَ والنَّثريَّةَ الغَريبةَ، فيَشرَحُها ويُعلِّقُ عليها مِن غيرِ تَرتيبٍ.
المَرحَلةُ الثَّانيةُ: وهي مَرحَلةُ تَدوينِ اللُّغةِ مُرتَّبةً في رَسائِلَ مُتفرِّقةٍ صَغيرةٍ مَحدودةِ المَوضوعِ، مَبنيَّةٍ على مَعنًى مِنَ المَعاني، أو على حَرفٍ مِنَ الحُروفِ، مِثلُ كِتابِ المَطَرِ لأبي زيدٍ الأنصاريِّ، وللأَصمَعيِّ كُتُبٌ؛ منها: كِتابُ الإِبِلِ والخَيلِ، وكِتابُ أسماءِ الوُحوشِ وصِفاتِها، وكِتابُ النَّخلِ والكَرمِ، وكِتابُ النَّباتِ والشَّجرِ.
وهناك رَسائِلُ أخرى جُمِعت فيها ألفاظُ اللُّغةِ دون مُراعاةِ مَعانيها، وهي تَجمَعُ اسمَ الحَرفِ الَّذي يَجمَعُ بين هذه الأُصولِ، فيُقالُ: كِتابُ الخاءِ، وكِتابُ الجيمِ، ومِن أشهَرِ ما وصَل إلينا مِن رَسائِلِ هذا النَّوعِ كِتابُ الهَمزِ لأبي زيدٍ الأنصاريِّ، وكِتابُ الجِيمِ لأبي عَمرٍو الشَّيبانيِّ.
وهناك رَسائِلُ أخرى جُمِعت فيها الألفاظُ الَّتي تَربِطُ بينَها رابِطةٌ أخرى غيرُ رابِطةِ المَعاني أوِ الحُروفِ، مِثلُ الكُتُبِ الَّتي أُلِّفت في الأضدادِ، مِثلُ (الجَونِ) الَّذي يُطلَقُ على الأسودِ والأبيضِ، والفِعلِ (شرى) الَّذي يدُلُّ على البَيعِ والشِّراءِ.
المَرحَلةُ الثَّالِثةُ: وهي مَرحَلةُ وَضعِ المَعاجِمِ العامَّةِ الشَّامِلةِ المُنظَّمةِ، وأوَّلُ مَن وضَع المُعجَمَ هو الخَليلُ بنُ أحمَدَ الفَراهيديُّ، وكان الهَدَفُ الأساسيُّ مِن هذا كلِّه هو خِدمةَ القُرآنِ ونُصوصِ التَّشريعِ، وصَونَ اللُّغةِ مِنَ الخَطَأِ، وحِفظَها مِنَ الضَّياعِ [310] يُنظَر: ((ضحى الإسلام)) لأحمد أمين (2/ 263). .
ويعلِّقُ د. حسين نصَّار على هذا التَّسلسُلِ فيقولُ: (وأتَّفِقُ مع الأستاذِ الباحِثِ في كونِ فكرةِ التَّسلسُلِ معقولةٌ صحيحةٌ، مع شرطٍ واحدٍ هو أن تنشَأَ هذه الأبحاثُ اللُّغَويَّةُ منفَرِدةً غيرَ متَّصِلةٍ بأيِّ نشاطٍ آخَرَ، لكِنَّ الآثارَ الباقيةَ تُنكِرُ هذا الانفرادَ؛ فقد كان أوَّلُ الأبحاثِ اللُّغَويَّةِ يدورُ حولَ الألفاظِ القرآنيَّةِ، أو ما عُرِفَ بَعدُ باسمِ "غريبِ القرآنِ ولغاتِه"، وما شابه ذلك. نُضيفُ إلى ذلك أنَّ بُلوغَ الخليلِ إلى فكرةِ وَضعِ معجَمٍ: كافٍ للقولِ بأنَّ الأبحاثَ اللُّغَويَّةَ وَصَلت إلى مرحلةِ المعاجِمِ حتَّى في حالةِ عَدَمِ استطاعتِه تنفيذَ الفكرةِ، وتَرْكِها لأحدِ تلاميذِه. كذلك نُخالِفُ في كونِ الأصمَعيِّ وأبي زيدٍ واضِعَيِ الفكرةِ الثَّانيةِ، فقد سبقَهما إليها كثيرون، أهمُّهم أبو حيرةَ الأعرابيُّ، أستاذُ الخليلِ وصاحِبُ كتابِ الحَشَراتِ. وربَّما شاركه في هذا الشَّرَفِ معاصِرون له، أو سابِقون عليه، ولم تَصِلْ إلينا بَعدُ أخبارٌ عنهم.
وإذَنْ تكونُ فِكرةُ التَّسلسُلِ معقولةً صحيحةً نظريًّا لا عَمَليًّا، أمَّا المراحِلُ التي قطعَتْها الدِّراساتُ اللُّغَويَّةُ فِعلًا فتختَلِفُ عن ذلك في المرحلةِ الأولى، وتُقِرُّ بوجودِ المرحلَتَينِ الثَّانيةِ والثَّالثةِ. أمَّا المرحلةُ الأولى فاختلطت فيها عِدَّةُ دراساتٍ: رسائِلُ حولَ القرآنِ والحديثِ، ورسائِلُ أخرى ينطَبِقُ عليها وَصفُ هذا الباحِثِ، وهي كتُبُ النَّوادِرِ والأمالي. وكان أكثَرُ اللُّغَويِّين القُدَماءِ يُمْلون على تلاميذِهم من معارِفِهم بلا نظامٍ مُعَيَّنٍ. كما كانوا يُقَيِّدون ما يَسمَعونه من الأعرابِ في دفاتِرَ بغيرِ نظامٍ مُعَيَّنٍ أيضًا. ولن نُعنى بكُتُبِ الأمالي؛ لقلَّةِ تأثيرِها في المعاجِمِ، أو عَدَمِ تأثيرِها البتَّةَ. أمَّا كُتُبُ النَّوادِرِ فقد عُزِي بعضُها إلى معاصِرين للخليلِ وأساتيذَ له؛ مِثلُ أبي عمرِو بنِ العلاءِ، وأبى مالِكٍ عَمرِو بن كِرْكِرةَ الأعرابيِّ، وإذَنْ فإنِّي على الرَّغمِ من عَدَمِ مُوافقتي على كثيرٍ من عباراتِ هذا الباحِثِ، أوافِقُه في وجودِ هذه المراحِلِ، مع مراعاةِ هذا الخَلطِ في المرحلةِ الأولى، وعدَمِ وُجودِ فواصِلَ كبيرةٍ بَينَ مرحلةٍ وأخرى، وعدَمِ تميُّزِ كُلِّ مرحلةٍ تمامًا، لضياعِ هذه الكُتُبِ الأولى، وعَدَمِ انقضاءِ كُلِّ مرحلةٍ بظُهورِ تالِيَتِها؛ إذ بَقِي المؤلِّفون يُخرِجون من الكتابِ ما يُوضَعُ تحتَ المرحلةِ الأولى أو الثَّانيةِ حتى عهودٍ متأخِّرةٍ، ربَّما تمتَدُّ إلى عَهدِنا الحاضِرِ) [311] يُنظَر: ((المعجم العربي نشأته وتطوره)) لحسين نصار (2/ 263). .
وتُعَدُّ قَضيَّةُ التَّرتيبِ مِن أهمِّ القَضايا الَّتي عرَفها تاريخُ القاموسِ العَربيِّ القَديمِ؛ إذ هو الطَّريقةُ أوِ المَنهَجُ الَّذي يَتَّبعُه صانِعُ المُعجَمِ لتَنظيمِ الثَّروةِ اللَّفظيَّةِ المُختارةِ مِنَ الكَلِماتِ والتَّعابيرِ الاصطِلاحيَّةِ والسِّياقيَّةِ، وعَرضِها في المُعجَمِ، بحيثُ يَستطيعُ القارِئُ العُثورَ على مُرادِه بكلِّ سُرعةٍ ويُسرٍ.
ويُعَدُّ المُعجَميُّون العَربُ مِنَ السَّبَّاقين إليه، حتَّى أصبَح اختِصاصًا على يَدِهم دون غيرِهم، ونَهجًا يُقتَدى مِنَ النُّحاةِ والمُعجَميِّين، على الرَّغمِ مِنِ افتِراضِ كَونِ الأمَمِ الأخرى -مِثلُ الآشُوريِّين، والصِّينيِّين، واليُونانِ- لهم اهتِمامٌ باللُّغةِ؛ فالآشُوريُّون اهتمُّوا باللُّغةِ ومُفرَداتِها وقَواعِدِها، وعرَفوا المَعاجِمَ قبل العَربِ، فقدِ ابتَكَروا مَعاجِمَ خاصَّةً بلُغتِهم ذاتَ تَرتيبٍ يُغايرُ ما عُرِف عند العَربِ مِن تَرتيبٍ، فتَركوا نِظامَ الكِتابةِ التَّرميزيَّةِ القَديمةِ، واستَبدلوا بها نِظامَ الإشاراتِ المَقطعيَّةِ أوِ الألفبائيَّةِ [312] يُنظَر: ((علم الدلالة والمعجم العربي)) لعبد القادر أبو شريفة، وحسن لافي، وداود غطاشة (ص: 116 – 117). .
وتجدُرُ الإشارةُ إلى أنَّ (أوَّلَ من ألَّف مُعجمًا عربيًّا باتِّفاقِ اللُّغَويِّين هو الخليلُ بنُ أحمَدَ الفراهيديُّ، واضِعُ كتابِ (العَين)، فوَضَع لِلُّغَويِّين منهجَ التأليفِ المُعجَميِّ أو التَّركيبِ العامِّ، وسنَّ لهم سُنَّتَه، ثمَّ تتالت المعاجِمُ بَعدَه تنتَهِجُ نَهجَه، أو تخالِفُه في بعضِه) [313] يُنظَر: ((دراسة معجمية: نشأتها ونظرياتها ومدارسها)) لتوفيق أوروشمان (ص: 175). .

انظر أيضا: