موسوعة اللغة العربية

المَبحَثُ الثَّالثُ: عِلمُ الدَّلالةِ واللِّسانيَّاتِ


أوَّلًا: نِسبةُ عِلمِ الدَّلالةِ إلى عِلمِ اللِّسانيَّاتِ
(إنَّ نشأةَ عِلمِ الدَّلالةِ لم تكُنْ نشأةً مستقِلَّةً عن علومِ اللُّغةِ الأُخرى، إنما كان يُعَدُّ هذا العِلمُ جُزءًا لصيقًا بعِلمِ اللِّسانيَّاتِ الذي كان يهتَمُّ بدراسةِ اللِّسانِ البَشَريِّ، إلَّا أنَّ عدَمَ اهتمامِ عُلَماءِ اللِّسانيَّاتِ بدَلالةِ الكَلِماتِ -كما أشار إلى ذلك (بريال)- هو الذي كان دافعًا لبعضِ العُلَماءِ اللُّغَويِّين إلى البحثِ عن مجالٍ عِلميٍّ يضُمُّ بحثًا في جوهَرِ الكَلِماتِ ودَلالاتِها؛ لكي يحدِّدوا ضِمْنَه موضوعاتِه ومعاييرَه وقواعِدَه ومناهِجَه وأدواتِه، وما كان ذلك يسيرًا، خاصَّةً إذا عَلِمْنا ذلك التَّداخُلَ المتشابِكَ الذي كان يجمَعُ بَينَ عُلومِ اللُّغةِ مُجتَمِعةً وعِلمِ الألسنيَّةِ الذي ذهب علماؤُه إلى تفريعِه إلى مباحِثَ جمعت بَينَ حقولٍ مختَلِفةٍ من العُلومِ... إلى أن برز عِلمُ الدَّلالةِ؛ لِيَسُدَّ هذا الفَراغُ في الدِّراساتِ اللُّغَويَّةِ من جهةٍ، ويُعمِّقَ البحثَ في الجانِبِ الدَّلاليِّ للُّغةِ من جهةٍ أخرى، ويجتازَ تلك الحواجِزَ التي حالت دونَ أن يخوضَ اللِّسانيُّون في دراسةِ المعنى) [230] ((علم الدلالة أصوله ومباحثه في التراث العربي)) لمنقور عبد الجليل (ص: 17). .
(لقد أدَّى تطوُّرُ البَحثِ اللِّسانيِّ إلى تطوُّرِ جملةٍ من العلومِ، لها صلةٌ بالظَّاهِرةِ اللُّغَويَّةِ. ولكِنَّ اللِّسانيَّاتِ على الرَّغمِ من سيطرةِ بعضِ العُلومِ على بعضِها الآخَرِ فلسفةً ومنهجًا، قد استطاعت أن تحظى باستِقلالِها، وتحافِظَ عليه من غيرِ أن تُحدِثَ قطيعةً معرفيَّةً معها. وكان من نتائِجِ هذا التطَوُّرِ أيضًا أن استطاعت اللِّسانيَّاتُ أن تجمَعَ إليها -ضِمنَ الحقلِ المَعرفيِّ للدِّراساتِ الإنسانيَّةِ- جملةً من ميادينِ البحثِ كان مقدَّرًا لها أن تصبِحَ عُلومًا مستَقِلَّةً. وبهذا فقد حلَّت محَلَّ الفلسفةِ، وصار مقدَّرًا لها أن تُثيرَ الأسئلةَ، وأن تصوغَ القضايا، فاندفَعَت العلومُ الإنسانيَّةُ في رِكابِها تَشُقُّ طريقَها نحوَ تطوُّرِها الخاصِّ.
وإذا كانت اللِّسانيَّات قد تبوَّأت هذه المكانةَ فلأنَّنا باللُّغةِ نَدرُسُ العُلومَ، وباللُّغةِ أيضًا نَدرُسُ اللُّغةَ، وهذا يعني أنَّها أداةُ الدَّرسِ وموضوعُه في الوقتِ نَفسِه، وأنها لغةٌ لاصقةٌ بلُغةٍ، ولُغةٌ دارسةٌ لنَفْسِها أيضًا. ولذا فقد حقَّ لها أن تكونَ أُمًّا لفروعٍ عِلميةٍ شتَّى. ويمكِنُنا -انطِلاقًا من هذه الرُّؤيةِ- أن نقولَ: إنَّ عِلمَ الدَّلالةِ جُزءٌ من اللِّسانيَّاتِ، أو هو فرعٌ من فروعِها، ذلك لأنَّنا إذا كنَّا نَدرُسُ بِنى الجُمَلِ صَوتًا وتركيبًا فإنَّه يمكِنُنا أن نَدرُسَ أيضًا دلالاتِ هذه الجُمَلِ من خلالِ بِناها الصَّوتيَّةِ والتَّركيبيَّةِ. وقد صار بإمكانِنا كذلك، في تطوُّرٍ لاحقٍ لعِلمِ الدَّلالةِ، أن ندرُسَ الدَّلالةَ من خلالِ الآثارِ المِعْماريَّةِ التي تتركُها على الكلامِ صيغةً وتركيبًا. فغَدَت الدَّلالةُ بهذا بِنيةً تجِدُ عناصِرُ الكلامِ فيها أشكالَ ظُهورِها وأماكِنَها ووظائِفَها. وأصبح البحثُ عن النموذَجِ لا يستَنِدُ إلى القواعِدِ، كما في النَّحوِ التَّقليديِّ، ولكِنْ إلى الدَّلالةِ في تركيبِ الكلامِ وإنشائِه) [231] ((اللسانيات والدلالة)) لمنذر عياش (ص: 6، 7). .
ثانيًا: اختِلافُ موضوعَيْ كُلٍّ من: عِلمِ الدَّلالةِ وعِلمِ الألسنيَّةِ
(ما كان ذلك يسيرًا، خاصَّةً إذا عَلِمْنا ذلك التَّداخُلَ المُتشابِكَ الذي كان يجمَعُ بَينَ علومِ اللُّغةِ مُجتَمِعةً وعِلمِ الألسنيَّةِ الذي ذهب علماؤه إلى تفريعِه إلى مباحِثَ جمعت بَينَ حقولٍ مختَلِفةٍ من العلومِ، كما هو شأنُ اللِّسانيَّاتِ النَّفسيَّةِ (psycolinguistique)، ومَبحَثِ اللِّسانيَّاتِ العَصَبيَّةِ euro-rn linguistique وما إلى ذلك. إنَّ العِلمَ اللِّسانيَّ كان يهتَمُّ بوصفِ الجوانِبِ الصُّوريَّةِ للُّغـةِ، ويتجَنَّبُ الخوضَ في استبطانِ جَوهَرِ الكَلِماتِ ومعانيها، الذي أصبح من اهتماماتِ عِلمِ الدَّلالةِ (الحديثِ)، ثمَّ إنَّ ضرورةَ الإحاطةِ ببُعدِ اللُّغةِ الاجتِماعيِّ والثَّقافيِّ والنَّفسيِّ، وتتبُّعِ سيرورةِ المعنى الدِّيناميكيِّ، كُلُّ هذه حواجِزُ وقفت أمامَ عُلَماءِ اللِّسانيَّاتِ، فاستبعدوا بذلك الخوضَ في دراسةِ المعنى وركَّزوا بحوثَهـم علـى شَكلِ الكَلِماتِ، إلى أن برَزَ عِلمُ الدَّلالةِ ليسُدَّ هذا الفراغَ في الدِّراساتِ اللُّغَويَّةِ) [232] يُنظَر: ((علم الدلالة وأصوله في التراث)) لمنقور عبد الجليل (ص 19). .
ثالثًا: حاجةُ عِلمِ الدَّلالةِ إلى عِلمِ اللِّسانيَّاتِ
(ونحنُ هنا، حينَ نتكَلَّمُ عن الدَّلالةِ، فإنَّ كلامَنا يلامِسُ في الواقِعِ عُنصرًا من عناصِرِ الدَّرسِ اللِّسانيِّ. وإذا كانت الدَّلالةُ هي كذلك فإنَّ هذا يُعطي للعِلمِ الدَّارِسِ لها أهميَّةً من جهةٍ، ومصداقيَّتَه من جهةٍ أُخرى. ذلك لأنَّ اللِّسانيَّاتِ بحلولِها محلَّ الفلسفةِ في دراسةِ الدَّلالةِ تُحقِّقُ أمرَينِ:
أولًا: أنَّها تُصبِحُ لعِلمِ الدَّلالةِ أساسًا في النَّظَرِ المنهَجيِّ.
ثانيًا: أنَّها تُعيدُ الدَّلالةَ إلى مكانِها الطَّبيعيِّ بوَصفِها ظاهِرةً لِسانيَّةً.
ونحنُ إذ نقولُ هذا، فلأنَّنا نرى أنَّ موضوعَ هذا العِلمِ لا يزالُ سَيِّئَ التحديدِ [233] يُنظَر: ((علم الدلالة)) لبييرو جيرو (ص 18). . وهو من أجْلِ ذلك مُحتاجٌ إلى اللِّسانيَّاتِ لا إلى سواها؛ لكي يَقبِضَ على موضوعِه) [234] ((اللسانيات والدلالة)) منذر عياش (ص: 7). .

انظر أيضا: