موسوعة اللغة العربية

المَبحَثُ الخامِسُ: إصلاحُ الخَطِّ العَرَبيِّ


مع بدايةِ القَرنِ العِشرينَ ظَهرَت دَعوةٌ تَدعو إلى تَيسيراتٍ في الخَطِّ العَرَبيِّ، أبرَزُها ما دَعا إليه القاضي الإنجِليزيُّ في مِصرِ "ولمور"؛ حيث كان منَ الدُّعاةِ إلى إحلال العاميَّةِ مَحَلَّ الفُصحى، كذلك دَعا إلى أن تُكتَبَ تلك اللُّغةُ بالحُروفِ اللَّاتينيَّةِ، وأيَّدَه في دَعواه عبد العزيز فهمي باشا، وأنيس فريحة، وسعيد عَقل.
ثُمَّ ظَهرَت دَعوةٌ أُخرى من بَعضِ المُنتَسِبينَ إلى العَرَبيَّةِ، أمثال: أحمد لطفي السيد، وعلي الجارم، والجندي خليفة، والأب أنستاس الكرملي، وغَيرِهم، مُفادُها: أن تُختَرعَ حُروفٌ جَديدةٌ للحَرَكاتِ الثَّلاثِ، وتَكونَ تلك الأحرُفُ في صُلبِ الكَلمةِ مُتَّصِلةً بها أو مُنفَصِلةً عنها، بينَما اقتَرَحَ آخَرونَ أن يَكونَ لكُلِّ حَرفٍ أربَعةُ صُوَرٍ لكِتابَتِه؛ صورةٌ له مَفتوحًا، وثانيةٌ مَكسورًا، وثالثةٌ مَضمومًا، ورابِعةٌ ساكِنًا [405] يُنظر: ((المناهج المصطلحية مشكلاتها التطبيقية ونهج معالجتها)) صافية زفنكي (157-158). .
وقد كانت أسبابُ دَعوتِهم تلك مُتَمَثِّلةً في:
- صُعوبةِ كِتابَتِها؛ لتَشابُهِ الحُروفِ؛ مِثل: الدَّالِ والذَّالِ والرَّاءِ والزَّايِ.
- نَقطُ الحُروفِ الذي يُؤَدِّي إلى التَّصحيفِ والغَلَطِ.
- ضَبطُ بِنيةَ الكَلمةِ وأواخِرِها [406] يُنظر: ((فقه اللغة: مفهومه، موضوعاته، قضاياه)) لمحمد إبراهيم الحمد (469-470). .
إلَّا أنَّ الانتِقاداتِ والرُّدودَ التي لاقَت أصحابَ هذه الدَّعَواتِ ثَنَتهم عن أفكارِهم، وتَبَيَّنَ لهم استِحالةُ ذلك الأمرِ، وكان أحَدُ هؤُلاءِ الدكتور علي عبد الواحد وافي؛ فكان قد تَحمَّس كثيرًا لفِكرةِ تَيسيرِ الخَطِّ العَرَبيِّ، وساقَ على ذلك عَدَدًا منَ الاقتِراحاتِ، إلَّا أنَّه في آخِرِ طَبعةٍ من كِتابِه ((فِقْه اللُّغةِ)) أشارَ في الحاشيةِ فقال: (كان هذا مَوقِفي في الأربَعينيَّاتِ، ولَكِنِّي الآنَ (ديسَمبِرُ 1972م) لعِدَّةِ اعتِباراتٍ، من أهمِّها: ما يوجَدُ بَينَ هذه الطَّريقةِ والطَّريقةِ الحاليَّةِ من خِلافٍ غَيرِ يَسيرٍ، أصبَحْتُ مِمَّن يُؤَثِرونَ إبقاءَ الرَّسمِ العَرَبيِّ على حالِه، مع الاكتِفاءِ بشَكلِ جَميعِ الكَلِماتِ للمُبتَدِئينَ، والاقتِصارِ على شَكلِ الكَلماتِ التي تُثيرُ اللَّبسَ لغَيرِ المُبتَدِئينَ) [407] ((فقه اللغة)) لعلي وافي (ص: 204). .
وقد رَدَّ الأُستاذُ مَحمود شاكِر على دَعوى كِتابةِ اللُّغةِ العَربيَّةِ باللَّاتينيَّةِ في مَقالٍ طَويلٍ بعُنوانِ: (الحُروفُ اللَّاتينيَّةُ والعَرَبيَّةُ)، وذَكَرَ كلامًا طَويلًا كثيرًا، كان منه أن طلَبَ من صاحِبِ هذه الدَّعوةِ أن يَعمدَ إلى فِعلٍ مِثل "قامَ"، ثُمَّ يَأتيَ باشتِقاقاتِه المُختَلفةِ منَ الفِعل والاسمِ، ثُمَّ يُدخِلَ عليه اللَّواحِقَ التي تَلحَقُه منَ الضَّمائِرِ والحُروفِ أوَّلَه وآخِرَه؛ ليَنظُرَ إلى كم صورةٍ يَتَفَرَّعُ هذا الفِعلُ، ثُمَّ قال: (فإذا عَرفَ من لا يَستَكبرُ عِنادًا ولجاجًا أنَّ ذلك مِمَّا يُضِلُّ ويُعَمي، نَظَرَ فإذا هو يَرى أنَّ أوَّلَ التَّضليلِ في رَسمِ العَرَبيَّةِ باللَّاتينيَّةِ: أن يَضيعَ على القارِئِ تُبَيُّنُ اشتِقاقِ اللَّفظِ الذي يَقرَؤُه، فإذا عَسُرَ عليه ذلك صارَ اللَّفظُ عِندَه بمَنزِلةِ المَجهولِ الذي لا نَسَبَ له، وصارَ فرضًا عليه أن يَعمدَ إلى رَسمِ المادَّةِ الواحِدةِ من اللُّغةِ في جَميعِ صُوَرِها التي تَكونُ في السِّياقِ العَرَبيِّ، ثُمَّ عليه أن يُحاوِلَ تَقريبَ الشَّبَه بالذَّاكِرةِ الواعيةِ، ثُمَّ عليه أن يحفَظَ مَعانيَ ذلك كُلِّه، فإذا كان هذا شَأنَه في المادَّةِ الواحِدةِ، فما ظَنُّكَ باللُّغةِ كُلِّها؟! يومَئِذٍ تُصبِحُ العَرَبيَّةُ أجهدَ لطالبِها منَ اللُّغةِ الصِّينيَّةِ!
نَعَم، وإذا ضَلَّ عن تَبَيُّنِ الاشتِقاقِ والتَّصريفِ، فقد ضَلَّ عنِ العَرَبيَّةِ كُلِّها؛ لأنَّها لم تُبْنَ إلَّا عليهما، وهيَ من هذا الوَجهِ مُخالِفةٌ لجَميعِ اللُّغاتِ التي تُكتَبُ بالحَرفِ اللَّاتينيِّ؛ لأنَّ الاشتِقاقَ والتَّصريفَ يَعرِضانِ لها من قِبَلِ بناءِ الكَلمةِ كُلِّها، حتى تَختَلفَ الحَرَكاتُ على كُلِّ حَرفٍ في كُلِّ بناءٍ مُشتَقٍّ أو مُصرَّفٍ، ثُمَّ يَزيدُ على ذلك ما يَدخُلُ على الكَلمةِ من جَميعِ ضُروبِ الحُروفِ العامِلةِ وغَيرِ العامِلةِ، ثُمَّ عِلَل الإعرابِ والبِناءِ والحَذْف... إلى آخِرِ ما يَعرِفُه كُلُّ مُبتَدِئٍ في العَرَبيَّةِ.
فإذا كان هذا هكذا، وكان التَّضليلُ كائِنًا، وكان هذا التَّضليلُ واقِعًا في أُصولِ الاشتِقاقِ والتَّصريفِ، الذي يَرُدُّ القارِئَ إلى أصلِ المادَّةِ اللُّغَويَّةِ، وإذا كان الضَّلالُ عن أصلِ المادَّةِ ضَلالًا عن مَعناها، فأيُّ السَّبيلَينِ أغمَضُ وأضَلُّ: سبيلُ عُسرِ القِراءةِ لعَدَمِ حُروفِ الحَرَكاتِ، أم سبيلُ امتِناعِ الفَهمِ لامتِناعِ الاهتِداءِ إلى أصلِ الاشتِقاقِ؟!
ونَحنُ لا نُشَكُّ في أنَّ كُلَّ رَجُلٍ ذي بَصيرةِ حَسَنِ المَنطِقِ، سيَجِدُ في هذا وحدَه منَ المِشَقَّةِ والعُسْرِ ما لا يَدَعُ اختيارًا في الاعتِرافِ بالضَّلالِ المُطْبِقِ الذي تَجلِبُه الكِتابةُ بالحَرفِ اللَّاتينيِّ، وأنَّ التَّصحيفَ والتَّحريفَ الذي يَدخُلُ الحَرفَ العَرَبيَّ أهوَنُ بكَثيرٍ منَ الاختِلالِ والفَسادِ والمَضَلَّةِ والعَبثِ التي يَجرُّها الحَرفُ اللَّاتينيُّ) [408] ((جمهرة مقالات محمود شاكر)) (1/261). .
ويَظهَرُ عَوَارُ تلك الدَّعاوى بمُقارَنَتِها باللُّغاتِ الأُخرى؛ فإنَّ في اللُّغاتِ الأُخرى منَ الصُّعوبةِ في الخَطِّ والرَّسمِ أضعافَ ما في العَرَبيَّةِ، مع أنَّ مُطابَقةَ الصَّوتِ المَسموعِ للصُّورةِ المَقروءةِ أوضَحُ في العَرَبيَّةِ منها في الإنجِليزيَّةِ والفَرَنسيَّةِ اللَّتَينِ يُتقِنُهما مُعظَمُ المُتَذَمِّرينَ وصانِعي الفِتَنِ منَ الهدَّامِينَ، فكَم فيهما منَ الأصَواتِ التي لا تُنطَقُ، سواءٌ في أوَّلِ الكَلِمةِ أو وسَطِها أو آخِرِها!
كما أنَّ الصَّوتَ الواحِدَ له في الإنجِليزيَّةِ أكثَرُ من صورةٍ، قد تَصِلُ أحيانًا إلى سِتِّ صُوَرٍ، لا يُمَيِّزُها عن بَعضِها مَنطِقٌ ولا قَواعِدُ، مِثلُ استِخدامِ الحُروفِ المُتَحَرِّكةِ في رَسمِ الياءِ الطَّويلةِ؛ حيث تَأتي بأكثَرَ مِن صورةٍ: (e،y،ie،ei،ea،ee)، ولا يُقابِلُ كُلَّ تلك الصُّوَرِ في العَرَبيَّةِ إلَّا رَسمُ الياءِ فحَسبُ!
وحَرفُ الكافِ في العَرَبيَّةِ مَثَلًا يُقابِلُه في الإنجِليزيَّةِ: (k،c،ck،q،ch)، إلى آخِرِ ذلك، مِمَّا يَتَبَيَّنُ به أنَّ العَرَبيَّةَ ورَسمَها أفضَلُ وأسهلُ بكَثيرٍ من رَسمِ اللَّاتينيَّةِ [409] يُنظر: ((فقه اللغة: مفهومه، موضوعاته، قضاياه)) لمحمد إبراهيم الحمد (ص: 477). .
ومِمَّا يَدفَعُ أيضًا تلك الدَّعاوى:
- أنَّ الخَطَّ العَربيَّ موافِقٌ لطَبيعةِ اللُّغةِ العَربيَّةِ؛ فلَو أرَدْنا استِخدامَ الحُروفِ اللَّاتينيَّةِ بَدَلًا منَ الحُروفِ العَربيَّةِ، لتَحتَمَّ علينا إيجادُ حُروفٍ وأشكالٍ جَديدةٍ ليست في اللَّاتينيَّةِ؛ لتَتَلاءمَ مع الأصَواتِ التي لا مَثيلَ لها في اللَّاتينيَّةِ؛ مِثل: الجيمِ والحاءِ والخاءِ، والشِّينِ والطَّاءِ والظَّاءِ والصَّادِ والضَّادِ، والعَينِ والغَينِ.
- ما مَصيرُ الكُتُبِ المُدَوَّنةِ باللُّغةِ العَربيَّةِ؟ هل ستَندَثِرُ أم ستَحتاجُ إلى إعادةِ كِتابَتِها بالخَطِّ الجَديدِ؟ وهل ستَفي تلك الحُروفُ بالغَرَضِ؟ وكَيفَ سيُكتَبُ القُرآنُ الكَريمُ؟
- هذا القَولُ يَحكُمُ على الخَطِّ العَرَبيِّ باندِثارِه وزَوالِ فُنونِه، وفي الخَطِّ العَرَبيِّ مَزيَّةٌ لا توجَدُ في غَيرِه من إمكانيَّةِ زَخرَفَتِه على وُجوهٍ عِدَّةٍ.
- الأعجَميُّ إذا أرادَ أن يَتَعَلَّمَ العَربيَّةَ، هل سيَتَعَلَّمُها بالخَطِّ اللَّاتينيِّ المُعَدَّلِ، أم بالخَطِّ العَرَبيِّ المَهجورِ؟ [410] يُنظر: ((فقه اللغة: مفهومه، موضوعاته، قضاياه)) لمحمد إبراهيم الحمد (ص: 480).

انظر أيضا: