موسوعة اللغة العربية

الفرع الثَّاني: النَّظَريَّةُ الثَّانيةُ: اللُّغةُ الأُولى اصطِلاحٌ ومُواضَعةٌ


وهي تُقَرِّرُ: أنَّ اللُّغةَ وُجِدت واستُحدِثَت بالوَضعِ والاتِّفاقِ، وارتِجالِ كلماتها ارتِجالًا.
وفَسَّرَ ابنُ جِنِّي هذه النَّظَريَّةَ بقَولِه: (وذلك كأن يَجتَمِعَ اثنانِ أو ثَلاثةُ حُكَماءَ فصاعِدًا، فيَحتاجوا إلى الإظهارِ عنِ المَعلوماتِ فيَضَعوا لكُلِّ واحِدٍ منها اسمًا ولَفظًا إذا قيل عُرِفَ به من مُسَمَّاه ليَتميَّزَ به مِن غَيرِه، وليَفيَ بذِكرِه عن إحضارِه إلى رؤيتِه، فيَكونَ ذلك أقرَبَ وأسهلَ من إحضارِه للوصول إلى الغَرَضِ في إظهارِ حالِه، بَل قد يتطلَّبُ الأمرُ في كثيرٍ منَ الأحوالِ إلى ذِكرِ ما لا يُمكِنُ إحضارُه ولا إدناؤُه، كالفاني، وحالِ اجتِماعِ التَّضادَّ على المَحَلِّ الواحِدِ كيفَ يَمكنُ ذلك لَو جازَ؟ [12] ((الخصائص)) لابن جني (1/ 45). .
وقد شَرَحَ ابنُ جِنِّي طَريقةَ المُواضَعةِ منَ الحُكَماءِ، فقال: (فكَأنَّهم جاؤُوا إلى رجُلٍ من بَني آدَمَ، فأومَؤوا إليه، وقالوا: إنسانٌ إنسانٌ إنسانٌ، فعندَ سماعِ هذا اللَّفظِ عُلِمَ أنَّ المُرادَ به هذا الضَّربُ منَ المَخلوقِ، وإن أرادوا سِمةَ عَينِه أو يَدِه أشاروا إلى ذلك، فقالوا: يَدٌ عَينٌ رَأسٌ قَدَمٌ، أو نَحوَ ذلك. فمَتى سُمِعَ اللَّفظُ من هذا عُرِفَ مَعناه، وغيرُ ذلك منَ الأسماءِ والأفعالِ والحُروفِ) [13] ((الخصائص)) لابن جني (1/45). .
ويَشرَحُ ابنُ جِنِّي طَريقةَ نَقْلِ هذه الأسماءِ من لُغةٍ إلى لُغةٍ، فيَقولُ: (ثُمَّ لَكَ من بَعدِ ذلك أن تَغير هذه المُواضَعةَ إلى اخرى فتَقولَ: الذي اسمُه إنسانٌ فلْيُضعَ مَكانَه مَرْد "بمَعنى إنسانٍ في الفارِسيَّةِ"، والذي اسمُه رَأسٌ فيُجعَلُ مَكانَه سَر "بمَعنى الرَّأسِ في الفارِسيَّةِ" وعلى هذا بَقيَّةُ الكَلامِ وكَذلك لَو بُدِئَتِ اللُّغةُ الفارِسيَّةُ فوقَعَتِ المواضَعةُ عليها لجازَ أن تُنقَلَ ويُولَّدَ منها لُغاتٌ كثيرةٌ منَ الرُّوميَّةِ والزِّنجيَّةِ وغَيرِهما) [14] ((الخصائص)) لابن جني (1/ 45-46). .
ثُمَّ ضَرَبَ المِثَلَ لذلك، فقال: (ومن خلال ذلك ما نُشاهِدُه الآنَ منِ ابتكاراتِ الصُّنَّاعِ لأسماءِ الآلاتِ التي صنعوها، كالنَّجَّارِ والصَّائِغِ، والحائِكِ، والبَنَّاءِ الذى يبني، وكَذلك المَلَّاحُ) [15] ((الخصائص)) لابن جني (1/ 46). .
وهذه الفِكرةُ التي قام بشرحها ابنُ جِنِّي ذَكرَها أيضًا منَ المُفَكِّرِينَ الغَربيِّينَ: "آدَم سِميث"، و"ريد" و"جان جاك روسو" و"دجلد إستيوارت"، وجَعلَها "جان جاك روسو" تَوضيحًا لنَشأةِ اللُّغةِ؛ حيثُ ذَهبَ إلى أنَّ النَّاسَ اجتَمَعوا في القَديمِ ليضعوا لُغةً وليتَّفِقوا عليها، وهذا التَّوافُقُ إنَّما هو من خلالِ العَقدِ الاجتِماعيِّ [16] يُنظر: ((فقه اللغة في الكتب العربية)) لعبده الراجحي (ص: 86). .
نَقْدُ هذه النَّظَريَّةِ:
لَم تَلْقَ هذه النَّظَريَّةُ قبولًا كبيرًا، بَل وجِّهَت إليها انتِقاداتٌ عِدَّةٌ؛ لأنَّها ليس لها أيُّ سَنَدٍ يُعقَلُ، أو كلاميٍّ أو تاريخيٍّ منقولٍ، بَل إنَّ ما تُقَرِّرُه ليَتَعارَضُ مع النَّواميسِ العامَّةِ التي عليها النُّظُمُ الاجتِماعيَّةُ؛ فقيامُنا بهذه النُّظُمِ أنَّها تنشَأُ بالتَّدريجِ من تِلقاءِ نَفسِها [17] يُنظر: ((علم اللغة)) لوافي (ص: 98). .
هذا، إلَّا أنَّ التَّواضُعَ على التَّسميةِ يَتَوقَّفُ -في كثيرٍ من مَظاهِرِه- على لُغةٍ صَوتيَّةٍ يَتَفاهمُ بها الأشخاصُ وما يَجعَلُه أصحابُ هذه اللُّغةِ مَنشأً لِلُّغةِ يَتَوقَّفُ هو نَفسُه على أن توجَدَ من قَبلُ.
ولم تَكُن هناكَ لُغةٌ قَبلَ أن يَتَواضَعوا هم على لُغةٍ، فكَيفَ تَمَّ التَّفاهمُ بَيْنَهم على أن يَجتَمِعوا؟ بَل كيفَ وصَلَ هؤُلاءِ الحَكَماءُ لأن يَكونوا حُكَماءَ دونَ لُغةٍ مَوجودةٍ بَيْنَهم؟! [18] يُنظر: ((فقه اللغة في الكتب العربية)) لعبده الراجحي (ص: 86). .
وقد سجَّلَ ابنُ جِنِّي تَرَدُّدَه بَينَ أنَّ اللُّغةَ تَوقيفٌ أمِ اصطِلاحٌ، فقال: (واعلَمْ فيما بَعدُ أنَّني على تَقادُمِ الوقتِ دائِمُ التَّنقيرِ والبَحثِ عن هذا المَوضِعِ، فأجِدُ الدَّواعيَ والخَوالجَ قَويَّةَ التَّجاذُبِ لي مُختَلفةَ جِهاتِ التَّغَوُّلِ على فِكري وذلك أنَّني إذا تَأمَّلْتُ حالَ هذه اللُّغةِ الشَّريفةِ الكَريمةِ اللَّطيفةِ، وجَدْتُ فيها منَ الحِكمةِ والدِّقَّةِ والإرهافِ والرِّقَّةِ ما يَملِكُ عليَّ جانِبَ الفِكرِ حتى يَكادَ يَطمَحُ به أمامَ غَلوةِ السِّحرِ فمن ذلك ما نَبَّه عليه أصحابُنا رَحِمُهمُ الله ومنه ما حَذَوتُه على أمثِلَتِهم فعَرَفتُ بتَتابُعِه وانقيادِه وبُعْدِ مَرامِيه وآمادِه صِحَّةَ ما وُفِّقوا لتَقديمِه منه، ولُطْفِ ما أُسعِدوا به وفَرَقَ لهم عنه، وانضافَ إلى ذلك وارِدُ الأخبارِ المَأثورةِ بأنَّها من عِندِ اللهِ عزَّ وجَلَّ، فقَوِيَ في نَفسي اعتِقادُ كونِها تَوفيقًا منَ اللهِ سُبحانَه وأنَّها وحيٌ.
ثُمَّ أقولُ في ضَدِّ هذا: كما وقَعَ لأصحابِنا ولَنا وتَنبَّهوا وتَنَبَّهْنا على تَأمُّلِ هذه الحِكمةِ الرَّائِعةِ الباهِرةِ، كذلك لا نُنكِرُ أن يَكونَ اللهُ تَعالى قد خَلقَ مَن قَبْلَنا -وإن بَعُدَ مَداه عنَّا- مَن كان ألطَفَ منَّا أذهانًا، وأسرَعَ خَواطِرَ، وأجرَأَ جَنانًا، فأقِفُ بَينَ تَينِ الخَلَّتَينِ حَسيرًا وأكاثِرُهما فأَنكَفِئُ مَكثورًا [19] المَكْثور: المَغْلوب وهو الذي تَكاثَر عليه النَّاسُ فقَهَروه، يُنظر: ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (4/ 153). . وإنْ خَطرَ خاطِرٌ فيما بَعدُ يُعلِّقُ الكَفَّ بإحدى الجِهتَينِ ويَكُفُّها عن صاحِبَتِها قُلْنا به وبالله التَّوفيقُ) [20] ((الخصائص)) لابن جني (1/ 48). .

انظر أيضا: