المَبْحَثُ الأوَّلُ: الاسْتِعارةُ في المَجازِ المُركَّبِ
تُعرَّفُ الاسْتِعارةُ في المَجازِ المُركَّبِ بأنَّها الاسْتِعارةُ التَمثيليَّةُ، وهِي اسْتِعارةٌ طَرفاها مُركَّبانِ، أو هي: تَشْبيهُ إحْدى صُورتَينِ مُنتزعتَينِ مِن أمرَين أو أمُورٍ، بالأخرى، ثمَّ إدْخالُ المُشبَّهِ في جنْسِ المُشبَّهِ به مُبالَغةً في التَّشْبيهِ، فتُذكَرُ بلفْظِها مِن غيرِ تَغييرٍ في الوُجوهِ.
فمنْها قولُك لمَنْ يَصنَعُ عمَلًا لا قِيمَةَ له: "أنت تَنفُخُ في غيرِ فحْمٍ"، حيثُ شبَّهتَه في صَنيعِه ذلك بمَنْ يَنفُخُ عبَثًا في غيرِ فحْمٍ، فلو نفَخ طِيلةَ عُمرِه لَما اشْتعَل المَنفوخُ فيه نارًا.
ومنه قولُ الرَّمَّاحِ بنِ مَيَّادةَ: الطويل
ألَمْ أكُ في يُمْنى يَديكَ جعَلتَني
فلا تَجْعَلَنِّي بعدَها في شِمالِكا
صوَّر الشَّاعرُ نفْسَه بعدَ أنْ كان مُقرَّبًا مَحْبوبًا مِنَ المُخاطَبِ ثمَّ صار بعدَها على العكْسِ، بمَنْ كان في اليَمينِ ثمَّ انْتَقل إلى الشِّمالِ، واليَمينُ رمْزُ البَركَةِ واليُمْنِ، وعكْسُها الشِّمالُ، أخْذًا مِن تَناوُلِ الكِتابِ باليَمينِ والشِّمالِ يومَ القِيامَةِ.
ومنه قولُ
المُتَنبِّي: الطويل
وفي تعَبٍ مَنْ يَحسُدُ الشَّمسَ نُورَها
ويَجهَدُ أنْ يأتي لَها بضَريبِ
حيثُ صوَّر
المُتَنبِّي حالَ مَنْ يُحاوِلُ حسَدَ العُظَماءِ والتَّقليلَ مِن إنْجازاتِهم، والزَّعمَ أنَّ لهم نَظائِرَ وأشْباهًا، بحالِ مَنْ يَحسُدُ الشَّمسَ أو يُحاوِلُ أنْ يأتيَ لها بمَثيلٍ. وقد حذَف المُشبَّهَ، وهُو مَعْلومٌ مِنَ السِّياقِ.
ومنها قولُك لرجُلٍ دَميمٍ تكلَّم بكَلامٍ حسَنٍ: "عسَلٌ طيِّبٌ في ظَرفِ سُوءٍ" فإنَّها تَصويرٌ لِهذا الكَلامِ بهذه الصُّورةِ، وهِي تَناقُضُ الحالِ بينَ حُسْنِ الكَلامِ وسُوءِ المُتكلِّمِ، بحالِ العسَلِ في إناءٍ سيِّئٍ.
ثم كثُرَ اسْتِعمالُ تلك الاسْتِعاراتِ في الأمْثالِ؛ كقَولِهم: "الصَّيفَ ضَيَّعتِ اللَّبَنَ"، يُضرَبُ لمَنْ فرَّط في تَحْصيلِ أمرٍ في زمَنٍ يُمكِنُه الحُصولُ عليه فيه، ثمَّ طلَبَه في زمَنٍ لا يُمكِنُه الحُصولُ عليه، أيْ: إنَّك في حالِك تلك أشْبهُ بالمَرأةِ الَّتي قيل لها: "الصَّيفَ ضَيَّعتِ اللَّبَنَ"
.
وكقَولِهم: "أحَشَفًا وسُوءَ كِيلَةٍ"
، وهُو مَثَلٌ يُضرَبُ لمَنْ ظُلِم مِن وجْهَين، كأنَّه يقولُ: صَنيعُك هذا كصَنيعِ مَنْ قيل له: أحَشَفًا وسُوءَ كِيلَةٍ، فحذَف المُشبَّهَ وأداةَ التَّشْبيهِ.
وقولِهم: "قَطعَتْ جَهيزَةُ قوْلَ كلِّ خَطيبٍ"
يُضرَبُ لمَنْ أتى بقولٍ فصْلٍ في مَسألَةٍ ما
.
وهذه الاسْتِعارةُ أبلَغُ أنْواعِ المَجازِ مُفرَدًا ومُركَّبًا؛ إذْ مَبناها تَشْبيهُ التَّمثيلِ، وقد عرَفتَ دقَّةَ مَسلَكِه مِن قِبَلِ أنَّ وجْهَ الشَّبهِ فيه يكونُ هَيئةً مُنتزَعةً مِن أشْياءَ مُتعدِّدةٍ، فالاسْتِعارةُ المَبْنيَّةُ عليه تكونُ أدقَّ أنْواعِ الاسْتِعاراتِ؛ إذ مِنَ الصُّعوبةِ بمَكانٍ أنْ تَعمِدَ إلى صُورتَينِ مُركَّبتَين مِن أجْزاءٍ عدَّةٍ فتُحاولَ الرَّبطَ بينَهما، وتَحصُرَ جِهاتِ اتِّحادِهما، وتُشبِّهَ إحداهما بالأخْرى، فلا يَخْفى ما أنت مُحتاجٌ إليه في المَهارَةِ حِينَئذٍ، كما لا يُنكَرُ الأثَرُ الَّذي تراه في مُخاطِبِك إذا أدلَيتَ إليه في مَعرِضِ كَلامِك بمَثَلٍ، فكم تَجدُ لديه مِنَ الأرْيحيَّةِ، وكيف يُغني إيجازُ المَثَلِ عنِ الشَّرحِ والإسْهابِ!