المطلبُ الثالثُ: هَل يُمكِنُ أن يَأتيَ بَعدَ الصَّحابةِ أحَدٌ أفضَلُ مِن بَعضِهِم؟
قال عِياضٌ: (ذَهَبَ أبو عُمَرَ يَعني
ابنَ عَبد البَرِّ... وغَيرُهُ في فَضلِ مَن يَأتي ومَن في آخِرِ الزَّمانِ إلى أنَّه قَد يَكونُ فيمَن يَأتي بَعدَ الصَّحابةِ من هو أفضَلُ مِمَّن كانَ من جُملةِ الصَّحابةِ، وأنَّ قَولَهُ صَلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم:
((خَيرُكم قَرْني ))
عَلى الخُصوصِ وإن كانَ مُخرَجُه العُمومَ، وأنَّ قَرنَهُ عَلى الجُملةِ خَيرُ القُرونِ. أو مَعناه: خَيرُ النَّاسِ في قَرني. يَعني السَّابِقينَ الأوَّلينَ مِنَ المُهاجِرينَ والأنصارِ ومَن سَلكَ مَسلَكَهم، فهَؤُلاءِ أفضَلُ الأمَّةِ والمُرادُ بالحَديثِ. وأمَّا من خَلَّطَ في زَمانِه وإن رَآهُ وصَحِبَهُ ولَم تَكُنْ لهُ سابِقةٌ ولا أثَرٌ في الدِّينِ، فقَد يَكونُ في القُرونِ الَّتي تَأتي بَعدَ القَرنِ الأوَّلِ من يَفْضُلُهم عَلى ما دَلَّتْ عليه عِندَهُ الآثارُ، وذَهَبَ إلى هَذا غَيرُه مِنَ المُتَكَلِّمينَ عَلى المَعاني، وذَهَبَ مُعظَمُ العُلَماءِ إلى خِلافِ هَذا، وأنَّ من صَحِبَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَرَّةً من عُمرِه، وحَصَلَت لهُ مَزيَّةُ الصُّحبةِ، أفضَلُ من كُلِّ مَن يَأتي بَعدَهُ، وأنَّ فضيلةَ الصُّحبةِ لا يَعْدِلُها عَمَلٌ، قالوا: وذلك فضلُ اللهِ يُؤتيه من يَشاءُ، واحتَجُّوا بقَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((لو أنفَقَ أحَدُكم مِثلَ أُحُدٍ ذَهَبًا ما بَلَغَ مُدَّ أحَدِهِم ولا نَصيفَهُ ))
، وحُجَّةُ الآخَرِ عن هَذا أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال لِبَعضِهِم عن بَعضٍ، فدَلَّ أنَّ ذلك لِلخُصوصِ لا لِلعُمومِ)
.
وقال
العَلائيُّ: (ذَهَبَ بَعضُهم إلى أنَّه لا يَلزَمُ من تَفضيلِ مَجموعِ القَرنِ الأوَّلِ عَلى مَن بَعدَه تَفضيلُ كُلِّ فردٍ فردٍ مِنَ القَرنِ الأوَّلِ، عَلى كُلِّ فَردٍ فَردٍ مِمَّن بَعدَهم، ورَأَوا أنَّ في آخِرِ الزَّمانِ مَن يَكونُ أفضَلَ من بَعضِ آحادِ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم. وهَذا اختيارُ
ابنِ عَبدَ البَرِّ و
القُرطُبيِّ؛ لِلجَمعِ بَينَ جَميعِ الأحاديثِ، واستَثنى
ابنُ عَبدِ البَرِّ أهلَ بَدرٍ والحُدَيبيَةِ؛ لِلتَّنصيصِ عَلى فضلِهِم عَلى كُلِّ هَذِه الأمَّةِ)
.
وقال
الشَّوكانيُّ: (الَّذي يُستَفادُ من مَجموعِ الأحاديثِ أنَّ لِلصَّحابةِ مَزيَّةً لا يُشارِكُهم فيها من بَعدَهُم، وهيَ صُحبَتُهُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ومُشاهَدَتُهُ والجِهادُ بَينَ يَدَيه وإنفاذُ أوامِرِه ونواهيه، ولِمَن بَعدَهم مَزيَّةٌ لا يُشارِكُهمُ الصَّحابةُ فيها، وهيَ إيمانُهم بالغَيبِ في زَمانٍ لا يَرونَ فيه الذَّاتَ الشَّريفةَ الَّتي جَمَعَت مِنَ المَحاسِنِ ما يَقودُ بزِمامِ كُلِّ مُشاهِدٍ إلى الإيمانِ إلَّا من حَقَّتْ عليه الشَّقاوةُ.
وأمَّا باعتِبارِ الأعمالِ فأعمالُ الصَّحابةِ فاضِلةٌ مُطلَقًا من غَيرِ تَقييدٍ بحالةٍ مَخصوصةٍ، كما يَدُلُّ عليه:
((لو أنفَقَ أحَدُكم مِثلَ أُحُدٍ)) الحَديث. إلَّا أنَّ هَذِه المَزيَّةَ هيَ لِلسَّابِقينَ مِنهم؛ فإنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خاطَبَ بهَذِه المَقالةِ جَماعةً مِنَ الصَّحابةِ الَّذينَ تَأخَّرَ إسلامُهم كما يُشعِرُ بذلك السَّبَبُ، وفيه قِصَّةٌ مَذكورةٌ في كُتُبِ الحَديثِ، فالَّذينَ قال لهمُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((لو أنفَقَ أحَدُكم مِثلَ أُحُدٍ ذَهَبًا)) هم جَماعةٌ مِنَ الصَّحابةِ الَّذينَ تَأخَّرَت صُحبَتُهم، فكانَ بَينَ مَنزِلةِ أوَّلِ الصَّحابةِ وآخِرِهِم أنَّ إنفاقَ مِثلِ أُحُدٍ ذَهَبًا من مُتَأخِّريهِم لا يَبلُغُ مِثلَ إنفاقِ نِصفِ مُدٍّ من مُتَقَدِّميهِم. وأمَّا أعمالُ مَن بَعدَ الصَّحابةِ فلَم يَرِدْ ما يَدُلُّ عَلى كونِها أفضَلَ عَلى الإطلاقِ، إنَّما ورَدَ ذلك مُقَيَّدًا بأيَّامِ الفِتنةِ وغُربةِ الدِّينِ حَتَّى كانَ أجرُ الواحِدِ يَعْدِلُ أجرَ خَمسينَ رَجُلًا مِنَ الصَّحابةِ، فيَكونُ هَذا مُخَصِّصًا لِعُمومِ ما ورَدَ في أعمالِ الصَّحابةِ؛ فأعمالُ الصَّحابةِ فاضِلةٌ، وأعمالُ مَن بَعدَهُم مَفضولةٌ، إلَّا في مِثلِ تِلكَ الحالةِ، ومِثلِ حالةِ من أدرَكَ المَسيحَ إن صَحَّ ذلك المُرْسَلُ
، وبِانضِمامِ أفضَليَّةِ الأعمالِ إلى مَزيَّةِ الصُّحبةِ يَكونونَ خَيرَ القُرونِ، ويَكونُ قَولُه:
((لا يُدرى خَيرٌ أوَّلُهُ أم آخِرُهُ))
باعتِبارِ أنَّ في المُتَأخِّرينَ مَن يَكونُ بتِلكَ المَثابةِ من كونِ أجرِ خَمسينَ هَذا باعتِبارِ أجورِ الأعمالِ، وأمَّا باعتِبارِ غَيرِها فلِكُلِّ طائِفةٍ مَزِيَّةٌ كما تَقَدَّمَ ذِكرُهُ، لكِنَّ مَزيَّةَ الصَّحابةِ فاضِلةٌ مُطلَقًا باعتِبارِ مَجموعِ القَرنِ؛ لِحَديثِ:
((خَيرُ القُرونِ قَرني))
فإذا اعتَبَرْتَ كُلَّ قَرنٍ قَرنًا ووازَنْت بَينَ مَجموعِ القَرنِ الأوَّلِ مَثَلًا ثُمَّ الثَّاني ثُمَّ كذلك إلى انقِراضِ العالَمِ، فالصَّحابةُ خَيرُ القُرونِ، ولا يُنافي هَذا تَفضيلَ الواحِدِ من أهلِ قَرنٍ أوِ الجَماعةِ عَلى الواحِدِ أوِ الجَماعةِ من أهلِ قَرنٍ آخَرَ)
.