الموسوعة العقدية

المبحثُ الرَّابِعُ: دَليلُ الفِطرةِ

إنَّ الإنسانَ لا يَستَطيعُ أن يَعيشَ بمُفرَدِه وحيدًا مُستَقِلًّا عنِ الآخَرِين، بَل لا بُدَّ أن يَعيشَ مَعَهم حَتَّى تَستَقيمَ أمورُ حَياتِه، وتَتَحَقَّقَ مَصالِحُه، وهذه المُخالَطةُ قد يَنتُجُ عنها أحيانًا تَعارُضُ مَصالِحِه مَعَ مَصالحِهم، ويَحدُثُ بسَبَبِها الاحتِكاكُ بَينَهُ وبَينَهم، ويَحصُلُ التنازُعُ، فلا بُدَّ من أميرٍ يَختَصِمُ إليه النَّاسُ، ويَرتَضونَهُ لِيَحْكُمَ بَينَهم ويُنَظِّمَ شُؤونَ حَياتِهم؛ فكان تَنصيبُ الإمامِ أمرًا ضَروريًّا للمُحافَظةِ على حُقوقِ النَّاسِ، وضَمانِ استِقرارِ الحَياةِ، ودَفعِ الفوضَى وأضرارِها؛ لأنَّ في عَدَمِ اتِّخاذِ إمامٍ مُعَيَّنٍ من الأضرارِ والفوضَى ما لا يَعلمُه إلَّا اللَّهُ، ودَفعُ الضَّرَرِ وحِمايةُ الضَّروريَّاتِ الخَمسِ -الدِّينِ، والنَّفسِ، والعِرْضِ، والمالِ، والعَقلِ- واجِبٌ شَرعًا، ومن مَقاصِدِ الشَّريعةِ حِفظُها [1268] يُنظر: ((الموافقات)) للشاطبي (2/20). ، وهذا لا يَتِمُّ إلَّا بإقامةِ إمامٍ للمُسلِمينَ.
قال أحمَدُ بنُ حَنبَلٍ: (الفِتنةُ إذا لم يَكُن إمامٌ يَقومُ بأمرِ النَّاسِ) [1269] يُنظر: ((السنة)) للخلال (1/81)، ((الأحكام السلطانية)) لأبي يعلى (ص: 19). .
وقال ابنُ تَيمِيَّةَ: (كُلُّ بني آدَمَ لا تَتِمُّ مَصلَحَتُهم لا في الدُّنيا ولا في الآخِرةِ إلَّا بالاجتِماعِ والتعاوُنِ والتناصُرِ؛ فالتعاوُنُ على جَلبِ مَنافِعِهم، والتناصُرُ لدَفعِ مَضارِّهم؛ ولِهذا يُقالُ: الإنسانُ مَدَنيٌّ بالطَّبعِ، فإذا اجتَمَعوا فلا بُدَّ لَهم من أمورٍ يَفعَلونَها يَجتَلِبونَ بها المَصلَحةَ، وأمورٍ يَجتَنِبونَها لِما فيها من المَفسَدةِ، ويَكونونَ مُطيعِين للآمِرِ بتِلكَ المَقاصِدِ، والنَّاهي عن تِلكَ المَفاسِدِ، فجَميعُ بني آدَمَ لا بُدَّ لَهم من طاعةِ آمِرٍ وناهٍ، فمن لم يَكُن من أهلِ الكُتُبِ الإلهيَّةِ ولا من أهلِ دينٍ، فإنَّهم يُطيعونَ مُلوكَهم فيما يَرَونَ أنَّه يَعودُ بمَصالِحِ دُنياهم،  مُصيبينَ تارّةً، ومُخطِئينَ أُخرَى) [1270] يُنظر: ((الحسبة في الإسلام، أو وظيفة الحكومة الإسلامية)) (ص: 7). .
واتِّباعُ قائِدٍ مُعَيَّنٍ لَيسَ مِمَّا فطرَ اللَّهُ عليه بني الإنسانِ فحَسبُ، بَل يُشارِكُهم في ذلك بَعضُ الحَيَواناتِ والحَشَراتِ، فالإبلُ عادةً ما تَتبَعُ قائِدَها (الجَمَلُ الفَحلُ) فتَسيرُ مَعَهُ حَيثُ سار؛ ولِذلك لا يَهتَمُّ راعي الإبلِ إلَّا بتَوجيه هذا القائِدِ، ومن ثَمَّ تَتبَعُه البَقيَّةُ، وكُلٌّ من النَّحلِ والنَّملِ يَتَّخِذُ لَهُ (مَلِكًا) [1271] يُنظر: ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 183). من سُلالةٍ مُعَيَّنةٍ يَقومُ بحِمايَتِه وتَوفيرِ ما يَحتاجُه، ويَتبَعُه حَيثُ كان، فكَيفَ بالإنسانِ الَّذي مَنحَهُ اللَّهُ العَقلَ، وجَعلَه يُدرِكُ الخَطَأَ من الصَّوابِ، ويَعرِفُ ما يَنفَعُه مِمَّا يَضُرُّه [1272] يُنظر: ((الإمامة العظمى عند أهل السنة والجماعة)) للدميجي (ص: 45). ؟!

انظر أيضا: