المَطْلَبُ الأوَّلُ: كُفرُ وقَتلُ من سَبَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
من خصائِصِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كُفرُ وقَتلُ من سَبَّه؛ ولهذا عندما أغلَظَ رجلٌ ل
أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ، قال: فقال أبو بَرْزةَ : ألا أضرِبُ عُنُقَه؟ فانتَهَره وقال: ما هي لأحدٍ بعد رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
.
وعن عُروةَ بنِ مُحَمَّدٍ عن رَجُلٍ من بلقين قال: كان رجلٌ يَشتُمُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((من يكفيني عدوًّا لي؟)) فقال
خالِدُ بنُ الوليدِ: أنا، فبعثه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقَتَلَه
.
قال
أبو يوسف: (أيُّما رجُلٍ مُسلِمٍ سَبَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أو كذَّبه أو عابه أو تنقَّصَه؛ فقد كَفَر باللهِ، وبانت منه زوجتُه، فإن تاب وإلَّا قُتِلَ)
.
وقال
إسحاقُ بنُ راهَوَيه: (أجمع المُسلِمونَ على أنَّ من سَبَّ اللهَ أو سَبَّ رَسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ... أنَّه كافِرٌ بذلك، وإن كان مقرًّا بكُلِّ ما أنزل اللهُ)
.
وقال
عبدُ اللهِ بنُ أحمدَ بنِ حَنبلٍ: (سَمِعتُ أبي يقولُ فيمن سَبَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: تُضرَبُ عُنُقُهـ)
.
وقال مُحَمَّد بن سُحْنُون: (أجمع العُلَماءُ على أنَّ شاتمَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المتنَقِّصَ له: كافِرٌ، والوعيدُ جارٍ عليه بعذابِ اللهِ له، وحُكْمُه عند الأُمَّةِ القَتْلُ، ومن شَكَّ في كُفْرِه وعَذابِه كَفَر)
.
وقال ابنُ المنذِرِ: (وأجمعوا على أنَّ من سَبَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ أنَّ له القَتْلَ)
.
وقال
ابنُ حزمٍ: (كلُّ من آذى رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فهو كافِرٌ مرتَدٌّ يُقتَلُ ولا بُدَّ)
.
وقال أيضًا: (صَحَّ بالنَّصِّ أنَّ كُلَّ من استهزأ بالله تعالى، أو بمَلَكٍ من الملائكة، أو نبيٍّ من الأنبياءِ عليهم السَّلامُ، أو بآيةٍ من القُرآنِ، أو بفريضةٍ من فرائِضِ الدِّينِ، فهي كُلُّها آياتُ اللهِ تعالى، بعد بُلوغِ الحُجَّةِ إليه، فهو كافِرٌ)
.
وقال عِياضٌ: (أجمعت الأُمَّةُ على قَتْلِ متنقِّصِه من المُسلِمين وسابِّهـ)
.
وقال أيضًا: (اعلَمْ -وفَّقَنا اللهُ وإيَّاك- أنَّ جميعَ من سَبَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أو عابه، أو ألحقَ به نقصًا في نَفْسِه أو نسَبِه أو دينِه أو خَصلةٍ مِن خصالِه، أو عَرَّض به، أو شَبَّهه بشيءٍ على طريقِ السَّبِّ له أو الإزراءِ عليه، أو التصغيرِ لشَأنِه أو الغَضِّ منه والعيبِ له؛ فهو سابٌّ له، والحُكْمُ فيه حُكمُ السَّابِّ يُقتَلُ كما نُبَيِّنُه، ولا نستثني فصلًا من فُصولِ هذا البابِ على هذا المقصَدِ، ولا يُمترى فيه تصريحًا كان أو تلويحًا، وكذلك من لعنه أو دعا عليه أو تمنَّى مَضَرَّةً له، أو نَسَبَ إليه ما لا يليقُ بمنصِبِه على طريقِ الذَّمِّ، أو عَبَث في جِهَتِه العزيزةِ بسُخْفٍ من الكلامِ وهُجرٍ وُمنكَرٍ من القولِ وزُورٍ، أو عَيَّرَه بشيءٍ مِمَّا جرى من البلاءِ والمحنةِ عليه، أو غَمَصَه ببعضِ العوارِضِ البَشَريَّةِ الجائزةِ والمعهودةِ لَدَيه، وهذا كُلُّه إجماعٌ من العُلَماءِ وأئمَّةِ الفتوى من لَدُنِ الصَّحابةِ رِضوانُ اللهِ عليهم إلى هَلُمَّ جَرًّا)
.
وقال
ابنُ قُدامة: (قَذْفُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقَذْفُ أمِّه: رِدَّةٌ عن الإسلامِ، وخُروجٌ عن المِلَّةِ، وكذلك سَبُّه بغيرِ القَذْفِ)
.
وقال
ابنُ تَيميَّةَ: (إنَّ السَّابَّ إن كان مُسلِمًا فإنَّه يَكفُرُ، ويُقتَلُ بغيرِ خِلافٍ)
.
وقال أيضًا: (السَّابُّ إن كان مُسلِمًا فإنَّه يَكفُرُ ويُقتَلُ بغيرِ خِلافٍ، وهو مذهَبُ الأئمَّةِ الأربعةِ وغيرِهم وقد تقَدَّم ممن حكى الإجماعَ على ذلك
إسحاقُ بنُ راهَوَيه وغيرُه، وإن كان ذِمِّيًّا فإنَّه يُقتَلُ أيضًا في مذهَبِ
مالكٍ وأهلِ المدينةِ، وسيأتي حكايةُ ألفاظِهم، وهو مَذهَبُ
أحمَدَ وفُقَهاءِ الحَديثِ.
وقد نَصَّ
أحمدُ على ذلك في مواضِعَ متعَدِّدةٍ؛ قال حَنَبلٌ: سَمِعتُ
أبا عبدِ اللهِ يقولُ: «كلُّ من شَتَم النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أو تنَقَّصَه، مُسلِمًا كان أو كافِرًا، فعليه القَتلُ، وأرى أن يُقتَلَ ولا يُستتابَ» قال: وسمعتُ
أبا عبدِ اللهِ يقولُ: «كُلُّ من نقض العَهدَ وأحدث في الإسلامِ حَدَثًا مِثلَ هذا، رأيتُ عليه القَتلَ؛ ليس على هذا أُعطُوا العَهدَ والذِّمَّةَ»، وكذلك قال أبو الصَّفراءِ: «سألتُ
أبا عبدِ اللهِ عن رجُلٍ من أهلِ الذِّمَّةِ شتم النَّبيَّ، ماذا عليه؟ قال: إذا قامت عليه البَيِّنةُ يُقتَلُ من شتم النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، مُسلِمًا كان أو كافِرًا». أخرجهما
الخَلَّالُ.
وقال في روايةِ عبدِ اللهِ وأبي طالبٍ، وقد سُئِلَ عن شَتمِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «يُقتَلُ. قيل له: فيه أحاديثُ؟ قال: نعم، أحاديثُ؛ منها: حديثُ الأعمى الذي قَتَل المرأةَ، قال: سمعتُها تَشتمُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
... و
عُمَرُ بنُ عبد العزيزِ يقولُ: "يُقتَلُ"؛ وذلك أنَّه من شَتَم النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فهو مرتَدٌّ عن الإسلامِ، ولا يَشتمُ مُسلِمٌ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم»، زاد عبد الله: «سألتُ أبي عمَّن شتم النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُستتابُ؟ قال: «قد وجب عليه القَتلُ، ولا يُستتابُ؛ لأنَّ
خالِدَ بنَ الوليدِ قَتَل رجُلًا شَتَم النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ولم يَستَتِبْه»
... وفي روايةِ أبي طالبٍ: سُئِلَ
أحمدُ عمَّن شتم النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: «يُقتَلُ؛ قد نقض العَهْدَ»، وقال حربٌ: سألتُ
أحمدَ عن رجلٍ من أهلِ الذِّمَّةِ شَتَم النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: «يُقتَلُ إذا شتم النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم» أخرجهما
الخَلَّالُ، وقد نَصَّ على هذا في غيرِ هذه الجواباتِ.
فأقوالُه كُلُّها نَصٌّ في وجوبِ قَتْلِه وفي أنَّه قد نقض العهدَ، وليس عنه في هذا اختلافٌ.
وكذلك ذكَرَ عامَّةُ أصحابِه مُتقَدِّمُهم ومتأخِّرُهم، لم يختَلِفوا في ذلك)
.
وقال ابنُ عابِدِين -بعد أن ذكَرَ أقوالَ بَعْضِ العُلَماءِ في تكفيرِ سابِّ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-: (هذه نُقولٌ مُعتَضِدةٌ بدليلِها، وهو الإجماعُ... ومن استقرأ سِيَرَ الصَّحابةِ تحَقَّق إجماعَهم على ذلك؛ فإنَّه نُقِل عنهم في قضايا مختَلِفةٍ مُنتَشِرةٍ يَستفيضُ نَقْلُها ولم يُنكِرْه أحدٌ، وما حُكِيَ عن بَعْضِ الفُقَهاءِ مِن أنَّه إذا لم يَستحِلَّ لا يَكفُرُ، زَلَّةٌ عَظيمةٌ، وخطأٌ عظيمٌ لا يثبُتُ عن أحدٍ من العُلَماءِ المُعتَبَرين، ولا يقوُم عليه دليلٌ صحيحٌ، فأمَّا الدَّليلُ على كُفْرِه فالكِتابُ والسُّنَّةُ والإجماعُ والقياسُ)
.
وقال
ابنُ عُثَيمين: (سَبُّ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ سَبٌّ لِمَن أرسَلَه، ومُنافٍ لحَقِّه الذي هو أوجَبُ الحُقوقِ البَشَريَّةِ، وحَقُّه التَّعظيمُ والإجلالُ، والتَّوقيرُ، حتَّى إنَّ اللهَ عزَّ وجَلَّ جَعَل مِن أسبابِ الرِّسالةِ، ومِن حِكمةِ الرِّسالةِ أن نُؤمِنَ باللهِ ورَسولِه، ونُعَزِّرَه ونُوَقِّرَه:
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الفتح: 8، 9] فهذا ركنٌ وأساسٌ وحِكمةٌ مِن حِكَمِ إرسالِ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، ولا شَكَّ أنَّ سَبَّ النَّبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مع كَونِه تنقُّصًا له ولِمَن أرسَلَه، فهو أيضًا تنَقُّصٌ لشَريعتِه؛ ولهذا إذا سَبَّ أحَدٌ مِن النَّاسِ رجُلًا فإنَّ سَبَّه ينعَكِسُ على مِنهاجِه الذي انتهَجَه، ويكونُ نَفسُ المنهاجِ الذي انتهَجَه عند النَّاسِ مَنقوصًا؛ لأنَّه سَبَّ من قام بهذا المنهَجِ، فسَبُّ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إذا تضَمَّنَ ثلاثةَ أُمورٍ، كُلُّ واحدٍ منها كُفرٌ: سَبُّ اللهِ، وسَبُّ الرَّسولِ، وسَبُّ شَريعتِهـ)
.