الموسوعة العقدية

الفَرعُ الأوَّلُ: التَّقِيَّةُ بكتمانِ الدِّينِ

الأصلُ في المسلِمِ القيامُ بدينِه وإظهارُه وعَدَمُ الاختفاءِ به، وهذا واجبٌ عليه، لكنَّه قد لا يستطيعُ ذلك في بعضِ الأماكِنِ، وإلَّا أوذيَ وفُتِن عن دينه، فحينئذٍ تجِبُ عليه الهجرةُ إلى بلدٍ يستطيعُ فيه إظهارَ دينِه.
قال الشَّافعي: (دلَّت سُنَّةُ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على أنَّ فَرْضَ الهِجرةِ على من أطاقها، إنَّما هو على من فُتِن عن دينِه بالبَلَدِ الذي يَسلَمُ بها؛ لأنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أَذِنَ لقَومٍ بمكَّةَ أن يُقيموا بها بعد إسلامِهم، منهم العبَّاسُ بنُ عبد المُطَّلِبِ وغيرُه إذا لم يخافوا الفِتنةَ، وكان يأمُرُ جيوشَه أن يقولوا لِمن أسلم: ((إنْ هاجَرْتُم فلكم ما للمهاجِرين، وإن أقمتُم فأنتم كأعرابٍ)) [1692] أخرجه مسلم (1731) من حديث بريدة الأسلمي رضي الله عنه بلفظ: ( ... ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك، فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين. فإن أبوا أن يتحولوا منها، فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين ... ) ، وليس يخَيِّرُهم إلَّا فيما يحِلُّ لهم) [1693] يُنظر: ((الأم)) (5/ 366). .
فإنْ خاف المسلِمُ الفتنةَ ولم يستَطِعِ الهجرةَ جاز له كِتمانُ دينِه وعَدَمُ إظهارِه لئلَّا يُفتَنَ، لكِنْ مع الاستمساكِ به في الخفاءِ، وعَدَمِ مشايعةِ الكُفَّارِ على كُفرِهم، بل ولا على معاصيهم ابتداءً من غيرِ إكراهٍ يبيحُ ذلك.
ويكفيه حينئذٍ الإنكارُ بالقَلبِ الذي هو كُرهُ الكُفرِ وأهلِه، وعَدَمُ الرِّضا عنهم وعن كُفرِهم؛ لأنَّه لا يمكِنُه الإنكارُ باليَدِ واللِّسانِ، وهذا هو معنى قَولِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((من رأى منكم مُنكَرًا فلْيُغَيِّرْه بيَدِه، فإن لم يستطِعْ فبلِسانِه، فإن لم يستطِعْ فبقَلْبِه، وذلك أضعَفُ الإيمانِ)) [1694] أخرجه مسلم (49) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. .
قال ابنُ دقيق العيدِ: (معناه: فلْيُنكِرْه بقَلْبِه، وليس ذلك بإزالةٍ وتغييرٍ، لكِنَّه هو الذي في وُسْعِه… وفي هذا الحديثِ دليلٌ أنَّ من خاف من القَتلِ أو الضَّربِ سَقَط عنه التغييرُ، وهو مذهَبُ المحَقِّقين سلفًا وخلَفًا، وذهبت طائفةٌ من الغُلاةِ إلى أنَّه لا يسقُطُ وإن خاف ذلك) [1695] يُنظر: ((شرح الأربعين النووية)) (ص: 114). .
وأمَّا من استطاع إنكارَ المنكَرِ في الظَّاهِرِ فلم يفعَلْ، فإنَّه يأثَمُ لتَرْكِه الواجِبَ، لكنَّه لا يكفُرُ بمجَرَّدِ عَدَمِ إنكارِه مع قدرتِه، حتى يتحقَّقَ منه ما يستوجِبُ الكُفرَ في الظَّاهِرِ مِن قَولٍ أو فِعلٍ.

انظر أيضا: