الفرَعُ الرَّابعَ عَشَرَ: أقوالُ العُلَماءِ في القَرنِ الرَّابعَ عَشَرَ والخامِسَ عَشَر
1. حمد بن عليِّ بن عتيق. ت:1301هـقال حمد بن عتيق: (إذا تكلَّم بالكُفْرِ من غيرِ إكراهٍ كَفَر، وإنْ كان قلبُه مطمئنًّا بالإيمانِ، كما أَنَّ من شرح بالكُفْر صَدرًا كَفَر وإِنْ لم يتكلَّمْ)
[1243] يُنظر: ((الدفاع عن أهل السُّــنَّة والاتَّباع)) (ص: 23). .
وقال أيضًا: (وأمَّا المسألةُ الثَّالثةُ، وهي ما يُعذَرُ الرَّجلُ به على مُوافقةِ المُشْرِكين، وإظهارِ الطَّاعةِ لهم، فاعْلَم أنَّ إظهارَ الموافقةِ للمُشْرِكين له ثلاثُ حالاتٍ:
...
الحالةُ الثَّالثةُ: أنْ يوافِقَهم في الظَّاهِرِ مع مخالفتِه لهم في الباطِنِ، وهو من وجهَينِ:
أحَدُهما: أَنْ يفعلَ ذلك لكَونِه في سُلطانِهم، مع ضَرْبِهم وتقييدِهم له، ويتهدَّدونه بالقَتلِ، فيقولون له: إِمَّا أنْ تُوافِقَنا وتظهِرَ الانقيادَ لنا، وإلَّا قتَلْناك، فإِنَّه -والحالةُ هذه- يجوزُ له موافقتُهم في الظَّاهِرِ، مع كونِ قَلْبِه مطمئنًّا بالإيمانِ، كما جرى لعمَّارٍ حين أنزل اللهُ تعالى:
مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ، وكما قال تعالى:
إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً، فالآيتان دلَّتا على الحُكمِ، كما نبَّه على ذلك
ابنُ كثـيرٍ في تفسيرِ آيةِ آل عمران.
الوَجهُ
الثَّاني: أَنْ يوافِقَهم في الظَّاهِرِ مع مخالفتِه لهم في الباطِنِ، وهو ليس في سُلطانِهم، وإِنَّما حمله على ذلك إِما طمعٌ في رئاسةٍ أو مالٍ، أو مشحَّةٍ بوطنٍ أو عيالٍ، أو خوفٍ ممَّا يحدُثُ في المالِ؛ فإِنَّه في هذه الحالِ يكونُ مُرتدًّا، ولا تنفَعُه كراهتُه لهم في الباطِنِ، وهو ممَّن قال اللهُ فيهم:
ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ، فأخبر أَنَّه لم يحمِلْهُم على الكُفْرِ الجَهلُ أو بُغضُه، ولا محبَّةُ الباطِلِ، وإِنَّما هو أَنَّ لهم حظًّا من حظوظِ الدُّنيا، فآثَروه على الدِّين، هذا معنى كلامِ شَيخِ الإسلامِ
محمَّدِ بنِ عبدِ الوهَّابِ رحمه الله تعالى وعفا عنه)
[1244] يُنظر: المصدر السابق (ص: 62-64). الكلامُ هنا صريحٌ أنَّ حُظوظَ الدُّنيا وشَهواتِها إذا كانت هي سَبَبَ وُقوعِ الإنسانِ في الكُفرِ، فلا يصِحُّ أن تكون عذرًا يمنَعُ إطلاقَ الكُفرِ عليه ووقوعَه فيـه؛ بـخلافِ الإكراهِ. .
2. عثمان بن محمد شطا البكريُّ (الشَّافعيُّ). ت:1302هـقال عثمان البكري: (وحاصِلُ الكلامِ على أنواعِ
الرِّدَّة أَنَّها تنحَصِرُ في ثلاثةِ أقسامٍ: اعتقاداتٍ، وأفعالٍ، وأقوالٍ، وكلُّ قِسمٍ منها يتشعَّب شُعَبًا كثيرةً)
[1245] يُنظر: ((إعانة الطالبين)) (4/132). .
3. صدِّيق حسن خان القنوجي. ت:1307هـقال
القنوجي: (ومن ذلك الهَزْلُ بشيءٍ فيه ذكرُ اللهِ، أو الرَّسولِ أو القُرآنِ، أو السُّنَّةِ، وهذا الهَزْلُ كُفرٌ بواحٌ؛ قال تعالى:
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ أي: بهذا المقالِ الذي استهزَأْتُم به.
قال
شيخُ الإسلامِ: أخبر أَنَّهم كفَروا بعد إِيمانِهم، مع قَولِهم: إنَّا قد تكلَّمنا بالكُفْرِ من غيرِ اعتقادٍ له، بل إِنَّما كنَّا نخوضُ ونلعَبُ، وبيَّن أَنَّ الاستهزاءَ بآياتِ اللهِ كُفرٌ، ولا يكونُ هذا إلَّا ممنَّ شرح صَدْرَه بهذا الكلامِ. ولو كان الإيمانُ في قَلْبِه، لمنعَه من أنْ يتكلَّم به. والقرآنُ يبيِّن أَنَّ إيمانَ القَلْبِ يستلزِم العَمَلَ الظَّاهِرَ بحَسَبِه، كقَولِه:
وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ الآية، فنفى الإيمانَ عمَّن تولَّى عن طاعةِ الرَّسولِ، وأخبرَ أنَّ المُؤمِنين إذا دُعُوا إلى اللهِ ورَسولِه ليَحكمَ بينهم، سمعوا وأطاعوا، فبيَّنَ أنَّ هذا من لوازمِ الإيمانِ. انتهى. وفيه بيانٌ أنَّ الإنسانَ قد يكفُرُ بكَلِمةٍ يتكلَّمُ بـها، أو عَمَـلٍ يعمَلُ به)
[1246] يُنظر: ((الدين الخالص)) (4/546). .
وقال: (… (والسَّاحر) لكونِ عَمَلِ السِّحرِ نوعًا من الكُفْرِ، ففاعلُه مرتدٌّ يستحقُّ ما يستحقُّه المرتدُّ… أقول: لا شَكَّ أنَّ من تعلَّم السِّحرَ بعد إسلامِه كان بفعلِ السِّحرِ كافِرًا مرتدًّا وحدُّه حدُّ المرتدِّ،… (والسابُّ لله أو لرَسولِه أو للإسلامِ أو للكتابِ أو للسُّنَّة، والطَّاعِنُ في الدِّينِ)، وكلُّ هذه الأفعال موجبةٌ للكُفْرِ الصَّريحِ، ففاعِلُها مرتدٌّ حدُّه حدُّه)
[1247] يُنظر: ((الروضة النَّديَّة)) (2/627-629). .
4. أحمد بن إبراهيم بن عيسى السديريُّ. ت:1329هـقال ابنُ عيسى السديري: (… فانظُرْ إلى تفريقِه -يعني
شيخَ الإسلامِ- بين المقالاتِ الخفيَّةِ والأمورِ الظَّاهرةِ، فقال في المقالاتِ الخفيَّةِ التي هي كفرٌ: قد يقال: إِنَّه فيها مخطئٌ ضالٌّ، لم تقُمْ عليه الحُجَّةُ التي يكفُر صاحِبُها، ولم يقُلْ ذلك في الأمورِ الظَّاهرةِ حكمُها مُطلقًا، وبما يَصدرُ منها من مُسْلِمٍ جَهلًا، كاستحلال محرَّمٍ أو فعلٍ أو قَولٍ شركيٍّ بعد التَّعريف، ولا يكفُرُ بالأمورِ الخفيَّة جهلًا، كالجَهلِ ببعض الصِّفاتِ، فلا يَكفُرُ الجاهِلُ بها مطلقًا، وإن كان داعيةً)
[1248] يُنظر: ((توضيح المقاصد وتصحيح القواعد)) (النونيّة) (2/409). .
5. محمَّد جمال الدِّين القاسميُّ. ت:1332هـقال جمال الدين القاسمي في تفسيرِ قَولِه تعالى:
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ ليَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ: (قال في "الإكليل": قال
الكيا: فيه دلالةٌ على أنَّ اللَّاعِبَ والجادَّ في إظهارِ كَلِمةِ الكُفْرِ سواءٌ، وأنَّ الاستهزاءَ بآياتِ اللهِ كُفرٌ)
[1249] يُنظر: ((تفسير القاسمي)) (8/254) وسبق نقل كلام الكيا الهرَّاسي بتمامه، ونقل القاسميِّ له دون تعقيبٍ دليلٌ على أنَّه يرتضيه. .
6. محمَّد أنور شاه الكشميريُّ. ت: 1352هـقال الكشميري في إكفار الملحِدين نقلًا عن "شرح الشفا" للخفاجي، موافقًا له: (ولهذا أي: للقَولِ بكُفرِ من خالف ظاهِرَ النُّصوصِ والمجمَعَ عليه؛ نُكفِّر من لم يُكفِّرْ مَن دانَ بغيرِ ملَّة الإســلامِ مِن المِلَلِ أو وَقَف فيهم، أي: توقَّف وتردَّد في تكفيرِهم، أو شكَّ في كُفْرِهم، أو صحَّح مَذْهَبَهـم، وإنْ أظهَرَ الإسلامَ واعتَقَده، واعتقدَ إبطالَ كلِّ مَذهَبٍ سواه، فهو - أي: من لم يُكفِّرْ وما بعده - كافِرٌ، بإظهارِ ما أظهر من خلافِ ذلك - أي ما يخالِفُ الإسلامَ-؛ لأنَّه طعنٌ في الدِّين، وتكذيبٌ لِما ورد عنه من خلافِه، وكذلك -أي: كتكفير هؤلاء- يُقطع ويُجزَم بتكفيرِ كلِّ من قال قولًا صدر عنه يتوسَّلُ به إلى تضليلِ الأمَّةِ -أي: كونها في الضَّلالِ عن الدِّينِ والصِّراطِ المستقيمِ- ويؤدِّي إلى تكفيرِ جميعِ الصَّحابةِ، كقول الطَّائفةِ الكميلية من الرَّافضة بتكفيرِ جميعِ الأمَّةِ بعد موت النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ إذ لم تُقَدِّم عَلِيًّا، وكفَّرت علِيًّا إذْ لم يتقدَّمْ ولم يطلُبْ حقَّه في التَّقديم! فهؤلاء قد كَفَروا من وجوهٍ؛ لأنَّهم بمـا قالوه أبطلوا الشَّريعةَ بأَسْرِها، وكذلك - أي: كما كفَّرْنا هؤلاء- نكفِّر بكلِّ فعلٍ فعله شخصٌ مُسْلِمٌ، أجمع المُسْلِمون على أنَّه -أي: ذلك الفِعْل- لا يصدر إلَّا من كافِرٍ حقيقةً؛ لأَنَّه من جنس أفعالهم، وإنْ كان صاحبُه -أي: مَنْ صدَرَ منه- مُسْلِمًا مصرِّحًا بالإسلامِ مع فِعلِه ذلك الفِعْل)). شرح الشفاء للخفاجي ملتقطًا ملخصًا، ومِثلُه في شرح
الملَّا علي القاري سواء)
[1250] يُنظر: ((إكفار الملحدين فــي ضروريات الدِّين)) (ص: 58). .
وقال: (والحاصِلُ أنَّ من تكلَّم بكَلِمة الكُفْرِ هازلًا أو لاعبًا كَفَر عند الكلِّ، ولا اعتبارَ باعتقادِه، كما صرَّح به في الخانيَّـة وردِّ الـمحتار)
[1251] يُنظر: المصدر السابق (ص: 59). .
وقال: (اتَّفقوا في بَعْضِ الأفعالِ على أَنَّها كفرٌ، مع أَنَّه يمكِنُ فيها ألَّا ينسَلِخَ من التَّصديقِ؛ لأَنَّها أفعالُ الجوارحِ لا القَلْبِ، وذلك كالهَزْلِ بلفظِ كفرٍ، وإِنْ لم يَعتَقِده، وكالسُّجود لصنمٍ، وكقَتلِ نبيٍّ، والاستخفافِ به، وبالمصحفِ، والكعبةِ، واختلفوا في وجهِ الكُفْرِ بها بعد الاتِّفاقِ على التَّكفيرِ)
[1252] يُنظر: المصدر السابق (ص: 68). .
7. إبراهيم بن محمَّد بن ضويان (الحنبليُّ). ت:1353هـقال ابنُ ضويان: (ويحصُلُ الكُفْرُ بأحَدِ أربعةِ أمورٍ: بالقَوْلِ؛ كسبِّ اللهِ تعالى أو رَسولِه أو ملائكتِه …، وبالفِعْلِ؛ كالسُّجودِ للصَّنمِ، كشَمسٍ وقَمَرٍ وشَجَرٍ وحَجَرٍ وقبرٍ؛ لأَنَّه إشراكٌ بالله تعالى، وكإلقاءِ المصحَفِ في قاذورةٍ …، وبالاعتقادِ؛ كاعتقادِه الشِّركَ له تعالى أو الصَّاحبةَ أو الولدَ؛ لِقَولِه تعالى:
مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ الآية، أو أَنَّ الزِّنا والخَمرَ حلالٌ أو أنَّ الخبزَ حرامٌ، ونحو ذلك مما أُجمع عليه إجماعًا قطعيًّا؛ لأنَّ ذلك معاندةٌ للإسلامِ، وامتناعٌ من قبول أحكامه، ومخالفةٌ للكتاب والسُّنَّة وإجماعِ الأمَّة، وبالشَّكِّ في شيءٍ من ذلك، أي: في تحريم الزِّنا والخَمرِ، أو في حلِّ الخُبزِ ونَحوِه)
[1253] يُنظر: ((منار السبيل في شرح الدليل)) (2/357). .
8. محمَّد رشيد رضا. ت:1354هـقال
محمد رشيد رضا في تفسيرِ قَولِه تعالى:
يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَليْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ ليَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ: (والمعنى أنَّ الله تعالى نبَّأَ رسولَه بما كان يقولُه هؤلاء المنافقون في أثناء السَّيرِ إلى تبوكَ، من الاستهزاءِ بتصدِّيه لقتالِ الرُّومِ الَّذين ملأَ صيتُهم بلادَ العَرَبِ، بما كان تجَّارهم يرَوْنَ من عَظَمَةِ مُلكِهم في الشَّامِ؛ إذْ كانوا يرحلون إليها في كُلِّ صيفٍ، نبَّأه نبأً مؤكَّدًا بصيغة القَسَم أنَّه إِنْ سألهم عن أقوالِهم هذه يعتَذِرون عنها بأَنَّهم لم يكونوا فيها جادِّين ولا مُنْكِرين، بل هازِلين لاعبين، كما هو شأنُ الذين يخوضون في الأحاديثِ المختَلِفةِ للتَّسلي والتَّلهِّي، وكانوا يظنُّون أَنَّ هذا عذرٌ مقبولٌ، لجَهْلِهم أَنَّ اتِّخاذَ أمورِ الدِّينِ لَعِبًا ولهوًا لا يكونُ إلَّا ممَّن اتَّخذه هُزُوًا، وهو كُفرٌ محضٌ، … فإنْ قيلَ: ظاهرُ هذا أَنَّهم كانوا مُؤمِنين فكَفَروا بهذا الاستهزاءِ الذي سمَّوه خوضًا ولَعِبًا، وظاهرُ السِّياقِ أنَّ الكُفْرَ الَّذي يسرُّونَه هو سَبَبُ الاستهزاءِ الذي يُعلِنونه؛ قُلْنا: كلاهما حقٌّ، ولكلٍّ منهما وَجهٌ، فالأوَّلُ: بيانٌ لحُكمِ الشَّرع، وهو أنَّهم كانوا مُؤمِنين حُكمًا، فإنَّهم ادَّعوا الإيمانَ، فجرت عليهم أحكامُ الإسلامِ، وهي إنَّما تُبنى على الظَّواهِرِ، والاستهزاءُ بما ذُكِرَ عَمَلٌ ظاهِرٌ يقطَعُ الإسلامَ، ويقتضي الكُفْرَ، فبه صاروا كافِرين حُكمًا، بعد أن كانوا مُؤمِنين حُكمًا، و
الثَّاني: وهو ما دلَّ عليه السِّياقُ هو الواقِعُ بالفِعْل، والآيةُ نصٌّ صريحٌ في أنَّ الخوضَ في كتابِ اللهِ وفي رَسوله وفي صِفاتِ اللهِ تعالى ووَعْدِه ووَعيدِه وجَعْلِها موضوعًا للَّعِب والهُزْء؛ كلُّ ذلك من الكُفْرِ الحقيقيِّ الذي يخرجُ به المُسْلِمُ من الملَّة، وتجري عليه به أحكامُ
الرِّدَّة، إلَّا أنْ يتوبَ ويجدِّدَ إسلامَه)
[1254] يُنظر: ((تفسير المنار)) (10/529-531). .
9. عبدُ الرَّحمن بن ناصر بن سعديٍّ. ت:1376هـقال
السَّعْديُّ: (وإذا ثبت أَنَّ الذَّبحَ لله من أجلِّ العبادات وأكْبَر الطَّاعات، فالذَّبحُ لغير الله شركٌ أكبُر مُخْرِجٌ عن دائرة الإسلامِ؛ فإنَّ حدَّ الشِّرْك الأكْبَر وتفسيرَه الذي يجمَعُ أنواعَه وأفرادَه: (أن يصرِفَ العَبْدُ نوعًا أو فردًا من أفرادِ العبادةِ لغَيرِ اللهِ)، فكُـلُّ اعتقادٍ أو قولٍ أو عملٍ ثبت أنَّه مأمورٌ به من الشَّارع، فصرفُه لله وحده توحيدٌ وإيمانٌ وإخلاصٌ، وصرفُه لغيره شركٌ وكفرٌ، فعليك بهذا الضَّابِطِ للشِّركِ الأكْبَرِ الَّذي لا يشِذُّ عنه شيءٌ)
[1255] يُنظر: ((الــقول السَّديد)) (ص54). .
10. حافظ بن أحمد الحكمي. ت:1377هـقال
حافظ حكمي: (س: إذا قيل: السُّجودُ للصَّنَمِ، والاستهانةُ بالكتابِ، وسُبُّ الرَّسولِ، والهَزْلُ بالدِّينِ، ونحوُ ذلك، هذا كلُّه من الكُفْرِ العَمَليِّ فيما يظهَرُ، فلِمَ كان مُخْرِجًا من الدِّين، وقد عرَّفتم الكُفْرَ الأصْغَر بالعَمَليِّ؟
ج: اعلمْ أنَّ هذه الأربعةَ وما شاكلها ليس هي من الكُفْر العَمَليِّ إلَّا من جهةِ كَونِها واقعةً بعَمَلِ الجوارحِ فيما يظهرُ للنَّاسِ، ولكنَّها لا تقَعُ إلَّا مع ذهابِ عَمَلِ القَلْب من نيَّتِه وإخلاصِه ومحبَّتِه وانقيادِه، لا يبقى معها شيءٌ من ذلك، فهي وإنْ كانت عمليَّةً في الظَّاهِرِ، فإِنَّها مستلزِمَةٌ للكُفْرِ الاعتقاديِّ ولا بدَّ، ولم تكن هذه لتقعَ إلَّا من منافقٍ مارقٍ أو معاندٍ مارد، وهل حَمَل المنافقين في غزوةِ تبوكَ على أَنْ
قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لمْ يَنَالُوا إلَّا ذلك مع قَولِهم لَمَّا سُئِلوا
إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ، قال اللهُ تعالى:
قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ، ونحن لم نعرِّف الكُفْرَ الأصْغَرَ بالعَمَليِّ مُطلقًا، بل بالعَمَليِّ المَحْضِ الَّذي لم يستلزِمِ الاعتقادَ، ولم يُناقِضْ قولَ القَلْب ولا عَمَلَه)
[1256] يُنظر: ((أعلام السنة المنشورة)) (ص 181). كلامه هنا رحمه الله صريح في التَّفريق بين الكُفرِ العمليِّ الذي يخرِجُ من الملَّة، والكفر العمليِّ الذي لا يخرج من الملَّة، فليس كلُّ كفرٍ عمليٍّ يعدُّ كفرًا أصغرَ كما يظُنُّ البعضُ، بل هناك من الكُفرِ العمليِّ -أي: الوقوعِ في المكفِّرات القوليَّة والعمليَّة- ما يعدُّ كفرًا مخرجًا من الملَّة، كما مثَّل الشيخ له بالسُّجود للصَّنم وسبِّ الرَّسول صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أمّا الكفرُ العمليُّ الذي لا يُخرج من الملَّة فهو ما سمَّاه الشيخ بالكفر العمليِّ المحْضِ الذي لم يستلزمِ الاعتقادَ، ولم يناقِضْ قَولَ القَلبِ ولا عَمَلَه، أي: أعمال وأقوال غير مكفِّرة، وهي ما عرَّفه الشيخُ (ص: 179) بقولـه: (هي كلُّ معصيةٍ أطلق عليها الشَّارعُ اسم الكُفرِ مع بقاء اسمِ الإيمانِ على عامِلِه). فتأمَّل! وسيأتي ما يؤيِّد ذلك من جوابِ اللجنة الدائمة للإفتاء، وعبد العزيز بن باز. يُنظر: المقدمة السادسة من كتاب: ((التوسط والاقتصاد)). .
11. محمَّد بن إبراهيم آل الشيخ. ت:1389هـقال
محمد بن إبراهيم في شرحه لكشف الشبهات:
((فإنَّك إذا عرفت أنَّ الإنسانَ يكفُرُ بكَلِمةٍ) واحدةٍ (يخرِجُها من لسانِه) دون قَلْبِه) [1257] يُنظر: ((شرح كشف الشبهات)) (ص: 41) .
وقال أيضًا: (إذا كان الأوَّلون لم يكفَّروا إلَّا لأنَّهم جمعوا بين الشِّرك وتكذيبِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والقرآن) يعني تكذيبَه (وإنكارِ البعث، وغيرِ ذلك، فما معنى البابِ الَّذي ذكر العُلَماء في كلِّ مذهبٍ؟) المذاهب الأربعة وغيرها (باب حُكمِ المرتدِّ) وعرَّفوه بتعارَيف (وهو المُسْلِم الَّذي يَكفُرُ بعد إسلامِه)، فهذا المذكورُ في هذا الباب إجماعٌ منهم أنَّه يخرجُ من المِلَّة ولو معه الشَّهادتان؛ لأجْلِ اعتقادٍ واحدٍ أو عملٍ واحدٍ أو قولٍ واحدٍ، يكفي بإجماعِ أهلِ العِلمِ، لا يختَلِفون فيه، وأنَّه ليس المرتدُّ الَّذي يخرجُ عن الإسلامِ بالمرَّة [1258] أي: لا ينطق بالشَّهادتين ويصرِّح أنَّه خرج عن الإسلام وأنَّه لا يؤمن بالله ولا رسوله... إلخ، بل يكفي أن يصدر منه قولٌ أو فعل مكفِّر كي يُحكم عليه بالرِّدّة. ، بل هو قِسمٌ، والقِسمُ الآخَرُ هو ما تقدَّم (ثمَّ ذكروا أنواعًا كثيرة)، ومثَّلوا له أمثلةً، (كُلُّ نوعٍ منها يكفِّرُ، ويحلُّ دمَ الرَّجُلِ ومالَه)، وقالوا: من قال كذا أو اعتقد كذا، فهو كافِرٌ، وأَنَّه لا ينفَعُه جميعُ ما عمِل به، (حتى إِنَّهم ذكَروا أشياءَ يسيرةً عند من فعَلَها، مثل كَلِمةٍ يذكُرها بلِسانِه دونَ قَلْبِه، أو كَلِمةٍ يذكُرُها على وَجهِ المزحِ واللَّعِب)، حتى إِنَّ بَعْضَ أهلِ المذاهبِ يكفِّرون من صغَّر اسمَ المسجِدِ أو المصحَفِ [1259] أي قال: مسيجد أو مصيحف احتقارًا أو استهزاءً. ، وما ذكروه وعرَّفوه هو في الجُملة: يوجَدُ أشياءُ يكونُ بها الإنسانُ مُرتدًّا، ولو نطق بالشَّهادتين وصلَّى، بل ولو أضاف إلى ذلك تَرْكَ المحرَّمات، وأتى بمكفِّر- هدمَ جميع ما معه من الإسلامِ؛ فإِنَّ وجودَ المكفِّرات التي يصير بها الرَّجل مرتدًّا كثيـرةٌ لا تُحْصَـر) [1260] يُنظر: المصدر السابق (ص: 102). .
وقال أيضًا: ((وأمَّا غيرُ هذا، فقد كَفَر بعد إيمانِه، سواءٌ فعله خوفًا، أو مداراةً، أو مشحَّةً بوطنه، أو أهله، أو عشيرته، أو مالِه، أو فَعَلَه على وجهِ المزْحِ، أو لغيرِ ذلك من الأغراضِ، إلَّا المُكْرَهَ. والآيةُ تدلُّ على هذا) أنَّ التَّوحيدَ لا بدَّ أنْ يكون بالقَلْب واللِّسان والعَمَل (من جهتينِ: الأولى قولُه: إلَّا من أُكْرِهَ فلم يستثنِ اللهُ إلَّا المكْرَهَ. ومعلومٌ أنَّ الإنسانَ لا يُكْرَهُ) لا يُتصَّورُ في حقِّه الإكراهُ إلَّا بهذين الأمرينِ (إلَّا على العَمَل أو الكَلامِ. وأمَّا عقيدةُ القَلْبِ فلا يُكْرَهُ أحدٌ عليها) فإذا فَعَل أو صدَرَ منه الكُفْرُ فإِنَّه كافِرٌ بعد إيمانِه، (والثَّانية) تَقدَّمَ قَولُ المصنِّفِ أنَّها تدلُّ على ما قرَّره من جهتينِ، وتقدَّمت الجِهةُ الأُولى، وهذه الثَّانية. (قَولُه تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الباء للسَّبَبِ، يعني: ذلك بسَبَبِ محَبَّتِهم الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلى الآخِرَةِ يعني الجنَّةَ، (فصرَّح أنَّ هذا الكُفْرَ والعذابَ) المحكومَ به عليهم في هذه الآيةِ والمترتِّبَ على ما صدَر منهم (لم يكن بسَبَبِ الاعتقادِ أو الجَهلِ، أو البُغضِ للدِّين، أو محبَّةِ الكُفْر، وإِنَّما سَبَبُه) أي: صدورُ الكُفْر منه، أنَّه تكلَّم بالكُفْرِ لسَبَبٍ، وهو أنَّ له في التَّكلُّمِ بالكُفْر شيئًا واحدًا، وهو (أَنَّ له في ذلك حظًّا من حظوظ الدُّنيا)، يحصُلُ له فيرتَكِبُ هذا المحظورَ لأجْلِ أنَّه لا يحصُلُ له مطلوبُه إلَّا -والعياذُ بالله- بإيثار الحياةِ الدُّنيا، (فآثره على الدِّين) على الآخِرةِ.
فالإِنسانُ الَّذي يُلجِئُه من يُلجِئُه إلى أَنْ يصدُرَ منه الكُفْرُ، له حالاتٌ:
أحَدُها: أَنْ يمتنِعَ ويصبرَ عليها، فهذه أفضَلُ الحالاتِ.
الثَّانيةُ: أنْ ينطِقَ بلسانِه مع اعتقادِ جَنانِه الإيمانَ، فهذا جائزٌ.
الثَّالثة: أنْ يُكرَهَ فيجيبَ، ولا يطمئنَّ قَلْبُه بالإيمان، فهذا غيرُ معذورٍ وكافِرٌ.
الرابعة: أنْ يُطلَبَ منه ولا يُلجَأَ، فيجيبُ، ما وصل إلى حدِّ الإكراهِ، ولكِنْ يوافِقُ بلسانِه وقَلْبُه مطمئنٌّ بالإيمانِ، فهذا كافِرٌ.
الخامسةُ: أنْ يُذكَر له، ولا يَصِلَ إلى حدِّ الإكراه، فيوافِقُ بقَلْبِه ولسانِه، فهذا كافِرٌ) [1261] يُنظر: المصدر السابق (ص: 133). .
وجاء في رسالةٍ أخرى: (من محمَّد بن إبراهيم إلى حضرة صاحِبِ السموِّ الملكي أميرِ منطقةِ الرِّياض سلَّمه الله…
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
فبالإشارة إلى المعامَلَة المرفوعة إلينا من المحكمة الكبرى بالرِّياض برقم 4259/1 وتاريخ 20/8/1385 بخصوصِ قَضِيَّة السَّجين... الَّذي طلب برسالتِه الموجَّهة إلى صوت الإنجيل الانضمامَ إلى الدِّينِ المسيحيِّ.
فقد جرى منَّا الاطلاعُ عليها، وعلى التَّحقيقِ المجرى معه من قِبَل الاستخبارات العامَّة، ونفيد سموَّكم أنَّ ما صدر منه يعتبر رِدَّةً، والعياذ بالله، ولكن قال في جوابه المرفَقِ بالمعامَلَة بأنَّه يتسلَّى بما كتب، ويقطَعُ فراغَه بهذا وأمثالِه، وهو باقٍ على دينِه الإسلامِ، وعلى اعتقادِه فيه، فلقد سبقه في هذا الجوابِ منافقون قالوا دونَ ما قال، واعتَذَروا لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنَّهم كانوا يخوضون ويلعبون، وأنَّهم لا يعنون ما قالوه؛ فأنزل اللهُ في حقِّهم قَولَه تعالى: قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُواقَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ … فيتعيَّن إحضارُ المذكور لدى المحكمة، وتُعادُ استِتَابتُه لدى فضيلةِ رئيسِها، وتلفُّظُه بالشَّهادتينِ، ومن ثُمَّ يؤكَّدُ عليه وجوبُ الاغتِسالِ نتيجةَ الارتدادِ، والعياذُ بالله، ثمَّ التَّوبةُ، كما أنَّه ينبغي تعزيرُه بالسِّجنِ فقط، نظرًا لِمَرَضِه وضَعْفِ حالِه عن تحمُّل الجزاءِ بالضَّربِ، ويلاحَظُ في سجنِه عدم التَّضييقِ عليه، وبالله التَّوفيق، والسَّلام عليكم) [1262] يُنظر: المصدر السابق (12/193). .
12. محمَّد الأمين الشنقيطي.ت:1393هـ
قال الشنقيطي في تفسيرِ قَولِه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ: (اعلم أنَّ عدَمَ احترامِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المشعِرَ بالغَضِّ منه أو تنقيصِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والاستخفافِ به أو الاستهزاءِ به: ردَّةٌ عن الإسلامِ وكفرٌ بالله) [1263] يُنظر: ((أضواء البيان)) (7/ 403). .
وقال في تفسيرِ قَولِه تعالى: سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا: (وذكر غيرُ واحدٍ من أهلِ العلمِ أنَّ من قذف أُمَّ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أو قَذَفَه هو صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ أنَّ ذلك ردَّةٌ، وخروجٌ من دينِ الإسلامِ، وهو ظاهِـرٌ لا يـخفى) [1264] يُنظر: ((أضواء البيان)) (5/ 459). .
13. اللَّجنةُ الدَّائمةُ للبُحوثِ العلميَّةِ والإفتاء (بالسعودية):
جاء في فتاوى اللجنة الدَّائمة: (س: يقال: إِنَّ الرِدَّة قد تكون فعليَّة أو قوليَّة، فالرَّجاءُ أنْ تبيِّنوا لي باختصارٍ واضحٍ أنواعَ الرِّدَّة الفِعْليَّة والقَوْليَّة والاعتقاديَّة؟
الحمدُ للهِ والصَّلاةُ والسَّلامُ على رَسولِه وآلِه وصَحْبِه..، وبعدُ:
جـ: الرِّدَّةُ هي الكُفْرُ بعد الإسلامِ، وتكونُ بالقَوْلِ والفِعْل والاعتقاد والشَّكِّ، فمن أشرك باللهِ أو جَحَد ربوبيَّتَه أو وحدانيَّته أو صفةً من صفاتِه أو بَعْض كُتُبِه أو رُسُلِه، أو سبَّ اللهَ أو رسولَه، أو جحد شيئًا من المحرَّماتِ المجمَعِ على تحريمِها أو استحلَّه، أو جحد وجوبَ رُكنٍ من أركانِ الإسلامِ الخَمسةِ، أو شكَّ في وُجوبِ ذلك أو في صِدقِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أو غيرِه من الأنبياءِ، أو شكَّ في البَعثِ أو سَجَد لصنمٍ أو كوكبٍ ونحوه- فقد كفر وارتدَّ عن دين الإسلامِ. وعليك بقراءةِ أبوابِ حُكم الرِّدَّة من كُتُبِ الفِقهِ الإسلاميِّ؛ فقد اعتنَوا به رحمهم الله، وبهذا تعلم من الأمثلةِ السَّابقةِ الرِّدَّةَ القَوْليَّةَ والعَمَليَّةَ والاعتقاديَّةَ، وصورةَ الرِّدَّةِ في الشَّكِّ) [1265] يُنظر: ((فتاوى اللجنة الدائمة - المجموعة الأولى)) (2/ 8). .
وجاء فيها أيضًا: (س: اعتبارُهم تاركَ الصَّلاةِ كافِرًا كُفرًا عَمَليًّا، والكُفْرُ العَمَليُّ لا يُخرِجُ صاحبَه من المِلَّة إلَّا ما استثنَوْه من سبِّ اللهِ تعالى وما شابَهَه، فهل تارِكُ الصَّلاةِ مُستثنىً؟ وما وَجهُ الاستثناءِ؟
جـ: ليس كلُّ كُفرٍ عَمَليٍّ لا يخرُجُ من ملَّةِ الإسلامِ، بل بَعْضُه يخرجُ من ملَّةِ الإسلامِ، وهو ما يدلُّ على الاستهانةِ بالدِّينِ والاستهتارِ به، كوَضعِ المصحَفِ تحتَ القَدَمِ، وسَبِّ رَسولٍ من رُسُلِ اللهِ مع العلم برسالتِه، ونسبةِ الوَلَدِ إلى اللهِ، والسُّجودِ لِغَيرِ اللهِ، وذَبْحِ قُربانٍ لغيرِ اللهِ) [1266] يُنظر: ((فتاوى اللجنة الدائمة - المجموعة الأولى)) (2/ 53). .
وجاء فيها أيضًا: (وأنَّ الكُفْرَ يكونُ بالقَوْلِ والفِعْلِ والتَّركِ والاعتقادِ والشَّكِّ، كما قامت على ذلك الدَّلائِلُ من الكِتابِ والسُّنَّةِ) [1267] يُنظر: ((فتاوى اللجنة الدائمة - المجموعة الثانية)) (2/ 134). .
14. عبد العزيز بن عبد الله بن باز. ت:1420هـ:
قال ابنُ باز: (سبُّ الدِّين كُفرٌ أكْبَرُ، ورِدَّةٌ عن الإسلامِ، والعياذُ بالله، إذا سَبَّ المُسْلِمُ دينَه أو سبَّ الإسلامِ، أو تنقَّصَ الإسلامَ وعابه أو استهزأَ به؛ فهذه رِدَّةٌ عن الإسلامِ، قال اللهُ تعالى: قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ. وقد أجمع العُلَماءُ قاطبةً على أنَّ المُسْلِمَ متى سبَّ الدِّين أو تنقَّصَه أو سبَّ الرَّسولَ أو انتقَصَه أو استهزَأَ به؛ فإنَّه يكونُ مُرتدًّا كافِرًا حلالَ الدَّمِ والمالِ، يُسْتَتابُ، فإنْ تابَ وإلَّا قُتِل) [1268] يُنظر: ((فتـاوى نورٌ على الدَّرب)) (1/157). .
ومن ذلك استِشهادُه بكَلامِ القُرطبيِّ وابنِ العَربيِّ والقاضي عِياضِ، مُوافقًا إيَّاهم بقَولِه:
(قال الإمامُ أبو عبدِ اللهِ محمَّد بن أحمد الأنصاريُّ القرطبيُّ في تفسيرِه «الجامع لأحكام القرآن» عند تفسيرِ هذه الآية ما نصُّه: قال القاضي أبو بكر بنُ العربي: لا يخلو أن يكونَ ما قالوه في ذلك جِدًّا أو هزلًا، وهو كيف ما كان، كُفرٌ؛ فإنَّ الهَزْلَ بالكُفْرِ كُفرٌ، لا خِلافَ فيه بين الأمَّةِ...
وقال القاضي عياضُ بن موسى -رحمه الله- في كتابه (الشِّفا بتعريف حقوق المصطفى)... ما نصُّه: واعلَمْ أنَّ من استخفَّ بالقرآنِ أو المصحَفِ، أو بشيءٍ منه، أو سبَّهما أو جحَدَه أو حرفًا منه أو آيةً، أو كذَّب به أو بشيءٍ ممَّا صرَّح به فيه؛ من حُكمٍ، أو خبرٍ، أو أثبَتَ ما نفاه أو نفى ما أثبتَه على علمٍ منه بذلك، أو شكَّ في شيءٍ من ذلك- فهو كافِرٌ عند أهلِ العِلمِ بإجماعٍ؛ قال اللهُ تعالى: وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [1269] يُنظر: ((الرَّد على بورقيبة)) (ص: 13). .
وسُئل عن الكُفْر العَمَليِّ المُخْرِجِ من الملَّة فقال: (الذَّبحُ لغيرِ الله، والسُّجودُ لغيرِ اللهِ،كُفرٌ عمليٌّ مُخرجٌ من الملَّة، وهكذا لو صلَّى لغير اللهِ أو سجد لغيرِه سُبحانَه، فإنَّه يكفُرُ كُفرًا عمليًّا أكْبَر -والعياذُ باللهِ- وهكذا إذا سبَّ الدِّين، أو سبَّ الرَّسولَ، أو استهزأ باللهِ ورَسولِه، فإنَّ ذلك كُفرٌ عمليٌّ أكْبَرُ عند جميعِ أهلِ السُّنَّة والجماعةِ) [1270] يُنظر: مجلة الفرقان الكويتية، العدد 94. .
15. محمَّد بن صالح بن عثيمين. ت: 1421هـ:
سُئِل ابنُ عُثيمين عن شروطِ الحُكمِ بتكفيرِ المُسْلِمِ؟ وحُكمِ من عَمَل شيئًا مكفِّرًا مازحًا؟
فأجاب بقوله: (للحُكمِ بتكفير المُسْلِم شرطان: أحَدُهما: أنْ يقومَ الدَّليلُ على أنَّ هذا الشَّيءَ مما يُكفِّرُ.
الثَّاني: انطباقُ الحُكمِ على من فعل ذلك، بحيث يكونُ عالِمًا بذلك قاصدًا له، فإن كان جاهِلًا لم يَكفُرُ؛ لِقَولِه تعالى: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا، وقَولِه: وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لهُمْ مَا يَتَّقُونَ، وقَولِه: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا، لكِنْ إن فرَّط بترك التَّعلُّم والتَّبيُّن لم يُعذَرْ، مثل أنْ يبلغَه أنَّ عَمَلَه هذا كُفرٌ، فلا يتثبَّتُ، ولا يبحَثُ؛ فإنَّه لا يكونُ معذورًا حينَئذٍ.
وإنْ كان غيرَ قاصدٍ لعمَلِ ما يكفِّرُ لم يكفُرْ بذلك، مثل أنْ يُكرَهَ على الكُفْرِ وقَلْبُه مُطمئنُّ بالإيمان، ومثل أنْ ينغَلِقَ فكرُه فلا يدري ما يقولُ؛ لشدَّة فرحٍ ونحوه، كقَولِ صاحبِ البَعيرِ الذي أضلَّها، ثُمَّ اضطجع تحت شجرةٍ ينتظر الموت، فإذا بخطامِها متعلقًا بالشَّجَرةِ فأخذه، وقال: (اللَّهمَّ أنت عبدي، وأنا ربُّك)، أخطأ من شدَّة الفَرَحِ [1271] أخرجه مسلم (2747) عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لله أشد فرحا بتوبة عبده، حين يتوب إليه، من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه، وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة، فاضطجع في ظلها، قد أيس من راحلته، فبينا هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها، ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك. أخطأ من شدة الفرح)) ، لكِنْ من عَمَل شيئًا مكفِّرًا مازحًا فإنَّه يكفُرُ؛ لأنَّه قصد ذلك، كما نصَّ عليه أهلُ العِلمِ) [1272] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (2/125). كلمة "قصد" تتكرَّر كثيرًا في كلام العلماء عند الحديث عن الرِّدَّة والتَّكفير، ويظنُّ البعضُ أنَّ المقصودَ بها "اعتقد"، وهنا الشيخ يوضِّحُ أنَّ المقصود بها تعمَّد، وضدُّها الجَهلُ والخطَأُ، والانغلاقُ على الشَّخصِ والإكراهُ، وما شابه ذلك. فتأمَّلْ. .
وسُئِل: عن حُكمِ من يمزحُ بكلامٍ فيه استهزاءٌ باللهِ أو الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أو الدِّين؟
فأجاب بقَولِه: (هذا العَمَلُ، وهـو الاستهزاءُ باللهِ أو رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أو كتابِه أو دينِه، ولو كان على سبيل المزْح، ولو كان على سبيلِ إضْحاكِ القَومِ- كفرٌ ونفاقٌ، وهو نفسُ الذي وقع في عهدِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، في الَّذين قالوا: "ما رأَينا مِثْلَ قُرَّائنا هؤلاء أرغبَ بطونًا، ولا أكذبَ ألسُنًا، ولا أجبنَ عند اللِّقاء"، يعني: رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأصحابَه القُرَّاءَ، فنزلت فيهم: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ ليَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ) [1273] يُنظر: المصدر السابق (2/156). .
16. بكر بن عبد الله أبو زيد. ت: 1429هـ:
قال بكر أبو زيد: (… وأنَّ الكُفْرَ يكونُ بالاعتِقادِ وبالقَوْلِ وبالفِعْل وبالشَّكِّ وبالتَّرك، وليس محصورًا بالتَّكذيبِ بالقَلْبِ، كما تقولُه المرجِئة، ولا يلزمُ من زوالِ بَعْضِ الإيمانِ زوالُ كلِّه كما تقولُه الخوارجُ) [1274] يُنظر: ((درء الفتنة عن أهل السُّنَّة)) (ص: 27). .
وقال أيضًا: (للحُكمِ بالرِّدَّةِ والكُفْرِ مُوجِباتٌ وأسبابٌ هي نَواقِضُ الإيمانِ والإسلامِ؛ من اعتقادٍ، أو قولٍ، أو فعلٍ، أو شكٍّ، أو ترك، ممَّا قام على اعتبارِه ناقضًا الدَّليلُ الواضِحُ، والبرهانُ السَّاطِعُ من الكِتابِ أو السُّنَّةِ أو الإجماعِ) [1275] يُنظر: المصدر السابق (ص: 20). .
وقال بعد أن ضَرَب أمثلةً لكُفرِ الأقوالِ والأعمالِ: (فكلُّ هؤلاء قد كفرَّهم اللهُ ورَسولُه بعد إيمانِهم، بأقوالٍ وأعمالٍ صَدَرت منهم، ولو لم يَعتَقِدوها بقُلوبِهم؛ لا كما تقولُ المرجِئةُ المنحَرِفون، نعوذُ بالله من ذلك) [1276] يُنظر: المصدر السابق (ص: 49). .
17. عبد الله بن عبد الرَّحمن الجبرين. ت: 1430هـ:
قال ابنُ جبرين: (فنحن نستدلُّ بفِعلِ الإنسانِ على عقيدتِه، فمتى رأينا شخصًا وَقَف عند قبرِ إنسانٍ معظَّمٍ في نَفْسِه، وخضع برأسِه، وتذلَّل، وأهطع، وأقنع، وخشع، وخفَّض صوتَه، وسكنت جوارحُه، وأحضر قَلْبَه ولُبَّه؛ أعظَمَ مما يفعل في الصَّلاة بين يديْ ربِّه عزَّ وجلَّ، وهتف باسم ذلك المقبورِ، وناداه نداءَ من وثق منه بالعطاءِ، وعلَّق عليه الرَّجاءَ ونحو ذلك- فإنَّنا لا نشكُّ أنَّه -والحالةُ هذه- يَعتَقِد أنَّه يعطيه سؤلَه، ويدفَعُ عنه السوءَ، وأنَّه يستطيع التَّصرُّفَ في أمرِ الله، ففِعْلُه هذا دليلُ سُوءِ مُعتَقَدِه، فلا حاجةَ لنا أن نسألَه: هل أنت تعتَقِدُ أنَّه يضرُّ وينفَعُ من غيرِ إذنِ الله؟ فاللهُ تعالى ما كلَّفنا أن ننقِّب عن قلوبِ النَّاس، وإنَّما نأخُذُهم بموجِبِ أفعالِهم وأقوالِهم الظَّاهِرةِ، وهذا الشَّخصُ قد خالف قَولَ اللهِ تعالى: وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ [يونس: 106] ، وقد رأينا خُشوعَه وتذلُّلَه أمامَ هذا المخلوقِ الميِّتِ، وذلك هو عينُ العبادةِ، كما عَرَفْنا، فنحكُمُ عليه بموجِبِ فِعْلِه وقَولِه، بأنَّه قد أشركَ باللهِ، وتألَّه سِواه) [1277] يُنظر: ((الكنز الثَّمين)) (1/291). .
وقال في رَدِّه على بَعْض الكتَّاب: (ثالثًا: ثُمَّ قال الكاتِبُ في الصَّفحةِ الثَّالثة في أوَّلِ السَّطرِ التَّاسع: أمَّا من اعتقد فيمن يناديه بأنَّه من أهلِ العطاء، وما ملَكَ إلَّا بتمليكِ الله، ولا يتصرَّفُ إلَّا بإذن اللهِ؛ فهو موحِّدٌ.. إلخ.
فنقول: لا حاجةَ لنا في التَّنقيبِ عن مُعتَقَدِه الذي يقومُ بقَلْبِه؛ فإنَّه أمرٌ خفيٌّ، وقد يقولُ بلِسانِه ما ليس في قَلْبِه، فنحن نأخُذُه بالظَّاهِرِ، فإنَّ أفعالَه تعبِّرُ عمَّا في ضميره، ولو حاول تغييرَه لم يستطِعْ) [1278] يُنظر: المصدر السابق (1/291). .
18. صالح بن فوزان الفوزان:
قال الفوزان: (ففي هاتين الآيتينِ الكريمتين مع بيانِ سَبَبِ نزولهما دليلٌ واضحٌ على كُفرِ من استهزأ باللهِ، أو رسولِه، أو آياتِ اللهِ، أو سنَّةِ رَسولِه، أو بصحابةِ رَسولِ الله؛ لأنَّ من فَعَل ذلك فهو مستخفٌّ بالرُّبوبيَّة والرِّسالة، وذلك منافٍ للتَّوحيد والعقيدة، ولو لم يقصِد حقيقةَ الاستهزاءِ، ومن هذا البابِ الاستهزاءُ بالعِلمِ وأهلِه، وعدمُ احترامِهم، أو الوقيعةُ فيهم من أجلِ العِلمِ الذي يحمِلونه، وكون ذلك كُفرًا ولو لم يقصِدْ حقيقةَ الاستهزاءِ؛ لأنَّ هؤلاء الذين نزلت فيهم الآياتُ جاؤوا معترفين بما صدَر منهم، ومعتَذِرين بقَولِهم: إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ أي: لم نقصِدِ الاستهزاءَ والتَّكذيبَ، وإنَّما قصَدْنا اللَّعِبَ، واللَّعِـبُ ضِدُّ الجدِّ، فأخبرهم اللهُ على لسانِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ عُذْرَهم هذا لا يُغني من الله شيئًا، وأنَّهم كفروا بعد إيمانِهم بهذه المقالةِ التي استهزؤوا بها، ولم يُقبَلِ اعتذارُهم بأنَّهم لم يكونوا جادِّين في قَولِهم، وإنَّما قصدوا اللَّعِب، ولم يزِدْ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في إجابتهم على تلاوةِ قَولِ اللهِ تعالى: أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُـمْ؛ لأنَّ هذا لا يدخُلُه المزحُ واللَّعِبُ، وإنَّما الواجِبُ أنْ تُحْتَرمَ هذه الأشياءُ وتُعظَّم، وليخشَعَ عند آياتِ اللهِ إيمانًا باللهِ ورَسولِه، وتعظيمًا لآياتِه، والخائضُ الَّلاعبُ منتقِصٌ لها … قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّة رحمه الله: فقد أخبر أنَّهم كَفَروا بعد إيمانِهم، مع قَولِهم: إنَّما تكلَّمْنا بالكُفْرِ مِن غيرِ اعتقادٍ له، بل إنَّما كنَّا نخوضُ ونلعبُ، وبيَّن أنَّ الاستهزاءَ بآياتِ اللهِ كُفرٌ، ولا يكونُ هذا إلَّا ممن شرح صدرًا بهذا الكلامِ، ولو كان الإيمانُ في قلبه لمنعَه أنْ يتكلَّم بهذا الكلامِ، والقرآنُ يبيِّن أنَّ إيمانَ القَلْبِ يستلزِمُ العَمَلَ الظَّاهِرَ بحَسَبِه) [1279] يُنظر: ((الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد)) (ص 80). .
وقال أيضًا: (وأمَّا الكُفْرُ فهو الامتناعُ من الدُّخولِ في الإسلامِ أو الخروجِ منه، واختيارُ دينٍ غيرِ دينِ اللهِ؛ إمَّا تكبُّرًا وعنادًا، وإمَّا حميَّةً لدينِ الآباءِ والأجدادِ، وإمَّا طمعًا في عرَضٍ عاجلٍ من مالٍ أو جاهٍ أو منصبٍ، … ويكون الكُفْرُ بالعَمَلِ؛ كالذَّبحِ لغيرِ الِله والسُّجودِ لغَيرِ اللهِ وعَمَلِ السِّحرِ وتعلُّمِه وتعليمِه، ... فلا يكونُ الكُفْرُ بالتَّكذيبِ فقط، ثمَّ إنَّه قد يكونُ الكافِرُ كافِرًا أصليًّا لم يدخُلْ في الإسلامِ أصلًا، وقد يكون كافِرًا كُفْرَ رِدَّة إذا دخل في الإسلامِ ثمَّ ارتكب ناقضًا من نَواقِضِه الَّتي هي من أنواعِ الكُفْرِ، سواءٌ كان جادًّا أو هازلًا أو قاصدًا الطَّمَعَ من مطامِعِ الدُّنْيا من الحُصولِ على مالٍ أو جاهٍ أو منصِبٍ، إلَّا من فعل شيئًا من ذلك أو قالَه مُكْرهًا بقَصدِ دَفعِ الإكراهِ مع بقاءِ قَلْبِه على الإيمانِ، كما قال تعالى: مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَليْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللهِ وَلهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُوْلئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ * لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمْ الْخَاسِرُونَ) [1280] يُنظر: صحيفة المسلمون. العدد 699. .
وقال أيضًا: (فالحاصِلُ أنَّ الَّذي يتكلَّم بكَلِمة الكُفْر لا يخلو من أربعِ حالاتٍ:
الحالةُ الأولى: أنْ يكونَ مُعتَقِدًا ذلك بقَلْبِه، فهذا لا شكَّ في كُفْرِه.
الحالةُ الثَّانية: ألَّا يكونَ مُعتَقِدًا بذلك بقَلْبِه، ولم يُكرَهْ على ذلك، ولكِنْ فَعَله من أجلِ طَمَعِ الدُّنيا أو مداراةِ النَّاسِ وموافَقَتِهم، فهذا كافِرٌ بنصِّ الآيةِ: ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الحَيَاةَ الدُّنْيا عَلَى الآخِرَةِ، وكذلك في فِعْلِ الكُفْر والشِّرك موافقةُ أهلِه، وهو لا يحبُّه، ولا يَعتَقِدُه بقَلْبِه، وإنَّما فعَلَه شُحًّا ببَلَدِه أو مالِه أو عشيرتِه.
الحالةُ الثَّالثةُ: أنْ يفعَلَ ذلك مازحًا ولاعبًا كما حصل من النَّفَرِ المذكورينَ.
الحالةُ الرَّابعةُ: أَنْ يقولَ ذلك مُكْرهًا لا مختارًا، وقَلْبُه مُطمَئِنٌّ بالإيمانِ، فهذا مرخَّصٌ له في ذلك دفعًا للإكراه، وأمَّا الأحوالُ الثَّلاثةُ الماضيةُ فإنَّ صاحِبَها يَكفُرُ كما صرَّحت به الآياتُ، وفي هذا ردٌّ على من يقولُ: إنَّ الإنسانَ لا يُحْكَم عليه بالكُفْرِ ولو قال كَلِمةَ الكُفْرِ أو فَعَل أفعالَ الكُفْرِ حتَّى يُعلَم ما في قَلْبِه، وهذا قولٌ باطلٌ مخالفٌ للنُّصوصِ!) [1281] يُنظر: ((شرح كتاب كشف الشبهات)) (ص: 163). .
19. الموسوعةُ الفقهيَّةُ الكويتيَّةُ:
جاء في الموسوعةِ الفِقهيَّةِ الكويتيَّةِ: (التَّكفيرُ بالقَوْلِ: اتَّفق العُلَماءُ على تكفيرِ من صدر منه قولٌ مكفِّرٌ، سواءً أقاله استهزاءً، أم عنادًا، أم اعتقادًا؛ لقَولِه تعالى: قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) [1282] يُنظر: ((الموسوعة الفقهيّة الكويتيَّة)) (13/ 230). .
وجاء فيها: (التَّكفيرُ بالعَمَل: نصَّ الفُقَهاءُ على أفعالٍ لو فعلها المكلَّف فإنَّه يكفُرُ بها، وهي كُلُّ ما تعمَّدَه استهزاءً صريحًا بالدِّين أو جحودًا له؛ كالسُّجودِ لِصَنَمٍ أو شمسٍ أو قمرٍ، فإنَّ هذه الأفعالَ تدلُّ على عَدَمِ التَّصديقِ، وكإلقاءِ المصحَفِ في قاذورةٍ، فإنَّه يكفُرُ وإنْ كان مصدِّقًا؛ لأنَّ ذلك في حُكمِ التَّكذيبِ، ولأنَّه صريحٌ في الاستِخفافِ بكَلامِ اللهِ تعالى، والاستخفافُ بالكلامِ استخفافٌ بالمتكلِّمِ) [1283] يُنظر: المصدر السابق (13/ 233). .