المَطْلَبُ الثَّامِنُ: سُوقُ أهلِ الجَنَّةِ وزيارةُ اللهِ تعالى
عَن
أنسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((إنَّ في الجَنَّةِ لَسُوقًا يَأتُونَها كُلَّ جُمُعةٍ فتَهُبُّ ريحُ الشَّمالِ فتَحثُو في وُجُوهِهم وثيابِهم، فيَزدادُونَ حُسْنًا وجَمالًا، فيَرجِعُونَ إلى أهليهم وقَدِ ازدادُوا حُسْنًا وجَمالًا، فيَقُولُ لَهم أهلُوهم: واللهِ لَقَدِ ازدَدْتُم بَعْدَنا حُسْنًا وجَمالًا، فيَقُولُونَ: وأنتُم واللهِ لَقَدِ ازدَدتُم بَعْدَنا حُسْنًا وجَمالًا ))
.
قال عِياضٌ: (قَولُه:
((إنَّ في الجَنَّةِ لَسُوقًا)) الحَديثُ، يُريدُ: مُجتَمَعًا لِأهلِ الجَنَّةِ، كَما تَجتَمِعُ إلى السُّوقِ في الدُّنيا، وهذا يَومُ المَزارِ وهو يَومُ الجُمُعةِ، ويَومُ المَزيدِ، كَما قال في الحَديثِ. وسُمِّيَ السُّوقُ سُوقًا لِسَوقِ مَن يَأتيها مِنَ النَّاسِ ببضائِعِهم إليها. والسُّوقُ يُذكَّرُ ويُؤَنَّثُ. وقَولُه:
((فتَهُبُّ ريحُ الشَّمالِ)):... وهي التي تَأتي مِن دُبُرِ القِبلةِ. وخُصَّ ريحُ الجَنَّةِ بالشَّمالِ -واللهُ أعلَمُ- بأنَّها ريحُ المَطَرِ عِندَ العَرب، كانَت تَهُبُّ مِنَ الشَّامِ، وبها يَأتى سَحابُ المَطَرِ، وكانَت تُرجى السَّحابُ الشَّاميَّةُ؛ ولِذَلِكَ أيضًا سَمَّى هذه الرِّيحَ في الحَديثِ الآخَرِ:
((المُثيرةَ)) أي المُجَداة، كَما قال:
((فتَحثُو في وُجُوهِهم)) يَعني: ما يُثيرُه مِن مِسكِ أرضِ الجَنَّةِ وغيرِ ذَلِكَ مِن نَعيمِها، وهو مُقابَلةُ الجَنُوبِ)
.
وقال أبُو العَبَّاس القُرطُبيُّ: (سُمِّي سُوقًا لِقيامِ النَّاسِ فيها على ساقٍ، وقيلَ: لِسَوقِ النَّاسِ بضائِعَهم إليها، فيُحتَمَلُ أن يَكُونَ سُوقُ الجَنَّةِ عِبارةً عَن مُجتَمَعِ أهلِ الجَنَّةِ، ومَحَلِّ تَزاوُرِهم، وسُمِّيَ سُوقًا بالمَعنى الأولِ، ويُؤيِّدُ هذا أنَّ أهلَ الجَنةِ لا يَفقِدُونَ شيئًا حَتَّى يَحتاجُوا إلى شِرائِه مِنَ السُّوقِ، ويُحتَمَلُ أن يَكُونَ سُوقًا مُشتَمِلًا على مَحاسِنَ مُشتَهياتٍ مُستَلَذَّاتٍ، تُجمَعُ هنالِكَ مُرَتَّبةً مُحَسَّنةً، كَما تُجمَعُ في الأسواقِ، حَتَّى إذا جاءَ أهلُ الجَنةِ فرَأَوها، فمَنِ اشتَهى شيئًا وصَلَ إليه مِن غيرِ مُبايَعةٍ ولا مُعاوَضةٍ، ونَعيمُ الجَنَّةِ وخيرُها أعظَمُ وأوسَعُ مِن ذَلِكَ كُلِّه، وخُصَّ يَومُ الجُمُعةِ بذَلِكَ لِفَضيلَتِه، ولِما خَصَّه اللهُ تعالى به مِنَ الأُمُورِ الَّتي تقَدَّم ذِكرُها، ولِأنَّه يَومُ المَزيدِ، أيِ اليَومُ الَّذي يُوفَّى لَهم ما وُعِدُوا به مِنَ الزِّيادةِ. وأيَّامُ الجَنَّةِ تَقديريَّةٌ؛ إذ لا ليلَ هناكَ ولا نَهارَ، وإنَّما هناكَ أنوارٌ مُتَواليةٌ لا ظُلْمةَ مَعَها... وقَولُه:
((فتَهُبُّ ريحُ الشَّمالِ فتَحثُو في وُجُوهِهم وثيابِهم)) ريحُ الشَّمالِ في الدُّنيا: هي الَّتي تَأتي مِن دُبُرِ القِبلةِ مِن ناحيةِ الشَّامِ، وهي الَّتي تَأتي بلادَ العَرَب بالأمطارِ، فهي عِندَهم أحسَنُ الأرياحِ؛ فلِذَلِكَ سُمِّيَ ريحُ الجَنَّةِ بالشَّمالِ... ويُقابلُها: الجَنُوبُ، وقَد سَمِّيَتْ هذه الرِّيحُ في حَديثٍ آخَرَ بالمُثيرةِ؛ لِأنَّها تُثيرُ النَّعيمَ والطِّيبَ على أهلِ الجَنَّةِ)
.
وقال ابنُ عَلَّانَ: (
((فتَحثُو في وُجُوهِهم وثيابِهم)) حُذِفَ المَحثُوُّ إيماءً إلى تَعميمِ جَميعِ أنواعِ الكَمالِ الَّتي يَجُولُ في الخاطِرِ وُجُودُها ثَمَّةَ؛ فلِذا قال عَقِبَه:
((فيَزدادُونَ حُسْنًا وجَمالًا فيَرجِعُونَ إلى أهليهم))...
((وقَدِ ازدادُوا حُسْنًا وجَمالًا)) جُملةٌ حاليَّةٌ مِن فاعِلِ يَرجِعُونَ
((فيَقُولُ لَهم أهلُوهم)) أي: عِندَ وُقُوعِ نَظَرِهم عليه، كَما يَدُلُّ عليه الفاءُ الدَّالَّةُ على التَّعقيبِ:
((واللهِ لَقَدِ ازدَدتُم حُسْنًا وجَمالًا)) كانَ التَّأكيدُ لِإنكارِ المُخاطَبينَ ذَلِكَ لِعَدَمِ رُؤياه لَه في أنفُسِهم، فيُذعِنُونَ عِندَ ذَلِكَ ويَنظُرُونَ إلى أهليهم فيرَونَهم زِيدُوا كَذَلِكَ
((فيَقُولُونَ)) عَطْفٌ على قَولِ أزواجِهم:
((وأنتم)) قَدَّمَه على القَسَمِ اهتِمامًا به
((واللهِ لَقَدِ ازدَدتُم بَعدَنا حُسْنًا وجَمالًا)) أتَوا بالقَسَمِ لِتَرَدُّدِ المُخاطَبينَ به في ثُبُوتِه، وفيه إيماءٌ إلى أنَّ الجَمالَ مُتَزايِدٌ في الجَنَّةِ شيئًا بَعدَ شيءٍ)
.
وعَن
أنسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنه قال: (يَقُولُ أهلُ الجَنةِ: انطَلِقُوا إلى السُّوقِ، فيَنطَلِقُون إلى كُثبانِ المِسْكِ، فإذا رَجَعُوا إلى أزواجِهم قالُوا: إنَّا لِنَجِدُ لَكُنَّ رِيحًا ما كانَت لَكُنَّ، قال: فيَقُلْنَ: ولَقَد رَجَعتُم بريحٍ ما كانَت لَكم إذ خَرجتُم مِن عِندِنا)
.