الفَرعُ الثَّاني: تَنَوُّعُ أبوابِ الجَنَّةِ بحَسَبِ العِباداتِ
عَن أبي هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عَنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((مَن أنفَقَ زَوجينِ مِن شيءٍ مِنَ الأشياءِ في سَبيلِ اللهِ دُعِيَ مِن أبواب -يَعني الجَنَّةَ- يا عَبدَ اللهِ، هذا خيرٌ، فمَن كانَ مِن أهلِ الصَّلاةِ دُعيَ مِن باب الصَّلاةِ، ومَن كانَ مِن أهلِ الجِهادِ دُعيَ مِن باب الجِهادِ، ومَن كانَ مِن أهلِ الصَّدَقةِ دُعيَ مِن باب الصَّدَقةِ، ومَن كانَ مِن أهلِ الصِّيامِ دُعيَ مِن باب الصِّيامِ، وبابِ الرَّيَّانِ، فقال أبُو بَكْرٍ: ما على هذا الَّذي يُدعى مِن تِلكَ الأبوابِ مِن ضَرُورةٍ، وقال: هَل يُدعى مِنها كُلِّها أحَدٌ يا رَسولَ اللهِ؟ قال: نَعَم، وأرجُو أن تَكُونَ مِنهم يا أبا بَكرٍ ))
.
قال عياضٌ: (قَولُه:
((مَن أنفَقَ زَوجينِ في سَبيلِ اللهِ)) أي شيئينِ... والمَقصُودُ مِن هذا كُلِّه -واللهُ أعلَمُ- تَشفيعُ صَدَقَتِه بأُخرى مِثلِها، والتَّنبيهُ على فضلِ الصَّدَقةِ والنَّفقةِ في سَبيلِ اللهِ، والِاستِكثارِ مِنها. وقَولُه:
((فى سَبيلِ اللهـ)): قيلَ: يُحتَمَلُ العُمُومُ في جَميعِ وُجُوه الخيرِ، وقيلَ: الخُصُوصُ في الجِهادِ، والأولُ أظهَرُ. وقَولُه:
((نُودي: هذا خيرٌ)): فيه وجهانِ، أي: هنالِكَ خيرٌ وثَوابٌ وغِبطةٌ، والآخَرُ: هذا البابُ خيرٌ مِن غيرِه مِنَ الأبواب لَكَ؛ لِكَثرةِ ثَوابِه ونَعيمِهـ)
.
وقال النَّوويُّ: (قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((نُوديَ في الجَنَّةِ: يا عَبدَ اللهِ هذا خيرٌ)) قيلَ: مَعناه: لَكَ هنا خيرٌ وثَوابٌ وغِبطةٌ، وقيلَ: مَعناه: هذا البابُ فيما نَعتَقِدُه خيرٌ لَكَ مِن غيرِه مِنَ الأبواب لِكَثرةِ ثَوابِه ونَعيمِه، فتَعالَ فادخُلْ مِنه ولا بُدَّ مِن تَقديرِ ما ذَكَرْناه أنَّ كُلَّ مُنادٍ يَعتَقِدُ ذَلِكَ البابَ أفضَلَ مِن غيرِه. قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((فمَن كانَ مِن أهلِ الصَّلاةِ دُعيَ مِن بابِ الصَّلاةِ)) وذَكَرَ مِثلَه في الصَّدَقةِ والجِهادِ والصِّيامِ، قال العُلَماءُ: مَعناه: مَن كانَ الغالِبُ عليه في عَمَلِه وطاعَتِه ذَلِكَ. قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في صاحِب الصَّومِ
((دُعِيَ مِن بابِ الرَّيَّانِ)) قال العُلَماءُ: سُمِّيَ بابَ الرَّيَّانِ تَنبيهًا على أنَّ العَطشانَ بالصَّومِ في الهَواجِرِ سيَرْوى وعاقِبَتَه إليه وهو مُشتَقٌّ مِنَ الرِّيِّ)
.
وقال المظهريُّ: (قَولُه:
((مَن أنفَقَ زَوجينِ مِن شيءٍ مِنَ الأشياءِ))، قَد جاءَ في بَعضِ الرِّواياتِ: أنَّه قيلَ لِرَسُولِ الله عليه السَّلامُ:
((وما زَوجانِ؟ قال: فَرَسانِ أو عَبدانِ أو بَعيرانِ مِن إبلِهـ))
؛ مَعناه: مِن كُلِّ شيءٍ يَتَصَدَّقُ به يشفعُ مِن ذَلِكَ الجِنسِ، أي: يُعطى شيئينِ لا شيئًا واحِدًا، فإنْ أعطى الدِّرهمَ يُعطى الدَّرهمينِ، وإن أعطى ثَوبًا يُعطى ثَوبينِ، وكَذَلِكَ جَميعُ الأشياءِ.
قَولُه:
((فمَن كانَ مِن أهلِ الصَّلاةِ)) يَعني: مَن كانَ يُكثِرُ صَلاةَ النَّافِلةِ إذا قَرُبَ مِنَ الجَنَّةِ نُودِيَ مِن باب الصَّلاةِ: يا عَبدَ اللهِ، ادخُلِ الجَنَّةَ مِن هذا البابِ.
((ومَن كانَ مِن أهلِ الجِهادِ)) يَعني: يُكثِرُ الجِهادَ نُودِيَ أيضًا مِن باب الجِهادِ، وكَذَلِكَ جَميعُ الخيراتِ.
قَولُه:
((مِن بابِ الرَّيَّانِ)): ضِدُّ
((العَطشانِ))، يَعني: يُسقى الصَّائِمُ مِن ذَلِكَ البابِ شَرابًا طَهورًا قَبلَ أن يَدخُلَ وسَطَ الجَنَّةِ؛ ليَزُولَ عَطشُ الصِّيامِ عَنه.
قَولُه:
((ما على مِن دُعيَ مِن تِلكَ الأبواب مِن ضَرُورةِ))... أي: ليسَ ضَرُورةٌ على مِن دُعيَ مِن تِلكَ الأبوابِ واحتياجٌ، يَعني: لَو دُعِيَ مِن بابٍ واحِدٍ يَحصُلُ مُرادُه، وهو دُخُولُ الجَنَّةِ، وليسَ عليه ضَرُورةٌ واحتياجٌ إلى أن يُدعى مِن جَميعِ الأبوابِ، ومَعَ أنَّه لا ضَرُورةَ عليه في أن يُدعى مِن جَميعِ الأبوابِ، فهَل يَكُونُ أحَدٌ يُدعى مِن جَميعِ الأبوابِ؟
فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((نَعَم)): يَكُونُ جَماعةٌ كَثيرُون يُدعَونَ مِن جَميعِ الأبوابِ.
((وأرجُو أن تَكُونَ مِنهم)): فمَن كَثُرَت صَلاتُه وصيامُه وجِهادُه وغيرُ ذَلِكَ مِنَ الخيراتِ، نُودِي مِن كُلِّ بابٍ: يا عَبدَ اللَّهِ، ادخُلْ مِن هذا البابِ)
.
وقال
ابنُ باز: (
((نُودِيَ مِن أبوابِ الجَنَّةِ: يا عَبدَ اللهِ، هذا خيرٌ)) كُلُّ الأبواب يُحِبُّونَ أن يَدخُلَ مِن عِندِهم)
.
وقال
ابنُ عُثيمين: (هذه الأبوابُ كانَت ثَمانيةً بحَسَب الأعمالِ؛ لِأنَّ كُلَّ بابٍ لَه عُمَّالٌ؛ فأهلُ الصَّلاةِ يُنادَونَ مِن باب الصَّلاةِ، وأهلُ الصَّدَقةِ مِن بابِ الصَّدَقةِ، وأهلُ الجِهادِ مِن بابِ الجِهادِ، وأهلُ الصِّيامِ مِن بابِ الرَّيَّانِ.
وقَد يُوفِّقُ اللهُ عَزَّ وجَلَّ بَعضَ النَّاسِ لِأعمالٍ صالِحةٍ شامِلةٍ؛ فيُدعى مِن جَميعِ الأبواب... فإنَّ قُلتَ: إذا كانَتِ الأبوابُ بحَسَب الأعمالِ؛ لَزِمَ أن يُدعى كُلُّ أحَدٍ مِن كُلِّ تِلكَ الأبواب إذا عَمِلَ بأعمالِها؛ فما هو الجَوابُ؟
فالجَوابُ: أن يُقال: يُدعى مِنَ الباب المُعيَّنِ مَن كانَ يُكثِرُ مِنَ العَمَلِ المُخَصَّصِ لَه؛ مَثَلًا: إذا كانَ هذا الرَّجُلُ كَثيرَ الصَّلاةِ، فيُدعى مِن بابِ الصَّلاةِ، كَثيرَ الصِّيامِ مِن بابِ الرَّيَّانِ، وليسَ كُلُّ إنسانٍ تَحصُلُ لَه الكَثرةُ في كُلِّ عَمَلٍ صالِحٍ؛ لِأنَّكَ تَجِدُ في نَفسِكَ بَعضَ الأعمالِ أكثَرَ وأنشَطَ مِن بَعضٍ، لَكِن قَد يَمُنُّ اللهُ على بَعضِ النَّاسِ، فيَكُونُ نَشيطًا قَويًّا في جَميعِ الأعمالِ، كَما سَبَقَ في قِصَّةِ
أبي بَكرٍ رَضِيَ اللهُ عَنهـ)
.