الموسوعة العقدية

الفرعُ  الأول: الأسبابُ الشَّرعيَّةُ لرَفضِ المَنطِقِ الأرُسطيِّ

1- عدمُ صِحَّةِ نتائجِه وصِدقِ قضاياه بصورةٍ دائِمةٍ ومُطَّرِدةٍ، فيظنُّ من يرى صِدْقَه في بَعضِ الجوانِبِ أنَّ ما يتعَلَّقُ بالعقائِدِ مُبرهَنٌ كذلك بمِثلِ تلك البراهينِ؛ قال الغزاليُّ في مَعرِضِ نَقدِه للمَنطِقِ: (ربَّما يَنظُرُ في المنطقِ أيضًا مَن يَستحسِنُه ويراه واضحًا، فيظُنُّ أنَّ ما يُنقَل عنهم من الكُفريَّاتِ مُؤيَّدٌ بمثلِ تلك البراهينِ، فاستعجَلَ بالكُفرِ قبل الانتهاءِ إلى العُلومِ الإلهيَّةِ، فهذه الآفةُ أيضًا مُتطرِّقةٌ إليه) [177] يُنظر: ((المنقذ من الضلال)) (ص: 142). .
وقال ابنُ تَيميَّةَ: (كنتُ أحسَبُ أنَّ قضاياه -أي المنطِقِ- صادقةٌ؛ لِما رأيتُ من صدقِ كثيرٍ منها، ثم تبيَّن لي فيما بعدُ خطأُ طائفةٍ من قضاياه... وتبيَّن لي أنَّ كثيرًا ممَّا ذكروه في أصولِهم في الإلهيَّاتِ وفي المنطِقِ هو من أُصولِ فَسادِ قولِهم في الإلهيَّاتِ) [178] يُنظر: ((الرد على المنطقيين)) (ص: 3). .
2- قُصورُ البُرهانِ الفَلسفيِّ عن الوُصولِ بالإنسانِ إلى اليَقينِ عندَ تَطبيقِه في الإلهيَّاتِ.
قال الغزاليُّ: (لهم نوعٌ من الظُّلمِ في هذا العِلمِ، وهو أنَّهم يَجمَعون للبُرهانِ شُروطًا يُعلَم أنَّها تُورِثُ اليَقينَ لا محالةَ، لكنَّهم عند الانتهاءِ إلى المقاصِدِ الدِّينيَّةِ ما أمكَنَهم الوفاءُ بتلك الشُّروطِ، بل تساهَلوا غايةَ التَّساهُلِ) [179] يُنظر: ((المنقذ من الضلال)) (ص: 142). .
3- ما يلزَمُ منه من لوازمَ فاسِدةٍ تُناقِضُ العِلمَ والإيمانَ، وتُفضي إلى أنواعٍ مِنَ الجَهلِ والكُفرِ والضَّلالِ [180] يُنظر: ((الرد على المنطقيين)) لابن تَيميَّةَ (ص: 198). . ومن ذلك:
أ- القولُ بقِدَم العالَمِ؛ وذلك لأنَّ الإلهَ لا يسبِقُ العالمَ في الوُجودِ الزَّمنيِّ، وإن كان يَسبِقُه في الوُجودِ الفِكْريِّ، مِثلَما تسبِقُ المقَدِّمةُ النَّتيجةَ في الوُجودِ الفِكريِّ [181] يُنظر: ((تهافت الفلاسفة)) للغزالي (ص: 88). .
ب- إنكارُ الصِّفاتِ الثُّبوتيَّةِ لله تعالى، بل يَصِفونَه بالنَّفيِ المحْضِ، أو بما لا يتضَمَّنُ إلَّا النَّفيَ؛ ولهذا قالوا: الواحِدُ لا يَصدُرُ عنه إلَّا واحِدٌ؛ لأنَّه لو صدَرَ عنه اثنانِ لكان ذلك مخالِفًا للوَحْدةِ، وبهذا نَفَوا أن يكونَ اللهُ فاعلًا مُختارًا [182] يُنظر: ((الرد على المنطقيين)) لابن تَيميَّةَ (ص: 214). !
ج- إنكارُ عِلمِ اللهِ تعالى بالجزئيَّاتِ؛ فالله تعالى عِندَهم يَعلَمُ الأمورَ الكُلِّيَّةَ دونَ أفرادِها وجزئيَّاتها؛ وذلك لأنَّ هذه الجزئيَّاتِ في تغيُّرٍ وتجَدُّدٍ، فلو تعلَّق عِلمُ اللهِ تعالى بها للَزِمَه التغيُّرُ والتجَدُّدُ بتغيُّرِ المعلومِ وتجَدُّدِه، فيلزَمُ من ذلك التغيُّرُ في ذاتِ الله تعالى، وهو الواحِدُ الأحَدُ [183] يُنظر: ((تهافت الفلاسفة)) للغزالي (ص: 202). !
د- إنكارُ النبُوَّاتِ: لَمَّا رأى الفلاسفةُ اشتراكَ النُّفوسِ في كثيرٍ مِن الأحوالِ عادةً، جعلوا ذلك أمرًا عامًّا وكُليًّا ومُلزِمًا لكُلِّ النُّفوسِ، ورَأَوا لبعضِ النُّفوسِ قوَّةً حَدْسيَّةً، وتأثيرًا في بعضِ الأمورِ، وأمورًا متخَيَّلةً، فلمَّا بلَغَهم من أمرِ الأنبياءِ كالمُعجِزاتِ، ونزولِ الوَحيِ، ورؤيةِ الملائِكةِ، وغيرِ ذلك؛ جعلوا ما يحدُثُ للأنبياءِ على نحوِ ما يكونُ لتلك النُّفوسِ، فليست النبُوَّةُ -عندهم- هبةَ اللهِ ومِنَّتَه على بَعضِ عِبادِه، بل هي أمرٌ مُكتَسَبٌ تستعِدُّ له النُّفوسُ بأنواعِ الرِّياضاتِ [184] يُنظر: ((الرد على المنطقيين)) لابن تَيميَّةَ (ص: 277، 474). .
هـ- إنكارُ الأخبارِ المتواترةِ؛ وذلك أنَّ الأُمورَ المعلومةَ بالتواتُرِ والتَّجرِبةِ والحَدْسِ عند المناطِقةِ؛ احتماليَّةُ الصِّدقِ، ويختصُّ بها من عَلِمَها، فلا تكونُ حُجَّةً على غيرِه، كما أنَّ صِدْقَها قاصِرٌ على الجزئيَّةِ التي جُرِّبت، أو سُمِعَت، أو شُوهِدت، فهي جزئيَّةٌ من جهةِ نَفْسِها، ومن جِهةِ العِلمِ بها، وعليه، فما يتواترُ عن الأنبياءِ مِن أمرِ المُعجِزاتِ وغيرِها من أحوالِهم وشرائِعِهم لا تقومُ به حُجَّةٌ، وهذا من أُصولِ الإلحادِ والزَّندَقةِ، وبناءً على هذا يقولُ من يقولُ من أهلِ الإلحادِ: هذا لم يتواتَرْ عندي، فلا تقومُ به الحُجَّةُ عليَّ. فيقالُ له: اسمَعْ كما سَمِعَ غَيرُك، وحينَئذٍ يَحصُلُ لك العِلمُ، وإنَّما هذا كقولِ من يقولُ: رؤيةُ الهلالِ أو غيرِه لا تحصُلُ إلَّا بالحِسِّ، وأنا لم أَرَه، فيقالُ له: انظُرْ إليه كما نظَرَ غَيرُك فستراه، إذا كنتَ لم تصَدِّقِ المخبِرينَ.
ثمَّ إنَّه ليس من شَرطِ قيامِ حُجَّةِ الله تعالى عِلمُ المدعُوِّين بها؛ ولهذا لم يكُنْ إعراضُ الكفَّارِ عن استماعِ القُرآنِ وتدَبُّرِه مانعًا من قيامِ الحُجَّةِ عليهم، وأيضًا فإنَّ عَدَمَ العِلمِ ليس عِلمًا بالعدَمِ؛ فهم إذا لم يَعلَموا ذلك لم يكُنْ هذا عِلمًا منهم بعَدَمِ ذلك، ولا بعدَمِ عِلمِ غَيرِهم به، بل هم كما قال الله تعالى: بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ... [يونس: 39] [185] يُنظر: ((الرد على المنطقيين)) لابن تَيميَّةَ (ص: 92). ويُنظر: ((منهج الاستدلال على مَسائِل الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة)) لعثمان حسن (2/611). .

انظر أيضا: