المبحث الأول: الجهل التشكيل
تمهيدٌ
مسألةُ العُذْر بالجَهْلِ مِن مَسائِلِ العَقيدةِ المُهِمَّةِ التي ينبغي الاعتِناءُ بها وضَبطُها جَيِّدًا، والمقصودُ بهذه المسألةِ هو: مَن وقَعَ في الكُفرِ أو الشِّركِ إذا كان جاهِلًا بأنَّ ما فَعَله كُفرٌ أو شِركٌ أو مَعصيةٌ: هل يُكفَّرُ؟ وهل يُعاقَبُ في الدُّنيا؟ وهل يَستَحِقُّ العذابَ في الآخِرةِ؟ أم يُعذَرُ في ذلك أو في بَعْضِه؟
وقد أخطَأَ في هذه المسألةِ طائِفتانِ: طائِفةٌ جَعَلت الجَهْلَ عُذرًا بإطلاقٍ في جميعِ المَسائِلِ، وفي جميعِ الأحوالِ، دونَ اعتبارٍ للضَّوابِطِ التي وضَعَها أئمَّةُ أهلِ السُّنَّةِ، وغالى بعضُ أصحابِ هذا القِسمِ حتَّى وضع شروطًا يستحيلُ معها تكفيرُ المعَيَّنِ، بحُجَّةِ أنَّه يَنطِقُ بالشَّهادَتينِ، ولم يُكَفِّروا إلَّا المعانِدَ. والطائفةُ الأُخرى لم تَجعَلِ الجَهْلَ عُذرًا في جميعِ الأحوالِ، وفي جميعِ المَسائِلِ؛ فسارعوا في تكفيرِ مَن تلبَّس بالشِّركِ أو الكُفرِ، دونَ اعِتبارٍ للضَّوابِطِ والموانِعِ التي قد تمنَعُ مِن تكفيرِ المعيَّنِ، وهدى اللهُ أهلَ السُّنَّةِ للحَقِّ والصَّوابِ والوَسَطيَّةِ، كما هداهم للوَسَطيَّةِ في سائِرِ أُمورِ الاعتِقادِ، فليس كُلُّ جَهْلٍ يُعذَرُ فيه الإنسانُ؛ فهناك جَهْلٌ يُعذَرُ فيه، وجَهْلٌ لا يُعذَرُ فيه؛ فما كان ناشِئًا عن تفريطٍ وإهمالٍ مع قيامِ المقتَضِي للتعَلُّمِ، فإنَّه لا يُعذَرُ فيه، وما كان ناشئًا عن خِلافِ ذلك، أي: أنَّه لم يُهمِلْ ولم يُفَرِّطْ ولم يَقُمِ المقتضي للتعَلُّمِ، بأن كان يجَهْلُ تمامًا أنَّ هذا الشَّيءَ حَرامٌ أو كُفرٌ- فإنَّه يُعذَرُ فيه، وفي الآخِرةِ أمْرُه إلى اللهِ تعالى، يأمُرُه ويمتَحِنُه، فإن أطاع اللهَ دَخَل الجنَّةَ، وإن عصى دَخَل النَّارَ.
ويَحسُنُ التنبيهُ هنا إلى أنَّ بَعضَ صُوَرِ العُذْر بالجَهْلِ هي من المَسائِلِ الاجتهاديَّةِ التي يَسُوغُ فيها الخِلافُ بيْن العُلَماءِ( والظَّنُّ بخلافِ ذلك أدَّى إلى ادِّعاءِ البَعضِ دعوى الإجماعِ فيما ليس فيه إجماعٌ، حتى يقَوِّيَ حُجَّتَه مِن جِهةٍ، ولأنَّه اعتقد أنَّها من مسائِلِ العقيدةِ التي يُبَدَّعُ مُخالِفُها؛ فأراد تنزيهَ العُلَماءِ عن ذلك، كما أنَّه أدى كذلك إلى الغُلُوِّ في التَّبديعِ والتَّضليلِ، بل والتَّكفيرِ، حتى وصل بالبَعضِ إلى تكفيرِ العاذِرِ نَفْسِه، فضلًا عمَّن وقع في الشِّركِ! ، وبَعضُها قد يكون خِلافًا لَفظيًّا فقط، ولا يُضلَّلُ المخالِفُ فيها ولا يُبدَّعُ، فضلًا عن أن يُكفَّرَ.
يقولُ ابنُ عُثَيمين: (الاختِلافُ في مسألةِ العُذْر بالجَهْلِ كغَيرِه مِنَ الاختِلافاتِ الفِقهيَّةِ الاجتِهاديَّةِ، ورُبَّما يكونُ اختِلافًا لَفظيًّا في بعضِ الأحيانِ؛ مِن أجلِ تَطبيقِ الحُكمِ على الشَّخصِ المعَيَّنِ، أي: أنَّ الجَميعَ يتَّفِقونَ على أنَّ هذا القَولَ كُفرٌ، أو هذا الفِعلَ كُفرٌ، أو هذا التَّرْكَ كُفرٌ، ولكِنْ هل يَصدُقُ الحُكمُ على هذا الشَّخصِ المعَيَّنِ لقيامِ المقتضي في حَقِّه وانتِفاءِ المانِعِ، أو لا ينطَبِقُ لفواتِ بَعضِ المقتَضَياتِ، أو وُجودِ بَعضِ الموانِعِ)( (مجموع فتاوى ابن عثيمين) (7/28) .
وفيما يلي تَفصيلُ مَسألةِ العُذْرِ بالجَهْلِ لِمَن ارتَكَب كُفرًا أو شِركًا أكبَرَ؛ في ثلاثةِ مَطالِبَ:
المَطْلَبُ الأوَّلُ: أحوالُ الجاهِلِ مُرتَكِبِ الكُفرِ.
المَطْلَبُ الثَّاني: الكُفرُ الذي ارتَكَبَه.
المَطْلَب الثَّالِثُ: إقامةُ الحُجَّةِ عليه.
المَطْلَب الأوَّلُ: أحوالُ الجاهِلِ مُرتَكِبِ الكُفرِ
ليس كُلُّ جَهْلٍ يُعذَرُ فيه الإنسانُ، كما تقَدَّم بيانُه، فمن لم يكُنْ حَديثَ عَهدٍ بكُفرٍ (أي: لم يُسلِمْ حديثًا) ولم يكُنْ في بلادٍ بعيدةٍ عن مناراتِ العِلمِ وبَعيدةٍ عن البلادِ التي يَكثُرُ فيها المسلِمونَ ويُظهِرونَ فيها شعائِرَ الإسلامِ، سواءٌ كانت باديةً أو حاضرةً؛ فهذا لا يُعذَرُ في المَسائِلِ الظَّاهِرةِ البَيِّنةِ الجَلِيَّةِ، إلَّا أنَّ الحواضِرَ الأصلُ وُجودُ العِلمِ وأهلِه فيها، والبوادي يَكثُرُ فيها الـجَهْلُ، لكِنَّ العِلَّةَ وُجودُ العِلمِ وعَدَمُ تفَشِّي الجَهْلِ، وليس كَونُها باديةً أو حاضِرةً، والظُّهورُ والخَفاءُ أمرٌ نِسبيٌّ حَسَبَ الأمكِنةِ والأزمِنةِ، وعلى ظُهورِ العِلمِ فيها واندِثارِه( قال ابنُ تيميَّةَ: (إنَّ الأمكِنةَ والأزمِنةَ التي تَفتُرُ فيها النُّبوَّةُ لا يكونُ حُكمُ مَن خَفِيَت عليه آثارُ النبُوَّةِ حتى أنكر ما جاءت به خطأً، كما يكونُ حُكمُه في الأمكِنةِ والأزمِنةِ التي ظهَرَت فيها آثارُ النبوَّةِ). (بغية المرتاد) (ص: 311) .
1- قال الشَّافعيُّ: (إنَّ مِنَ العِلمِ ما لا يَسَعُ بالِغًا غيرَ مَغلوبٍ على عَقْلِه جَهْلُه، مِثلُ: الصَّلَواتِ الخَمسِ، وأنَّ للهِ على النَّاسِ صَومَ شَهرِ رَمَضانَ، وحَجَّ البَيتِ إذا استطاعوه، وزَكاةً في أموالِهم، وأنَّه حَرَّم عليهم الزِّنا والقَتْلَ، والسَّرِقةَ والخَمْرَ، وما كان في معنى هذا)( (الرسالة) (ص 357). .
2- قال ابنُ قُدامةَ المَقْدِسيُّ عن جاحِدِ الصَّلاةِ: (فإن كان ممنَّ لا يَعرِفُ الوُجوبَ، كحديثِ الإسلامِ، والنَّاشئِ بغيرِ دارِ الإسلامِ، أو باديةٍ بعيدةٍ عن الأمصارِ وأهلِ العِلمِ، لم يُحكَمْ بكُفْرِه، وعُرِّفَ ذلك، فإن جَحَد بعد ذلك كَفَر، وأمَّا إذا كان الجاحِدُ لها ناشئًا في الأمصارِ بيْن أهلِ العِلمِ، فإنَّه يَكفُرُ بمجَرَّدِ جَحْدِها، وكذلك الحُكمُ في مباني الإسلامِ كُلِّها)( (المغني) (8/ 131).
3- قال النَّوويُّ عن المرتَدِّ: (وكذلك الأمرُ في كُلِّ من أنكَرَ شَيئًا ممَّا اجتمعت الأمَّةُ عليه من أمورِ الدِّينِ إذا كان عِلْمُه مُنتَشِرًا؛ كالصَّلواتِ الخَمْسِ، وصَومِ شَهرِ رَمَضانَ، والاغتِسالِ مِن الجَنابةِ، وتحريمِ الزِّنا والخَمْرِ، ونِكاِح ذواتِ المحارِمِ، ونَحْوِها من الأحكامِ، إلَّا أن يكونَ رجُلًا حديثَ عهدٍ بالإسلامِ)( (شرح مسلم للنووي) (1/ 205). .
4- قال ابنُ تيميَّةَ: (لا يُكَفِّرُ العُلَماءُ مَن استحَلَّ شيئًا مِن المحرَّماتِ لقُربِ عَهْدِه بالإسلامِ، أو لنَشأتِه بباديةٍ بعيدةٍ، فإنَّ حُكْمَ الكُفرِ لا يكونُ إلَّا بَعْدَ بُلوغِ الرِّسالةِ، وكثيرٌ مِن هؤلاءِ قد لا يكونُ قد بلغَتْه النُّصوصُ المخالِفةُ لِما يراه، ولا يَعلَمُ أنَّ الرَّسولَ بُعِثَ بذلك)( (مجموع الفتاوى) (28/501).
وقال: (وكثيرٌ مِن النَّاسِ قد يَنشَأُ في الأمكِنةِ والأزمِنةِ الذي يَنْدَرِسُ فيها كثيرٌ مِن عُلومِ النُّبوَّاتِ؛ حتَّى لا يبقى مَن يبلِّغُ ما بَعَث اللهُ به رَسولَه من الكِتابِ والحِكمةِ، فلا يَعلَمُ كَثيرًا ممَّا يَبعَثُ اللهُ به رَسولَه، ولا يكونُ هناك مَن يبلِّغُه ذلك، ومِثلُ هذا لا يَكفُرُ؛ ولهذا اتَّفَق الأئمَّةُ على أنَّ مَن نشأَ بباديةٍ بَعيدةٍ عن أهلِ العِلمِ والإيمانِ، وكان حديثَ العَهدِ بالإسلامِ، فأنكر شيئًا مِن هذه الأحكامِ الظَّاهِرةِ المتواتِرةِ؛ فإنَّه لا يُحكَمُ بكُفْرِه حتَّى يَعرِفَ ما جاء به الرَّسولُ) ( (مجموع الفتاوى) (11/407).
وقال: (وهؤلاءِ الأجناسُ وإن كانوا قد كَثُروا في هذا الزَّمانِ، فلقِلَّةِ دُعاةِ العِلمِ والإيمانِ، وفُتورِ آثارِ الرِّسالةِ في أكثَرِ البُلدانِ، وأكثَرُ هؤلاء ليس عِندَهم مِن آثارِ الرِّسالةِ ومِيراثِ النبُوَّةِ ما يَعرِفونَ به الهدى، وكثيرٌ منهم لم يبلُغْهم ذلك، وفي أوقاتِ الفَتراتِ، وأمكِنةِ الفَتراتِ، يُثابُ الرَّجُلُ على ما معه من الإيمانِ القليلِ، ويَغفِرُ اللهُ فيه لِمَن لم تَقُمِ الحُجَّةُ عليه ما لا يَغفِرُ به لِمَن قامت الحُجَّةُ عليه(( (الفتاوى) (35/165). .
وقال: (التَّكفيرُ هو من الوعيدِ؛ فإنَّه وإن كان القَولُ تكذيبًا لِما قاله الرَّسولُ، لكِنْ قد يكونُ الرَّجُلُ حديثَ عَهدٍ بإسلامٍ أو نشأَ بباديةٍ بَعيدةٍ. ومِثلُ هذا لا يَكفُرُ بجَحْدِ ما يَجحَدُه حتى تقومَ عليه الحُجَّةُ) ( (مجموع الفتاوى) (3/231). .
وقال عن الجَهْلِ في شِرْكِ العبادةِ: (إنَّا بعد مَعرفةِ ما جاء به الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، نَعلَمُ بالضَّرورةِ أنَّه لم يَشرَعْ لأمَّتِه أن تَدعُوَ أحدًا من الأمواتِ، لا الأنبياءِ ولا الصَّالحينَ ولا غَيرِهم، لا بلَفظِ الاستغاثةِ ولا بغَيرِها، ولا بلَفظِ الاستِعاذةِ ولا بغَيرِها، كما أنَّه لم يَشرَعْ لأمَّتِه السُّجودَ لميِّتٍ ولا لغَيرِ مَيِّتٍ، ونحو ذلك، بل نَعلَمُ أنَّه نهى عن كُلِّ هذه الأمورِ، وأنَّ ذلك مِن الشِّركِ الذي حَرَّمه اللهُ ورَسولُه، لكِنْ لغَلَبةِ الجَهْلِ، وقلَّةِ العِلمِ بآثارِ الرِّسالةِ في كثيرٍ مِن المتأخِّرينَ، لم يمكِنْ تكفيرُهم بذلك، حتى يتبيَّنَ لهم ما جاء به الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، مِمَّا يخالِفُه)( ) الرد على البكري) (2/731). .
5- قال الذَّهبيُّ: (ينبغي للعالِمِ ألَّا يَستَعجِلَ على الجاهِلِ، بل يَرفُقُ به، ويُعَلِّمُه مِمَّا عَلَّمَه اللهُ، ولا سِيَّما إذا كان قريبَ العَهدِ بجاهليَّتِه، قد نشأ في بلادِ الكُفرِ البَعيدةِ، وأُسِرَ وجُلِبَ إلى أرضِ الإسلامِ، وهو تُركيٌّ كافرٌ أو كرجيٌّ مُشرِكٌ لا يَعرِفُ بالعَربيِّ، فاشتراه أمير تُركيٌّ لا عِلمَ عِندَه ولا فَهْمَ، فبالجَهدِ إن تلَفَّظ بالشَّهادَتينِ، فإنْ فَهِمَ بالعربيِّ حتى يَفقَهَ معنى الشَّهادتينِ بعد أيامٍ وليالٍ فبها ونِعْمَت، ثم قد يصَلِّي وقد لا يصَلِّي، وقد يُلقَّنُ الفاتحةَ مع الطُّولِ إن كان أستاذُه فيه دينٌ ما، فإن كان أستاذُه شَبيهًا به فمِن أين لهذا المسكينِ أن يَعرِفَ شَرائِعَ الإسلامِ، والكبائِرَ واجتِنابَها، والواجِباتِ وإتيانَها؟! فإنْ عَرَف هذا مُوبِقاتِ الكبائِرِ وحَذِرَ منها، وأركانَ الفرائِضِ واعتَقَدها، فهو سعيدٌ، وذلك نادِرٌ، فينبغي للعَبدِ أن يحمَدَ اللهَ تعالى على العافيةِ، فإن قيل: هو فرَّطَ؛ لكَونِه ما سأل عمَّا يجِبُ عليه، قيل: هذا ما دار في رأسِه، ولا استشعَرَ أنَّ سُؤالَ مَن يُعَلِّمُه يَجِبُ عليه، وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ، فلا يأثَمُ أحدٌ إلَّا بعد العِلمِ، وبعد قيامِ الحُجَّةِ عليه، واللهُ لَطيفٌ بعبادِه رَؤوفٌ بهم، قال اللهُ تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا، وقد كان سادةُ الصَّحابةِ بالحَبَشةِ، وينزِلُ الواجِبُ والتَّحريمُ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فلا يَبلُغُهم تحريمُه إلَّا بعد أشهُرٍ، فهم في تلك الأشهُرِ معذورونَ بالجَهْلِ حتَّى يَبلُغَهم النَّصُّ؛ فكذا يُعذَرُ بالجَهْلِ كُلُّ من لم يَعلَمْ حتَّى يَسمَعَ النَّصَّ، واللهُ تعالى أعلَمُ)( (الكبائر) (1/101) .
6- قال محمَّدُ بنُ عبدِ الوهَّابِ: (إنَّ الذي لم تَقُمْ عليه الحُجَّةُ هو الذي حديثُ عَهدٍ بالإسلامِ، أو الذي نشأَ بباديةٍ بعيدةٍ، أو يكونُ ذلك في مَسائِلَ خَفِيَّةٍ، مِثلُ الصَّرفِ والعَطفِ، فلا يُكَفَّرُ حتى يُعرَّفَ) ( (الدرر السنية) (10/93).
7- قال عبدُ اللَّطيفِ بنُ عبدِ الرَّحمنِ: (وقد مَثَّل العُلَماءُ هذا الصِّنفَ بمن نشَأَ بباديةٍ، أو وُلِدَ في بلادِ الكُفَّارِ، ولم تَبلُغْه الحُجَّةُ الرِّساليَّةُ)( (مصباح الظلام) (ص: 498). .
8- قال سُلَيمانُ بنُ سَحمانَ: (مَن ظاهِرُه لا إسلامٌ ولا كُفرٌ، بل هو جاهِلٌ، فنقولُ: هذا الرَّجُلُ الجاهِلُ إن كان معه الأصلُ الذي يَدخُلُ به الإنسانُ في الإسلامِ، فهو مُسلِمٌ، ولو كان جاهِلًا بتفاصيلِ دينِه؛ فإنَّه ليس على عوامِّ المسلمينَ مِمَّن لا قُدرةَ لهم على مَعرفةِ تفاصيلِ ما شَرَعه اللهُ ورَسولُه أن يَعرِفوا على التَّفصيلِ ما يَعرِفُه من أقدَرَه اللهُ على ذلك من عُلَماءِ المُسلِمينَ وأعيانِهم، فيما شَرَعه اللهُ ورَسولُه من الأحكامِ الدِّينيَّةِ، بل عليهم أن يُؤمِنوا بما جاء به الرَّسولُ إيمانًا عامًّا مُجمَلًا، كما قَرَّرَ ذلك شيخُ الإسلامِ في "المنهاجِ". وإن لم يُوجَدْ معه الأصلُ الذي يُدخِلُ في الإسلامِ، فهو كافِرٌ، وكُفْرُه هو بسبَبِ الإعراضِ عن تعَلُّمِ دِينِه، لا عَلِمَه، ولا تعَلَّمه، ولا عَمِلَ به. والتَّعبيرُ بأنَّ ظاهِرَه لا إسلامٌ ولا كُفرٌ لا معنى له عندي؛ لأنَّه لا بدَّ أن يكونَ مُسلِمًا جاهِلًا، أو كافِرًا جاهِلًا، فمن كان ظاهِرُه الكُفرَ، فهو كافِرٌ، ومن ظاهِرُه المعاصي فهو عاصٍ، ولا نُكَفِّرُ إلَّا مَن كَفَّر اللهُ ورَسولُه بعد قيامِ الحُجَّةِ عليه)( (منهاج الحق والاتباع) (ص: 80)، (الدرر السنية) (10/470). .
8- قال محمَّدُ بنُ إبراهيمَ: (ما عُلِمَ بالضَّرورةِ فهذا يَكفُرُ بمُجَرَّدِ ذلك، ولا يحتاجُ إلى تعريفٍ، ما لم يكُنْ حديثَ عَهدٍ بالإسلامِ)( (فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم) (12/ 190).
9- قال ابنُ باز بعد أن ذَكَر صُوَرًا مِنَ الشِّركِ الأكبَرِ والكُفرِ الأكبَرِ، وأنَّ الأصلَ ألَّا يُعذَرَ صاحِبُه (لكِنْ لو كان في بَعضِ البِلادِ البَعيدةِ عن الإسلامِ، أو في مجاهِلِ أفريقيا التي لا يُوجَدُ حَولَها مسلِمونَ، قد يُقبَلُ منه دعوى الجَهْلِ، وإذا مات على ذلك يكونُ أمرُه إلى اللهِ، ويكونُ حُكمُه حُكمَ أهلِ الفَترةِ، والصَّحيحُ أنَّهم يُمتَحَنونَ يومَ القيامةِ، فإن أجابوا وأطاعوا دَخَلوا الجنَّةَ، وإن عَصَوا دَخَلوا النَّارَ، أمَّا الذي بين المسلِمينَ ويقومُ بأعمالِ الكُفرِ باللهِ، ويَترُكُ الواجِباتِ المعلومةَ؛ فهذا لا يُعذَرُ؛ لأنَّ الأمرَ واضِحٌ، والمسلمونَ -بحَمْدِ اللهِ- موجودونَ، ويَصومونَ ويَحُجُّونَ، ويَعرِفونَ أنَّ الزِّنا حرامٌ، وأنَّ الخَمرَ حرامٌ، وأنَّ العُقوقَ حَرامٌ، وكُلُّ هذا معروفٌ بيْن المسلميَن وفاشٍ بينهم؛ فدَعوى الجَهْلِ في ذلك دعوى باطِلةٌ. واللهُ المستعانُ)( (مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز) (7/136).
وسُئِلَ: هل يُعذَرُ المسلِمُ إذا فَعَل شيئًا من الشِّرْكِ، كالذَّبحِ والنَّذرِ لِغَيرِ اللهِ جاهِلًا؟
فقال: (الأُمورُ قِسمانِ: قِسمٌ يُعذَرُ فيه بالجَهْلِ، وقِسمٌ لا يُعذَرُ فيه بالجَهْلِ، فإذا كان مَن أتى ذلك بين المسلِمينَ، وأتى الشِّركَ باللهِ، وعبَدَ غَيرَ اللهِ، فإنَّه لا يُعذَرُ؛ لأنَّه مُقَصِّرٌ لم يَسأَلْ، ولم يتبصَّرْ في دينِه، فيكونُ غيرَ مَعذورٍ في عبادتِه غيرَ اللهِ مِن أمواتٍ أو أشجارٍ، أو أحجارٍ أو أصنامٍ؛ لإعراضِه وغَفْلتِه عن دينِه، ... والقِسمُ الثَّاني: من يُعذَرُ بالجَهْلِ، كالذي ينشَأُ في بلادٍ بَعيدةٍ عن الإسلامِ في أطرافِ الدُّنيا، أو لأسبابٍ أُخرى) ( (مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز) (7/136). .
10- قال ابنُ عُثَيمين: (من كان جاهِلًا فإنَّه لا يُؤاخَذُ بجَهْلِه في أيِّ شَيءٍ كان مِن أُمورِ الدِّينِ، ولكِنْ يَجِبُ أن نعلَمَ أنَّ مِن الجَهَلةِ من يكونُ عِندَه نوعٌ مِنَ العِنادِ، أي: إنَّه يُذكَرُ له الحَقُّ، ولكِنَّه لا يَبحَثُ عنه، ولا يتَّبِعُه، بل يكونُ على ما كان عليه أشياخُه، ومن يُعَظِّمُهم ويتَّبِعُهم، وهذا في الحقيقةِ ليس بمَعذورٍ؛ لأنَّه قد بلَغَه مِنَ الحُجَّةِ ما أدنى أحوالِه أن يكونَ شُبهةً يحتاجُ أن يبحَثَ ليتبيَّنَ له الحَقُّ، وهذا الذي يُعَظِّمُ من يُعَظِّمُ مِن مَتبوعيه شأنُه شأنُ من قال اللهُ عنهم: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف: 22]، وفي الآيةِ الثَّانيةِ: وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف: 23]، فالمهِمُّ أنَّ الجَهْلَ الذي يُعذَرُ به الإنسانُ بحيث لا يَعلَمُ عن الحَقِّ، ولا يُذكَرُ له: هو رافِعٌ للإثمِ، والحُكمُ على صاحِبِه بما يَقتَضيه عَمَلُه، ثمَّ إن كان ينتَسِبُ إلى المسلِمينَ، ويَشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وأنَّ مُحمَّدًا رسولُ اللهِ؛ فإنَّه يُعتَبَرُ منهم) ( (مجموع فتاوى الشيخ العثيمين) (2 السؤال رقم 222). .
وسُئِلَ: ما رأيُ فَضيلتِكم بمن يقولُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ مُحمَّدٌ رَسولُ اللهِ، ثمَّ يَذبَحُ لغيرِ اللهِ، فهل يكونُ مُسلِمًا؟ مع العِلمِ أنَّه نشأ في بلادِ الإسلامِ؟
فأجاب: (الذي يتقَرَّبُ إلى غيرِ اللهِ بالذَّبحِ له: مُشرِكٌ شِركًا أكبَرَ، ولا ينفَعُه قَولُ "لا إلهَ إلَّا اللهُ"، ولا صلاةٌ، ولا غيرُها، اللَّهُمَّ إلَّا إذا كان ناشئًا في بلادٍ بعيدةٍ، لا يَدرُونَ عن هذا الحُكمِ، فهذا معذورٌ بالجَهْلِ، لكِنْ يُعَلَّمُ، كمَن يعيشُ في بلادٍ بعيدةٍ يَذبَحونَ لغَيرِ اللهِ، ويَذبَحونَ للقُبورِ، ويَذبَحونَ للأولياءِ، وليس عِندَهم في هذا بأسٌ، ولا عَلِموا أنَّ هذا شِركٌ أو حرامٌ؛ فهذا يُعذَرُ بجَهْلِه، أمَّا إنسانٌ يُقالُ له: هذا كُفرٌ، فيَقولُ: لا، ولا أترُكُ الذَّبحَ للوليِّ، فهذا قامت عليه الحُجَّةُ، فيكونُ كافِرًا.
السَّائِلُ: فإذا نُصِحَ وقيلَ له: إنَّ هذا شِركٌ، فهل أُطلِقُ عليه إنَّه "مُشرِكٌ" و"كافِرٌ"؟
الجوابُ: نعم، مُشرِكٌ، كافِرٌ، مُرتَدٌّ، يُستَتابُ، فإنْ تاب وإلَّا قُتِلَ) ( (لقاء الباب المفتوح) (48/15). .
المَطْلَب الثَّاني: الكُفرُ الذي ارتكَبَه الجاهِلُ
إذا كان الكُفرُ أو الشِّركُ الأكبَرُ الذي ارتكَبَه هذا الجاهِلُ مِن المَسائِلِ الخَفيَّةِ التي يَجْهَلُها مِثلُه، فلا يُكَفَّرُ حتى تُقامَ عليه الحُجَّةُ، أمَّا إن كان من المَسائِلِ الظَّاهِرةِ في البَلَدِ الذي هو فيه، ولا يخفى على مِثْلِه، فلا يُعذَرُ. والمقصودُ بالظُّهورِ ليس ظُهورَ الدَّلالةِ ووُضوحَها فقط، بل ظُهورُ العِلمِ وانتِشارُه بيْن النَّاسِ واستِفاضتُه بيْنهم، كظُهورِ وُجوبِ الصَّلاةِ، وحُرمةِ الزِّنا، وما هو معلومٌ من الدِّينِ بالضَّرورةِ.
1- قال محمَّدُ بنُ عبدِ الوهَّابِ: (الشَّخصَ المعَيَّنَ إذا قال ما يُوجِبُ الكُفرَ، فإنَّه لا يُحكَمُ بكُفرِه حتى تقومَ عليه الحُجَّةُ التي يَكفُرُ تارِكُها، وهذا في المَسائِلِ الخَفِيَّةِ التي قد يخفى دليلُها على بَعضِ النَّاسِ، وأمَّا ما يقَعُ منهم في المَسائِلِ الظَّاهِرةِ الجَليَّةِ، أو ما يُعلَمُ مِنَ الدِّينِ بالضَّرورةِ، فهذا لا يُتوقَّفُ في كُفرِ قائِلِه) ( (الدرر السنية) (10/433).
2- قال أبا بطين: (فانظُرْ إلى تفريقِه -يعني ابنَ تيميَّةَ- بيْن المقالاتِ الخَفِيَّةِ، والأمورِ الظَّاهِرةِ، فقال في المقالاتِ الخَفِيَّةِ التي هي كُفرٌ: قد يُقالُ إنَّه فيها مخطئٌ ضالٌّ، لم تَقُمْ عليه الحُجَّةُ التي يَكفُرُ صاحِبُها، ولم يَقُلْ ذلك في الأمورِ الظَّاهِرةِ؛ فكلامُه ظاهِرٌ في الفَرقِ بيْن الأمورِ الظَّاهِرةِ والخَفيَّةِ، فيُكفَّرُ بالأُمورِ الظَّاهِرِ حُكمُها مُطلقًا، وبما يَصدُرُ منها مِن مُسلِمٍ جَهْلًا، كاستِحلالِ مُحَرَّمٍ، أو فِعلٍ أو قَولٍ شِركيٍّ بعد التعريفِ، ولا يُكفَّرُ بالأمورِ الخَفِيَّةِ جَهْلًا، كالجَهْلِ ببَعضِ الصِّفاتِ، فلا يُكفَّرُ الجاهِلُ بها مُطلَقًا، وإن كان داعيةً، كقَولِه للجَهميَّةِ: أنتم عندي لا تَكفُرونَ؛ لأنَّكم جُهَّالٌ، وقَولُه: "عندي" يُبَيِّنُ أنَّ عَدَمَ تَكفيرِهم ليس أمرًا مُجمَعًا عليه، لكِنَّه اختيارُه، وقَولُه في هذه المسألةِ خِلافُ المشهورِ في المذهَبِ( هذا يُؤَيِّدُ ما ذكَرْناه سابقًا مِن أنَّ بَعضَ مَسائِلِ العُذرِ بالجَهلِ مِن المسائِلِ الاجتِهاديَّةِ، والخِلافُ فيها سائِغٌ. ) ( (الدرر السنية) (10/373). .
3- قال ابنُ باز: (الجَهْلُ يكونُ فيما يمكِنُ خَفاؤه، أمَّا الأُمورُ الظَّاهِرةُ مِن الدِّينِ فلا يُعذَرُ فيها الجاهِلُ؛ كأمورِ التَّوحيدِ، وأمورِ الصَّلاةِ،...أمَّا الذي يُمكِنُ جَهْلُه، مِثلُ بَعضِ الصِّفاتِ؛ صِفاتِ اللهِ التي خَفِيَت عليه، أو ما درى أنَّها من صِفاتِ اللهِ فأنكَرَها، ثمَّ عَلِمَ وبُيِّنَ له؛ ما يُكَفَّرُ بذلك؛ لأنَّ مِثلَ هذا قد يَجْهَلُ بعضَ الصِّفاتِ، أو مِثل بَعضِ حُقوقِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جَهِلَها، ما درى عن بعضِ الحُقوقِ التي تخفى على العامِّيِّ، أو ما أشبَهَ ذلك، أو إنسانٌ في أطرافِ أمريكا أو أطرافِ أفريقيا في بعضِ المحلَّاتِ البَعيدةِ عن الإسلامِ، مِثلُ هذا كأهلِ الفَترةِ يُبَيَّنُ له ولا يُكَفَّرُ حتَّى يُبَيَّنَ له ويَعلَمَ، فإذا ما أصَرَّ على ذلك وأصَرَّ على الكُفرِ، يُقتَلُ) ( (مجموع فتاوى ابن باز) (28/ 217). .
4- جاء في فتوى اللَّجنةِ الدَّائِمةِ للبُحوثِ العِلميَّةِ والإفتاءِ: (يختَلِفُ الحُكمُ على الإنسانِ بأنَّه يُعذَرُ بالجَهْلِ في المَسائِلِ الدِّينيَّةِ أو لا يُعذَرُ؛ باختِلافِ البَلاغِ وعدَمِه، وباختِلافِ المسألةِ نَفْسِها وُضوحًا وخَفاءً، وتفاوُتِ مَدارِكِ النَّاسِ قُوَّةً وضَعفًا) ( (فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء) (2/97). .
5- سُئِلَ ابنُ عُثَيمين: هل هناك فَرقٌ بين المَسائِلِ الظَّاهِرةِ والمَسائِلِ الخَفيَّةِ؟
فأجاب: (الخَفِيَّةُ تُبيَّنُ، مِثلُ هذه المسألةِ، لو فَرَضْنا أنَّه يقولُ: أنا أعيش في قومٍ يَذبَحونَ للأولياءِ، ولا أعلَمُ أنَّ هذا حرامٌ، فهذه تكونُ خَفِيَّةً؛ لأنَّ الخَفاءَ والظُّهورَ أمرٌ نِسبيٌّ؛ قد يكون ظاهرًا عندي ما هو خَفِيٌّ عليك، وظاهِرٌ عندك ما هو خَفِيٌّ عليَّ (( (لقاء الباب المفتوح) (48/15).
المَطْلَبُ الثَّالِثُ: بلوغُ الحُجَّةِ
الصَّحيحُ مِن أقوالِ أهلِ العِلمِ( قلنا: (من أقوالِ أهلِ العِلمِ)؛ لأنَّها من مسائِلِ الخِلافِ، وليس فيها إجماعٌ. أنَّه لا يُكَفَّرُ أحدٌ مِمَّن تَلَبَّسَ بالشِّركِ أو الكُفرِ قَبلَ بُلوغِ الحُجَّةِ التي يَكفُرُ تارِكُها، وقد يكونُ بُلوغُ الحُجَّةِ بالبَيانِ، وقد يكونُ بالحالِ في المَسائِلِ الظَّاهِرةِ، كما تقَدَّمَ.
1- قال الشَّافعيُّ: (للهِ أسماءٌ وصِفاتٌ لا يَسَعُ أحدًا ردُّها، ومن خالفَ بَعْدَ ثُبوتِ الحُجَّةِ عليه، فقد كَفَر، وأمَّا قبلَ قيامِ الحُجَّةِ فإنَّه يُعْذَرُ بالجَهْلِ) ( (فتح الباري) (13/407). .
2- قال ابنُ تيميَّةَ: (ليس لأحَدٍ أن يُكَفِّرَ أحدًا مِنَ المسلِمينَ وإن أخطَأَ وغَلِطَ، حتَّى تُقامَ عليه الحُجَّةُ، وتُبَيَّنَ له المحَجَّةُ، ومَن ثَبَت إسلامُه بيقينٍ لم يَزُلْ ذلك عنه بالشَّكِّ، بل لا يَزولُ إلَّا بَعْدَ إقامةِ الحُجَّةِ، وإزالةِ الشُّبهةِ)( يُنظر: (مجموع الفتاوى) (12/ 466). .
وقال: (الشِّركُ إذا قامت على الإنسانِ الحُجَّةُ فيه ولم يَنْتَهِ، وَجَب قَتْلُه، كقَتْلِ أمثالِه مِنَ المُشرِكينَ، ولم يُدفَنْ في مقابِرِ المُسلِمينَ، ولم يُصَلَّ عليه، وأمَّا إذا كان جاهِلًا لم يَبلُغْه العِلمُ، ولم يَعرِفْ حقيقةَ الشِّركِ الذي قاتَلَ عليه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المشركينَ، فإنَّه لا يُحكَمُ بكُفرِه، ولا سِيَّما وقد كَثُر هذا الشِّركُ في المنتَسِبينَ إلى الإسلامِ، ومن اعتَقَد مِثلَ هذا قُربةً وطاعةً فإنَّه ضالٌّ باتِّفاقِ المُسلِمينَ، وهو بَعْدَ قيامِ الحُجَّةِ كافِرٌ) ( (جامع المسائل) لابن تيميَّةَ (3/151) .
3- قال محمَّدُ بنُ عبدِ الوهَّابِ: (وأمَّا الكَذِبُ والبُهتانُ، فمِثلُ قَولِهم: إنَّا نُكَفِّرُ بالعمومِ، ونُوجِبُ الهِجرةَ إلينا على مَن قَدَر على إظهارِ دينِه، وإنَّا نُكَفِّرُ مَن لم يُكَفِّرْ، ومَن لم يقاتِلْ، ومِثلُ هذا وأضعافُ أضعافِه، فكُلُّ هذا من الكَذِبِ والبُهتانِ الذي يَصُدُّونَ به النَّاسَ عن دينِ اللهِ ورَسولِه.
وإذا كنَّا لا نُكَفِّرُ من عَبَد الصَّنَمَ الذي على عبدِ القادِرِ، والصَّنَمَ الذي على قبرِ أحمد البدوي، وأمثالَهما؛ لأجْلِ جَهْلِهم، وعَدَمِ مَن يُنَبِّهُهم، فكيف نكَفِّرُ من لم يُشرِكْ باللهِ إذا لم يُهاجِرْ إلينا، أو لم يُكَفِّرْ ويُقاتِلْ؟ سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ [سورة النور آية: 16] )( (الدرر السنية) (1/104). وردت هذه العبارة في (منهاج التأسيس) (ص: 89) بلفظ: (وأنَّا لا نُكَفِّرُ إلَّا مَن كَفَّره اللهُ ورَسولُه مِن المشركينَ عُبَّادِ الأصنامِ، كالذين يَعبُدونَ الصَّنَمَ الذي على قَبرِ عبد القادِرِ، والصَّنمَ الذي على قبر أحمد البدوي، وأمثالَهما) لكِنَّها خطأٌ مِنَ النَّاسِخِ، والصَّوابُ ما أثبتناه، بدلالةِ أنَّ كُلَّ مَن نَقَلها من تلاميذِه وأتباعِه نَقَلها بهذا اللَّفظِ. انظر: (تاريخ ابن غنام) (1/453) وهو من تلاميذه، (صيانة الإنسان من وسوسة الشيخ دحلان) للسهسواني (408)، (مناهج أهل الحق والاتِّباع) لسليمان بن سحمان (ص 74)، (لقاء الباب المفتوح) لابن عثيمين (98/15)، وأكَّد هذا اللَّفظَ حفيدُه عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن في (مصباح الظلام) (1/84) بقوله: (فإذا كان هذا كلامَ الشَّيخِ رحمه الله فيمن عَبَد الصَّنَمَ الذي على القُبورِ إذا لم يتيسَّرْ له من يُعَلِّمُه ويُبَلِّغُه الحُجَّةَ، فكيف يَطلُقُ على الحَرَمينِ: إنَّها بلادُ كُفرٍ؟! والشَّيخُ على منهاجٍ نَبويٍّ وصِراطٍ مُستقيمٍ، يُعطي كُلَّ مَقامٍ ما يُناسِبُه من الإجمالِ والتَّفصيلِ). .
وله عبارةٌ أُخرى تؤكِّدُ مَنهَجَه نَقَلَها عبدُ اللَّطيفِ بنُ عبدِ الرَّحمنِ، فقال: (وكان شيخُنا محمَّدُ بنُ عبدِ الوهَّابِ يُقَرِّرُ في مجالِسِه ورسائِلِه أنَّه لا يُكَفِّرُ إلَّا من قامت عليه الحُجَّةُ الرِّساليَّةُ، وإلَّا من عَرَف دينَ الرَّسولِ، وبَعْدَ مَعرفتِه تبين في عداوتِه ومَسَبَّتِه، وتارةً يقولُ: وإذا كُنَّا لا نُكَفِّرُ مَن يَعبُدُ الكوازَ ونحوَه ونُقاتِلُهم، حتى نُبَيِّنَ لهم وندعوهم فكيف نُكَفِّرُ من لم يُهاجِرْ إلينا؟)( (منهاج التأسيس) (ص: 222) ، نقلها أيضًا سليمان بن سحمان، فقال: (الشَّيخُ محمَّدُ بنُ عبدِ الوهَّابِ -رحمه الله- من أعظَمِ النَّاسِ توقُّفًا وإحجامًا عن إطلاقِ الكُفرِ، حتَّى إنَّه لم يَجزِمْ بتكفيرِ الجاهِلِ الذي يدعو غيرَ اللهِ مِن أهلِ القُبورِ أو غيرِهم، إذا لم يتيسَّرْ له من يَنصَحُه، ويُبَلِّغُه الحُجَّةَ التي يَكفُرُ تارِكُها. قال في بعضِ رَسائِلِه: وإنْ كُنَّا لا نُكَفِّرُ مَن عَبَد قُبَّةَ الكوازِ؛ لجَهْلِهم وعدَمِ مَن يُنَبِّهُهم، فكيف من لم يهاجِرْ إلينا؟ وقال -وقد سُئِلَ عن مِثلِ هؤلاء الجُهَّالِ- فقَرَّر أنَّ من قامت عليه الحُجَّةُ، وتأهَّل لمعرفتهِا، يَكفُرُ بعِبادةِ القُبورِ) ( (الضياء الشارق) (ص: 372) .
وقال: (إنَّ الذي لم تَقُمْ عليه الحُجَّةُ هو الذي حديثُ عَهدٍ بالإسلامِ، أو الذي نَشَأ بباديةٍ بَعيدةٍ، أو يكونُ ذلك في مَسائِلَ خَفِيَّةٍ، مِثلُ الصَّرفِ والعَطفِ، فلا يُكَفَّرُ حتَّى يُعَرَّفَ) ( (الدرر السنية) (10/93). .
وقال: (إنَّ الشَّخصَ المعَيَّنَ إذا قال ما يُوجِبُ الكُفرَ، فإنَّه لا يُحكَمُ بكُفرِه حتى تقومَ عليه الحُجَّةُ التي يَكفُرُ تارِكُها، وهذا في المَسائِلِ الخَفِيَّةِ التي قد يخفى دليلُها على بَعضِ النَّاسِ، وأمَّا ما يقَعُ منهم في المَسائِلِ الظَّاهِرةِ الجَليَّةِ، أو ما يُعلَمُ مِنَ الدِّينِ بالضَّرورةِ، فهذا لا يُتوقَّفُ في كُفرِ قائِلِه) ( (الدرر السنية) (8/ 244). .
4- قال عَبدُ الرَّحمنِ بنُ حَسَن: (بَقِيَ مسألةٌ حَدَثَت، تكَلَّم بها شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّةَ، وهو: عدمُ تكفيرِ المعَيَّنِ ابتداءً لسَبَبٍ ذَكَره رحمه اللهُ تعالى، أوجَبَ له التوقُّفَ في تكفيرِه قبلَ إقامةِ الحُجَّةِ عليه. قال رحمه اللهُ تعالى: ونحن نَعلَمُ بالضَّرورةِ أنَّ النَّبيَّ لم يَشرَعْ لأحدٍ أن يدعوَ أحدًا مِن الأمواتِ؛ لا الأنبياءَ ولا الصَّالحينَ ولا غيرَهم، لا بلَفظِ الاستغاثةِ، ولا بغَيرِها، كما أنَّه لم يَشرَعْ لأمَّتِه السُّجودَ لِمَيِّتٍ، ولا إلى مَيِّتٍ، ونحو ذلك، بل نَعلَمُ أنَّه نهى عن هذه الأمورِ كُلِّها، وأنَّ ذلك مِنَ الشِّركِ الذي حَرَّمه اللهُ ورَسولُه، ولكِنْ لغَلَبةِ الجَهْلِ، وقِلَّةِ العِلمِ بآثارِ الرِّسالةِ في كثيرٍ مِن المتأخِّرينَ، لم يُمكِنْ تكفيرُهم بذلك حتى يُبَيَّنَ ما جاء به الرَّسولُ ممَّا يخالِفُه. انتهى). ( (الدرر السنية) (2/211).
5- قال سُلَيمانُ بنُ سحمانَ: (لا تقومُ الحُجَّةُ إلَّا بمن يُحسِنُ إقامتَها، وأمَّا من لا يُحسِنُ إقامتَها، كالجاهِلِ الذي لا يَعرِفُ أحكامَ دينِه، ولا ما ذَكَره العُلَماءُ في ذلك، فإنَّه لا تقومُ به الحُجَّةُ فيما أعلَمُ. واللهُ أعلَمُ) ( (منهاج أهل الحق) (85).
6- قال عبدُ اللَّطيفِ بنُ عبدِ الرحمنِ بنِ حَسَن، عن جَدِّه محمَّدِ بنِ عبدِ الوهَّابِ: (لا يُكَفِّرُ إلَّا بما أجمع المسلِمونَ على تكفيرِ فاعِلِه مِنَ الشِّركِ الأكبَرِ، والكُفرِ بآياتِ اللهِ ورسُلِه، أو بشَيءٍ منها، بعد قيامِ الحُجَّةِ، وبُلوغِها المعتَبَرِ) ( (الدرر السنية) (1/467).
وقال: (وشَيخُنا رحمه الله قد قرَّر هذا وبَيَّنَه وِفاقًا لعُلَماءِ الأُمَّةِ واقتداءً بهم، ولم يكفِّرْ إلَّا بعد قيامِ الحُجَّةِ وظُهورِ الدَّليلِ، حتى إنَّه رحمه الله توقَّف في تكفيرِ الجاهِلِ مِن عُبَّادِ القُبورِ إذا لم يتيسَّر له مَن ينبِّهُه، وهذا هو المرادُ. بقول الشَّيخُ ابنُ تيميَّةَ رحمه الله تعالى: "حتى يتبَيَّنَ لهم ما جاء به الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فإذا حَصَل البيانُ الذي يَفهَمُه المخاطَبُ ويَعقِلُه فقد تبيَّنَ له"، وليس بين "بيَّن" و"تبيَّن" فرقٌ بهذا الاعتبارِ؛ لأنَّ كُلَّ من بُيَّن له ما جاء به الرَّسولُ، وأصَرَّ وعانَدَ، فهو غيرُ مُستجيبٍ، والحُجَّةُ قائِمةٌ عليه)( (مصباح الظلام) (ص 499). .
9- قال أبا بطين: (فانظُرْ إلى تفريقِه -يعني ابنَ تيميَّةَ- بيْن المقالاتِ الخَفِيَّةِ، والأمورِ الظَّاهِرةِ، فقال في المقالاتِ الخَفِيَّةِ التي هي كُفرٌ: قد يُقالُ إنَّه فيها مخطئٌ ضالٌّ، لم تَقُمْ عليه الحُجَّةُ التي يَكفُرُ صاحِبُها، ولم يَقُلْ ذلك في الأمورِ الظَّاهِرةِ) ( (الدرر السنية) (10/373). .
10- جاء في فتوى اللَّجنةِ الدَّائِمةِ للبُحوثِ العِلميَّةِ والإفتاءِ: (يختَلِفُ الحُكمُ على الإنسانِ بأنَّه يُعذَرُ بالجَهْلِ في المَسائِلِ الدِّينيَّةِ، أو لا يُعذَرُ؛ باختِلافِ البلاغِ وعَدَمِه، وباختِلافِ المسألةِ نَفْسِها وُضوحًا وخَفاءً، وتَفاوُتِ مَدارِكِ النَّاسِ قُوَّةً وضَعفًا) ( (فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء) (2/97).
11- سُئِلَ عبدُ الرَّزَّاق عفيفي عن القُبوريِّينَ الذين يَعتَقِدونَ في الموتى، ويَطلُبونَ منهم، فقال: (هم مرتدُّونَ عن الإسلامِ إذا أُقيمَت عليهم الحُجَّةُ، وإلَّا فهم معذورونَ بجَهْلِهم) ( (فتاوى الشيخ عبد الرزاق عفيفي) (ص: 371).
12- قال ابنُ عثيمين: (الجَهْلُ بالمكَفِّرِ على نوعينِ: الأوَّلُ: أن يكونَ مِن شَخصٍ يَدِينُ بغَيرِ الإسلامِ ...النَّوعُ الثَّاني: أن يكونَ مِن شَخصٍ يَدِينُ بالإسلامِ ولكِنَّه عاش على هذا المكَفِّرِ، ولم يكُنْ يخطُرُ ببالِه أنَّه مخالِفٌ للإسلامِ، ولا نبَّهَه أحَدٌ على ذلك، فهذا تجري عليه أحكامُ الإسلامِ ظاهِرًا، أمَّا في الآخرةِ فأمْرُه إلى اللهِ عزَّ وجَلَّ، وقد دَلَّ على ذلك الكِتابُ والسُّنَّةُ، وأقوالُ أهلِ العِلمِ)( (مجموع فتاوى ابن عثيمين) (7/28). .
مَسألةٌ: فَهمُ الحُجَّةِ
هذه المسألةُ مِن المَسائِلِ المهِمَّةِ، والصَّوابُ فيها: أنَّه لا بُدَّ أن يكونَ بُلوغُ الحُجَّةِ مُعتَبَرًا( عَبَّرَ عن ذلك عبدُ اللطيفِ بنُ حَسَن بقَولِه: (بعد قيامِ الحُجَّةِ، وبُلوغِها المعتَبَرِ). (الدرر السنية) (1/467). ، ويَفهَمَه المخاطَبُ ويَعقِلَه [45] (مصباح الظلام) لعبد اللطيف بن حسن (ص 499). .
قال ابنُ عثيمين: (الحُجَّةُ لا تقومُ إلَّا إذا بَلَغت المكَلَّفَ على وَجهٍ يَفهَمُها... وأمَّا من بلَغَه النَّصُّ ولكِنَّه لم يَعرِفْ منه معنًى أصلًا، كرجُلٍ أعجَميٍّ بلَغَه النَّصُّ باللُّغةِ العَرَبيَّةِ، ولكِنْ لا يدري ما معنى هذا النَّصِّ، فهذا لم تَقُمْ عليه الحُجَّةُ بلا شَكٍّ، ودليلُ هذا قَولُ اللهِ تبارك وتعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [إبراهيم: 4] أي: بعد البَيانِ بهذا اللِّسانِ الذي يَفهَمونَه يُضِلُّ اللهُ من يَشاءُ، فلا يَقبَلُ، ويَهْدي من يَشاءُ فيَقبَلُ.
وأيُّ فائدةٍ لرجُلٍ أعجَميٍّ يُقرَأُ عليه القُرآنُ مِن لسانٍ عَربيٍّ، وهو لا يدري ما هو، أنتَ الآن لو أتى إليك رجلٌ أعجميٌّ وأنت عَربيٌّ لا تَفهَمُ الأعجميَّةَ، ثمَّ كَلَّمَك بخُطبةٍ خَمس صَفَحات أو أكثَر لا تَفهَمُ منها شيئًا إطلاقًا؛ فكذلك العَجَمُ بالنِّسبةِ للعَرَبِ.
فالذي نرى: أنَّه لا بدَّ مِن بُلوغِ الحُجَّةِ وفَهمِ مَعناها على وَجهٍ يتبَيَّنُ له الحَقُّ) ( (لقاء الباب المفتوح) (98/16). .