موسوعة الأخلاق والسلوك

هـ- نماذِجُ من صُوَرِ الجِدِّيَّةِ والحَزمِ عِندَ العُلَماءِ المُتقَدِّمين


- جِدِّيَّة الزَّوْزَنيُّ في اكتِسابِ الأدَبِ
قال الباخَرْزيُّ: (الأديبُ أبو القاسِمِ أسعَدُ بنُ عليٍّ البارِعُ الزَّوْزَنيُّ، هو البارِعُ حَقًّا، والوافِرُ من البَراعةِ حَظًّا، وقد اكتَسَب الأدبَ بجِدِّه وكَدِّه، وانتهى من الفَضلِ إلى أقصى حَدِّه، ولفَّتْني إليه نِسبةُ الآدابِ، ونظمَتْني وإيَّاه صُحبةُ الكُتَّابِ) [2649] ((دمية القصر وعصرة أهل العصر)) للباخَرْزي (2/ 1403، 1404)، ((معجم الأدباء)) لياقوت الحموي (2/631). .
- جِدِّيَّة النَّوَويِّ في العِلمِ
قال ابنُ العَطَّارِ في ترجمةِ النَّوَويِّ: (وذَكَر لي -رحمه اللهُ- أنَّه كان لا يُضِيعُ له وقتًا في ليلٍ ولا نهارٍ إلَّا في وظيفةٍ من الاشتغالِ بالعِلمِ، حتَّى في ذَهابِه في الطُّرُقِ ومجيئِه يشتَغِلُ في تكرارِ مَحفوظِه، أو مُطالَعةٍ، وأنَّه بَقِيَ على التَّحصيلِ على هذا الوَجهِ نحوَ سِتِّ سِنينَ. ثمَّ إنَّه اشتغل بالتَّصنيفِ، والإشغالِ والإفادةِ، والمناصَحةِ للمُسلِمين ووُلاتِهم، مع ما هو عليه من المجاهَدةِ لنَفسِه، والعَمَلِ بدَقائِقِ الفِقهِ...) [2650] ((تحفة الطالبين)) (ص: 64). .
وقال أيضًا: (وذَكَر لي الشَّيخُ -قَدَّسَ اللهُ رُوحَه- قال: "كُنتُ أقرأُ كُلَّ يومٍ اثني عَشَرَ دَرسًا على المشايخِ؛ شَرحًا وتصحيحًا: درسينِ في «الوسيطِ»، ودرسًا في «المهَذَّبِ»، ودرسًا في «الجمعِ بَينَ الصَّحيحينِ»، ودرسًا في «صحيحِ مُسلِم»، ودرسًا في «اللُّمَعِ» لابنِ جِنِّي في النَّحوِ، ودرسًا في «إصلاحِ المَنطِقِ» لابنِ السِّكِّيتِ في اللُّغةِ، ودروسًا في التَّصريفِ، ودرسًا في أصولِ الفِقهِ؛ تارةً في «اللُّمَعِ» لأبي إسحاقَ، وتارةً في «المُنتَخَبِ» لفَخرِ الدِّينِ الرَّازيِّ، ودرسًا في أسماءِ الرِّجالِ، ودرسًا في أصولِ الدِّينِ".
قال: «وكنتُ أُعَلِّقُ جميعَ ما يتعَلَّقُ بها؛ من شَرحِ مُشكِلٍ، ووضوحِ عِبارةٍ، وضَبطِ لُغةٍ».
قال: «وبارك اللهُ لي في وقتي، واشتِغالي، وأعانني عليه») [2651] ((تحفة الطالبين)) (ص: 49، 50). .
- جِدِّيَّةُ صَلاحِ الدِّينِ ببَيتِ المَقدِسِ
(كان في بَيتِ المقدِسِ شابٌّ مأسورٌ من أهلِ دِمَشقَ، كَتَب هذه الأبياتَ وأرسل بها إلى المَلِكِ صلاحِ الدِّينِ على لِسانِ القُدسِ، فقال:
يا أيُّها المَلِكُ الذي
لمعالِمِ الصُّلْبانِ نَكَّسْ
جاءت إليك ظُلامةٌ
تسعى من البَيتِ المُقَدَّسْ
كُلُّ المساجِدِ طُهِّرَت
وأنا على شَرَفي مُنَجَّسْ
فكانت هذه الأبياتُ هي الدَّاعيةَ له إلى فَتحِ بَيتِ المَقدِسِ) [2652] ((الأنس الجليل)) للعليمي (1/ 318، 319). .
- جِدِّيَّةُ نورِ الدِّينِ تِجاهَ حِصارِ المُسلِمين
قال أبو شامةَ: (بلَغَني من شِدَّةِ اهتمامِ نورِ الدِّينِ -رحمه اللهُ- بأمرِ المُسلِمين حينَ نَزَل الفِرِنجُ على دمياطَ أنَّه قُرِئ عليه جزءٌ من حديثٍ كان له به روايةٌ، فجاء في جملةِ تلك الأحاديثِ حديثٌ مُسَلسَلٌ بالتبَسُّمِ، فطَلَب منه بعضُ طَلَبةِ الحديثِ أن يتبَسَّمَ؛ لتَتِمَّ السِّلسلةُ على ما عُرِف من عادةِ أهلِ الحديثِ، فغَضِب من ذلك، وقال: إنِّي لأستحيي من اللهِ تعالى أن يراني متبَسِّمًا والمُسلِمون محاصَرون بالفِرِنْجِ) [2653] ((الروضتين في أخبار الدولتين)) (2/ 143). .
- جِدِّيَّةُ إسماعيلَ الحِيريِّ في قراءةِ صحيحِ البُخاريِّ
قال الخطيبُ البغداديُّ في ترجمةِ إسماعيلَ الحِيريِّ: (لَمَّا ورَد بغدادَ كان قد اصطحَب معه كتُبَه عازِمًا على المجاوَرةِ بمكَّةَ، وكانت وِقْرَ بعيرٍ وفي جُملتِها "صحيحُ البُخاريِّ"، وكان سَمِعه من أبي الهيثَمِ الكُشْمِيهَنيِّ عن الفِرَبْريِّ، فلم يُقضَ لقافلةِ الحَجيجِ النُّفوذُ في تلك السَّنةِ لفَسادِ الطَّريقِ، ورَجَع النَّاسُ، فعاد إسماعيلُ معهم إلى نَيْسابورَ، ولَمَّا كان قَبلَ خُروجِه بأيَّامٍ خاطَبْتُه في قراءةِ كِتابِ "الصَّحيح" فأجابني إلى ذلك، فقرأتُ جميعَه عليه في ثلاثةِ مجالِسَ؛ اثنانِ منها في ليلتَينِ كُنتُ أبتدئُ بالقراءةِ وَقتَ صلاةِ المغرِبِ وأقطَعُها عِندَ صلاةِ الفَجرِ، وقَبلَ أن أقرَأَ المجلِسَ الثَّالِثَ عَبَر الشَّيخُ إلى الجانِبِ الشَّرقيِّ مع القافِلةِ ونَزَل الجزيرةَ بسُوقِ يحيى، فمَضَيتُ إليه مع طائفةٍ من أصحابِنا كانوا حَضَروا قِراءتي عليه في اللَّيلتَينِ الماضيتَينِ، وقرأتُ عليه في الجزيرةِ من ضَحوةِ النَّهارِ إلى المغرِبِ، ثمَّ من المغربِ إلى وَقتِ طُلوعِ الفَجرِ، ففرَغْتُ من الكتابِ، ورَحَل الشَّيخُ في صَبيحةِ تلك اللَّيلةِ مع القافِلةِ) [2654] ((تاريخ بغداد)) (7/ 318، 319) .
قال الذَّهَبيُّ: (وهذا شيءٌ لا أعلَمُ أحدًا في زمانِنا يستطيعُه) [2655] ((تاريخ الإسلام)) (10/ 182) .
- جِدِّيَّةُ ابنِ الجوزيِّ وحَزمُه في طلَبِ معالي الأمورِ
يقولُ ابنُ الجوزيِّ متحَدِّثًا عن نفسِه: (خُلِقَت لي همَّةٌ عاليةٌ تَطلُبُ الغاياتِ، بلغْتُ السِّنَّ وما بلَغْتُ ما أمَّلْتُ! فأخذتُ أسألُ تطويلَ العُمُرِ، وتقويةَ البَدَنِ، وبلوغَ الآمالِ، فأنكَرَتْ علَيَّ العاداتُ، وقالت: ما جَرَت عادةٌ بما تَطلُبُ، فقلتُ: إنَّما أطلُبُ من قادرٍ يخرِقُ العاداتِ، وقد قيل لرَجُلٍ: لنا حُوَيجةٌ [2656] تصغيرُ حاجةٍ. . فقال: اطَلبوا لها رُجَيلًا [2657] تصغيرُ رَجُلٍ. يُنظر: ((مختار الصحاح)) للرازي (ص: 119). ! وقيل لآخَرَ: جِئناك في حاجةٍ لا تَرْزَؤك [2658] يقال: رَزَأ الشَّيءَ: نَقَصه. يُنظر: ((تاج العروس)) للزبيدي (1/ 244). . فقال: هلَّا طلَبْتُم لها سفاسِفَ [2659] السَّفْسافُ: الرَّديءُ من كلِّ شَيءٍ. يُنظر: ((تاج العروس)) للزبيدي (23/ 441). النَّاسِ! فإذا كان أهلُ الأنَفَةِ [2660] الأَنَفةُ، أي: الغَيرةُ والحِشمةُ. يُنظر: ((تاج العروس)) للزبيدي (23/ 46). من أربابِ الدُّنيا يقولون هذا، فلِمَ لا نَطمَعُ في فَضلِ كريمٍ قادِرٍ؟) [2661] ((صيد الخاطر)) (ص: 263). .
وقال ابنُ الجوزيِّ ينصَحُ ابنَه أبا القاسِمِ لَمَّا رأى منه نوعَ توانٍ عن الجِدِّ في طَلَبِ العِلمِ: (وإنِّي لأذكُرُ لك بعضَ أحوالي لعلَّك تنظُرُ إلى اجتِهادي، وتسألُ الموَفِّقَ لي... فإنِّي أذكُرُ نفسي ولي هِمَّةٌ عاليةٌ وأنا في المكتَبِ ولي نحوٌ من سِتِّ سِنينَ، وأنا قَرينُ الصِّبيانِ الكِبارِ قد رُزِقتُ عَقلًا وافِرًا في الصِّغَرِ يزيدُ على عقلِ الشُّيوخِ، فما أذكُرُ أنِّي لَعِبتُ في طريقٍ مع صبيٍّ قَطُّ، ولا ضَحِكتُ ضَحِكًا جارِحًا، حتَّى إنِّي كنتُ ولي سبعُ سِنينَ أو نحوُها أحضُرُ رَحبةَ الجامِعِ، ولا أتخيَّرُ حَلقةَ مُشَعْبِذٍ، بل أطلُبُ المحَدِّثَ، فيتحَدَّثُ بالسَّنَدِ الطَّويلِ، فأحفَظُ جميعَ ما أسمعُ، وأرجِعُ إلى البيتِ فأكتُبُه... ولقد كان الصِّبيانُ يَنزِلون دِجلةَ، ويتفَرَّجون على الجِسرِ، وأنا في زَمَنِ الصِّغرِ آخُذُ جُزءًا، وأقعُدُ حُجزةً من النَّاسِ إلى جانبِ الرَّقَّةِ فأتشاغَلُ بالعِلمِ) [2662] ((لفتة الكبد)) (ص: 33-35). .
وقال: (ولقد كُنتُ في حلاوةِ طَلَبي العِلمَ ألقى من الشَّدائدِ ما هو عندي أحلى مِن العَسَلِ؛ لأجْلِ ما أطلُبُ وأرجو، كنتُ في زِمانِ الصِّبا آخُذُ معي أرغِفةً يابِسةً، فأخرُجُ في طَلَبِ الحديثِ، وأقعُدُ على نهرِ عيسى، فلا أقدِرُ على أكلِها إلَّا عِندَ الماءِ، فكُلَّما أكلتُ لُقمةً شَرِبتُ عليها، وعينُ هِمَّتي لا ترى إلَّا لذَّةَ تحصيلِ العِلمِ) [2663] ((صيد الخاطر)) (ص: 248). .
- جِدِّيَّةُ قُطُزٍ وحَزمُه في جِهادِ التَّتارِ
قال الذَّهَبيُّ في ترجمتِه: (كان أكبَرَ مماليكِ المَلِكِ المُعِزِّ أيبَك التُّركُمانيِّ، وكان بطلًا شجاعًا مِقدامًا، حازِمًا حَسَنَ التَّدبيرِ، يرجِعُ إلى دينٍ وإسلامٍ وخيرٍ، وله اليَدُ البيضاءُ في جِهادِ التَّتارِ) [2664] ((تاريخ الإسلام)) (14/887). .
وقال أيضًا: (كان مُدَبِّرَ دَولةِ ابنِ أستاذِه المَلِكِ المنصورِ عليِّ بنِ المعِزِّ، فلمَّا دَهَم العَدُوُّ الشَّامَ رأى أنَّ الوَقتَ يحتاجُ إلى سُلطانٍ مَهيبٍ كامِلِ الرُّجوليَّةِ، فعَزَل الصَّبيَّ من المُلكِ وتَسَلْطَنَ، وتمَّ له ذلك في أواخِرِ سنةِ سَبعٍ وخمسينَ، ثمَّ لم يبلَعْ ريقَه، ولا تهنَّى بالسَّلْطنةِ حتى امتلأتِ الشَّاماتُ المُبارَكةُ بالتَّتارِ، فتجَهَّز للجِهادِ، وشَرَع في أُهْبةِ [2665] أي: عدة. يُنظر: ((مختار الصحاح)) لزين الدين الرازي (ص: 25). الغَزْوِ، والتفَّ إليه عَسكَرُ الشَّامِ وبايَعوه، فسار بالجُيوشِ في أوائِلِ رَمَضانَ لقَصدِ الشَّامِ، ونَصرِ الإسلامِ، فعَمِل المصافَّ مع التَّتارِ، وعليهم كُتبُغا على عينِ جالوتَ، فنصَره اللهُ، وقَتَل مُقَدَّمَ التَّتارِ) [2666] ((تاريخ الإسلام)) (14/887). .
- جِدِّيَّةُ ابنِ تَيميَّةَ في حِفظِ العِلمِ وتحصيلِه وتأليفِه
ذَكَر ابنُ رَجَبٍ عن الذَّهَبيِّ أنَّ ابنَ تَيميَّةَ لَمَّا كان معتَقَلًا بالإسكَندريَّةِ التمَس منه صاحِبُ سَبتةَ أن يجيزَ لأولادِه، فكتَب لهم في ذلك نحوًا من سِتِّمائةِ سَطرٍ، منها سبعةُ أحاديثَ بأسانيدِها، والكلامِ على صِحَّتِها ومعانيها، وبحَث وعَمِل ما إذا نظَر فيه المحَدِّثُ خَضَع له من صناعةِ الحديثِ، وذكَر أسانيدَه في عِدَّةِ كتُبٍ، ونبَّه على العوالي، عَمِل ذلك كُلَّه مِن حِفظِه، من غيرِ أن يكونَ عِندَه ثَبَتٌ أو من يراجِعُه.
ولقد كان عجيبًا في معرفةِ عِلمِ الحديثِ، فأمَّا حِفظُه متونَ الصِّحاحِ وغالِبَ مُتونِ السُّنَنِ والمُسنَدِ فما رأيتُ مَن يدانيه في ذلك أصلًا.
قال ابنُ رَجَبٍ: قُلتُ: وقد كتَبَ (الحَمَويَّة) في قَعدةٍ واحدةٍ، وهي أزيَدُ من ذلك، وكَتَب في بعضِ الأحيانِ في اليومِ ما يُبَيَّضُ منه مُجلَّدٌ [2667] يُنظر: ((ذيل طبقات الحنابلة)) (4/501). .

انظر أيضا: