د- نماذِجُ من الاحترامِ والتَّوقيرِ عِندَ السَّلَفِ
توقيرُ العُلَماءِ:1- ضَرَب السَّلَفُ الصَّالحُ أروَعَ النَّماذِجِ في توقيرِ العُلَماءِ وإجلالِهم، ومن ذلك ما رواه إدريسُ بنُ عبدِ الكريمِ، قال: (قال لي سَلَمةُ بنُ عاصِمٍ: أريدُ أن أسمعَ كِتابَ العَدَدِ من خَلَفٍ، فقلتُ لخَلَفٍ: قال: فليَجِئْ، فلمَّا دخل رفعَه لأن يجلِسَ في الصَّدرِ، فأبى، وقال: لا أجلِسُ إلَّا بَيْنَ يدَيك، وقال: هذا حَقُّ التَّعليمِ، فقال له خَلَفٌ: جاءني
أحمدُ بنُ حنبَلٍ يسمَعُ حديثَ أبي عَوانةَ، فاجتهَدْتُ أن أرفَعَه، فأبى وقال: لا أجلِسُ إلَّا بَيْنَ يديك، أُمِرْنا أن نتواضَعَ لِمن نتعَلَّمُ منهـ)
، وهكذا كان العُلَماءُ يُوَقِّرُ بعضُهم بعضًا ويُظهِرون هذا التَّبجيلَ والاحترامَ أمامَ النَّاسِ وأمامَ الطُّلَّابِ؛ ليتعَلَّموا ويأخُذوا منهم القُدوةَ.
2- عن عبدِ اللَّهِ بنِ أحمدَ بنِ حَنبَلٍ قال: (رأيتُ أبي إذا جاء الشَّيخُ والحَدَثُ من قُرَيشٍ أو غيرُهم من الأشرافِ، لم يخرُجْ من بابِ المسجِدِ حتَّى يخرِجَهم، فيكونوا هم يتقَدَّمونه، ثمَّ يخرُجُ مِن بَعدِهم)
، وقال المَرُّوذيُّ: (رأيتُه جاء إليه مولى ابنِ المبارَكِ، فألقى له مخدَّةً وأكرمَه، وكان إذا دخَل عليه مَن يَكرُمُ عليه يأخُذُ المخدَّةَ من تحتِه فيُلقيها لهـ). وقال: (وكان أبو عبدِ اللَّهِ من أشَدِّ النَّاسِ إعظامًا لإخوانِه ومن هو أسَنُّ منه، لقد جاءه أبو همَّامٍ راكبًا على حمارٍ، فأخَذ له أبو عبدِ اللَّهِ بالرِّكابِ! ورأيتُه فَعَل هذا بمن هو أسَنُّ من الشُّيوخِ)
.
3- روى معاذُ بنُ سعيدٍ، قال: (كنَّا عِندَ عطاءِ بنِ أبي رَباحٍ، فتحدَّث رجُلٌ بحديثٍ فاعترَضَ له آخَرُ في حديثِه، فقال عطاءٌ: سُبحانَ اللَّهِ! ما هذه الأخلاقُ؟ ما هذه الأحلامُ؟ إنِّي لأسمعُ الحديثَ مِن الرَّجُلِ وأنا أعلَمُ منه، فأُريهم من نفسي أنِّي لا أحسِنُ منه شيئًا!)
، فينبغي أن يسودَ الاحترامُ بَيْنَ السَّامِعِ والمستمَعِ، فلا يقاطِعَ حديثَه ولا يعارِضَه حتَّى ينتهيَ من كلامِه.
- وعن هِشامِ بنِ سُلَيمانَ المخزوميِّ: أنَّ عَليَّ بنَ عبدِ اللَّهِ بنِ العَبَّاسِ: (كان إذا قَدِم حاجًّا مكَّةَ أو معتَمِرًا عطَّلَت قُرَيشٌ مجالِسَها في المسجِدِ الحرامِ، وهجَرَت مواضِعَ حِلَقِها، ولزِمَت مجلِسَ عليِّ بنِ عبدِ اللَّهِ إعظامًا وإجلالًا وتبجيلًا، فإن قَعَد قَعَدوا، وإن نَهَض نَهَضوا، وإن مشى مشَوا جميعًا حولَه، وكان لا يُرى لقُرشيٍّ في المسجِدِ الحرامِ مجلِسُ ذِكرٍ يُجتَمَعُ إليه حتَّى يخرُجَ عليُّ بنُ عبدِ اللَّهِ مِن الحَرَمِ)
.
- وعن
بِشرِ بنِ الحارِثِ قال: (سأل رجُلٌ
ابنَ المبارَكِ عن حديثٍ وهو يمشي، قال: ليس هذا من توقيرِ العِلمِ) قال
بِشرٌ: فاستحسَنْتُه جِدًّا
.
- وقال الرَّبيعُ صاحِبُ الشَّافعيِّ: (ما اجتَرَأتُ أن أشرَبَ الماءَ و
الشَّافعيُّ ينظُرُ إليَّ؛ هَيبةً له!)
.
- وعن ابنِ عَرْعَرةَ قال: (كان طاهِرُ بنُ عبدِ اللَّهِ ببغدادَ، فطَمِع في أن يسمَعَ من
أبي عُبَيدٍ، وطَمِع أن يأتيَه في منزِلِه، فلم يفعَلْ
أبو عُبَيدٍ حتَّى كان هذا يأتيه، فقَدِم
عليُّ بنُ المَدينيِّ وعبَّاسٌ العَنْبَريُّ، فأرادا أن يسمعا غَريبَ الحديثِ، فكان يحمِلُ كُلَّ يومٍ كتابَه ويأتيهما في منزلِهما فيُحَدِّثُهما فيهـ)
.
قال
الخطيبُ البغداديُّ مُعَلِّقًا: (إنَّما امتنع
أبو عُبَيدٍ مِن المضيِّ إلى منزِلِ طاهِرٍ توقيرًا للعِلمِ، ومضى إلى مَنزِلِ
ابنِ المدينيِّ وعَبَّاسٍ تواضُعًا وتدَيُّنًا، ولا وَكَفَ
عليه في ذلك، إذ كانا من أهلِ الفَضلِ والمنزلةِ العاليةِ في العِلمِ، وقد فَعَل
سُفيانُ الثَّوريُّ مع إبراهيمَ بنِ أدهَمَ مِثلَ هذا)
.
- وعن
مالكٍ (أنَّ رَجُلًا جاء إلى
سعيدِ بنِ المُسَيِّبِ وهو مريضٌ، فسأله عن حديثٍ وهو مضطَجِعٌ، فجلس فحَدَّثه، فقال له الرَّجُلُ: وَدِدتُ أنَّك لم تتعَنَّ، فقال: إنِّي كَرِهتُ أن أحَدِّثَك عن رسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأنا مُضطَجِعٌ)
.
- وعن محمَّدِ بنِ رافعٍ قال: (كنتُ مع
أحمَدَ وإسحاقَ عِندَ عبدِ الرَّزَّاقِ، فجاءنا يومَ الفِطرِ، فخرَجْنا مع عبدِ الرَّزَّاقِ إلى المصلَّى، ومعنا ناسٌ كثيرٌ، فلمَّا رجَعْنا دعانا عبدُ الرَّزَّاقِ إلى الغَداءِ، ثمَّ قال
لأحمدَ وإسحاقَ: رأيتُ اليومَ منكما عَجَبًا، لم تُكَبِّرَا! فقال
أحمَدُ وإسحاقُ: يا أبا بكرٍ، كُنَّا ننتَظِرُ هل تُكَبِّرُ، فنُكَبِّرَ، فلمَّا رأيناك لم تُكَبِّرْ، أمسَكْنا! قال: وأنا كنتُ أنظُرُ إليكما، هل تُكَبِّرانِ، فأكَبِّرَ!)
.
- وقال محمَّدُ بنُ حمدونَ بنِ رُستُمَ: سَمِعتُ مُسلِمَ بنَ الحَجَّاجِ وجاء إلى
البخاريِّ فقال: (دعْني أقبِّلْ رِجليك يا أستاذَ الأُستاذينَ، وسَيِّدَ المحَدِّثين، وطبيبَ الحديثِ في عِلَلِهـ)
.
- وعن عاصِمٍ، قال
الكِسائيُّ: (صلَّيتُ ب
الرَّشيدِ، فأخطأتُ في آيةٍ ما أخطَأَ فيها صبيٌّ، قلتُ: لعَلَّهم يَرجِعينَ! فواللَّهِ ما اجترأ
الرَّشيدُ أن يقولَ: أخطَأْتَ، لكِنْ قال: أيُّ لغةٍ هذه؟ قلتُ: يا أميرَ المُؤمِنين! قد يَعثُرُ الجوادُ، قال: أمَّا هذا فنَعَمْ)
.
- عن عبدِ الرَّحمنِ بنِ حَرمَلةَ، قال: (ما كان إنسانٌ يجترئُ على
سعيدِ بنِ المُسَيِّبِ يسألُه عن شيءٍ حتَّى يستأذنَه كما يستأذِنُ الأميرَ)
.
- وقال
ابنُ عساكِرَ: (كان العَبدريُّ أحفَظَ شَيخٍ لقيتُه، وكان فقيهًا داوديًّا، ذُكِر أنَّه دخَل دِمَشقَ في حياةِ أبي القاسمِ بنِ أبي العلاءِ، وسمِعتُه وقد ذُكِر
مالكٌ، فقال: جِلفٌ جافٍ! ضَرَب هِشامَ بنَ عَمَّارٍ بالدِّرَّةِ، وقرأتُ عليه «الأموالَ» ل
أبي عُبَيدٍ، فقال -وقد مَرَّ قولٌ ل
أبي عُبَيدٍ-: ما كان إلَّا حمارًا مُغَفَّلًا لا يَعرِفُ الفِقهَ! وقيل لي عنه: إنَّه قال في
إبراهيمَ النَّخَعيِّ: أعوَرُ سُوءٍ!
فاجتمَعْنا يومًا عِندَ ابنِ السَّمَرْقَنديِّ في قراءةِ كتاب «الكامِل»، فجاء فيه: وقال السَّعديُّ كذا، فقال: يَكذِبُ ابنُ عَديٍّ، إنَّما ذا قولُ إبراهيمَ الجَوْزَجانيِّ! فقُلتُ له: فهو السَّعديُّ، فإلى كم نحتَمِلُ منك سوءَ الأدَبِ، تقولُ في إبراهيمَ كذا وكذا، وتقولُ في
مالكٍ: جافٍ، وتقولُ في
أبي عُبَيدٍ؟!
فغَضِب وأخذَتْه الرِّعدةُ، وقال: كان ابنُ الخاضِبةِ والبَردانيُّ وغيرُهما يخافوني، فآل الأمرُ إلى أن تقولَ فيَّ هذا؟!
فقال له ابنُ السَّمَرْقَنديِّ: هذا بذاك.
فقُلتُ: إنَّما نحتَرِمُك ما احتَرَمْتَ الأئمَّةَ)
.
- وقال أبو بكرٍ الأثرَمُ: أخبَرَني
عبدُ اللَّهِ بنُ المبارَكِ -شيخٌ سَمِع منه قديمًا، وليس بالخُراسانيِّ- قال: كنتُ عِندَ إسماعيلَ بنِ عُلَيَّةَ، فتكَلَّم إنسانٌ فضَحِك بعضُنا، وثَمَّ
أحمدُ بنُ حنبَلٍ، قال: فأتينا إسماعيلَ فوجَدْناه غَضبانَ، فقال: أتضحَكونَ وعندي
أحمدُ بنُ حنبَلٍ
؟!