موسوعة الأخلاق والسلوك

خامسًا: صُوَرُ الغِشِّ ومَظاهِرُه


1- الغِشُّ في البَيعِ والشِّراءِ وغَيرِهما من المعامَلاتِ الماليَّةِ:
كأن يحصُلَ الشَّخصُ على المالِ بطُرُقٍ مُحَرَّمةٍ؛ إمَّا عن طريقِ الكَذِبِ، أو كتمانِ عَيبِ السِّلعةِ، أو البَخسِ في ثَمَنِها، أو التَّطفيفِ في وَزنِها، أو خَلطِ الجَيِّدِ بالرَّديءِ، وغيرِها من الطُّرُقِ المحَرَّمةِ؛ فعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللَّهُ عنه: ((أنَّ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَرَّ على صُبْرةِ  طعامٍ، فأدخَل يَدَه فيها، فنالت أصابِعُه بللًا، فقال: ما هذا يا صاحِبَ الطَّعامِ؟ قال: أصابته السَّماءُ يا رسولَ اللهِ، قال: أفلا جعَلْتَه فوقَ الطَّعامِ؛ كي يراه النَّاسُ، من غَشَّ فليس منِّي)) [5183] رواه مسلم (102). .
قال ابن حجر الهيتمي مُبَيِّنًا هذا النَّوعَ من الغِشِّ في البَيعِ والشِّراءِ: (الغِشُّ المحرَّمُ أن يعلَمَ ذو السِّلعةِ مِن نحوِ بائِعٍ أو مشترٍ، فيها شيئًا لو اطَّلع عليه مريدُ أخْذِها ما أخَذَها بذلك المقابِلِ) [5184] ((الزواجر عن اقتراف الكبائر)) (1/396). .
وما أكثَرَ (ضُروبَ الغِشِّ والاحتيالِ، كما يقَعُ من السَّماسِرةِ من التَّلبيسِ والتَّدليسِ، فيُزَيِّنون للنَّاسِ السِّلَعَ الرَّديئةَ، والبضائِعَ المُزْجاةَ، ويُوَرِّطونهم في شرائِها، ويُوهِمونهم ما لا حقيقةَ له، بحيثُ لو عَرَفوا الخفايا ما باعوا وما اشتَرَوا!) [5185] ((تفسير المراغي)) (2/82). .
وقال أبو طالِبٍ المَكِّيُّ: (ومن الغِشِّ أن يَنشُرَ على المُشتري أجوَدَ الطَّرفَينِ من المَبيعِ، أو يُظهِرَ من المَبيعِ أجوَدَ الثَّوبينِ، أو يَكشِفَ من الصَّنعةِ أحسَنَ الوجهَينِ) [5186] ((قوت القلوب)) (2/ 445). .
وقال ابنُ تَيميَّةَ: (والغِشُّ يدخُلُ في البُيوعِ بكِتمانِ العُيوبِ، وتدليسِ السِّلَعِ، مِثلُ أن يكونَ ظاهِرُ المبيعِ خَيرًا من باطِنِه، كالذي مرَّ عليه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأنكَر عليه. ويدخُلُ في الصِّناعاتِ، مِثلُ الذين يصنعون المطعوماتِ من الخُبزِ والطَّبخِ والعَدَسِ، والشِّواءِ وغيرِ ذلك، أو يَصنَعون الملبوساتِ، كالنَّساجين والخيَّاطين، ونحوِهم، أو يصنَعون غيرَ ذلك من الصِّناعاتِ؛ فيَجِبُ نهيُهم عن الغِشِّ والخيانةِ والكِتمانِ) [5187] ((الحسبة في الإسلام)) (ص: 18). .
ومن ذلك التَّصريةُ، وهي: جمعُ اللَّبَنِ في الضَّرعِ عِندَ إرادةِ بَيعِها حتَّى يَعظُمَ ضَرعُها؛ ليوهِمَ مشتريَها أنَّها تَحلُبُ مِثلَ ذلك، وأنَّ كثرةَ لَبَنِها عادةٌ لها مستمرَّةٌ [5188] يُنظر: ((طرح التثريب في شرح التقريب)) للعراقي (6/ 76)، ((مواهب الجليل)) للحطَّاب (6/350). . عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللَّهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((ولا تُصَرُّوا الإبِلَ والغَنَمَ...)) [5189] أخرجه البخاري (2150)، ومسلم (1515) واللفظ له. . ولا خِلافَ أنَّ التَّصريةَ حَرامٌ؛ لأجلِ الغِشِّ والخديعةِ التي فيها للمُشتري. والنَّهيُ يَدُلُّ عليه [5190] ((إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام)) لابن دقيق العيد (2/ 115). .
ومن ذلك حَقنُ الحيواناتِ لتَسمينِها بإبَرٍ تحتوي على هُرموناتٍ تُسَبِّبُ ضَرَرًا سواءٌ للحيوانِ أو للإنسانِ الذي سيتناوَلُها.
ومن ذلك أنَّ بعضَ البائعينَ يُعطي الأغنامَ ماءً ومِلحًا حتَّى تنتَفِخَ، فيُوهِمَ المشتريَ بكثرةِ لَحمِها وكِبَرِ حَجمِها.
2- غِشُّ الرَّاعي للرَّعيَّةِ، وغِشُّ الرَّعيَّةِ للرَّاعي:
فغِشُّ الرَّعيَّةِ للرَّاعي يكونُ بمدحِه وإطرائِه بما ليس فيه، كأن يذكُروا له أعمالًا وإنجازاتٍ لم يعمَلْها، أو بعَدَمِ نُصحِه إذا رأوا منه مُنكَرًا، وغيرِ ذلك.
وأمَّا غِشُّ الرَّاعي للرَّعيَّةِ:
ويُقصَدُ بالرَّاعي: الرُّؤساءُ، والحُكَّامُ، والمُديرونَ، والرَّجُلُ في أهلِه، وغيرُهم ممَّن لهم الرِّعايةُ على النَّاسِ، ويكونُ الغِشُّ بظُلمِهم، وعَدَمِ النُّصحِ لهم.
فعن مَعقِلِ بنِ يَسارٍ المُزَنيِّ رَضِيَ اللَّهُ عنه قال: ((سَمِعتُ رَسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ما مِن عبدٍ يسترعيه اللَّهُ رعيَّةً، يموتُ يومَ يموتُ وهو غاشٌّ لرعيَّتِه، إلَّا حَرَّم اللَّهُ عليه الجنَّةَ)) [5191] رواه البخاري (7150)، ومسلم (142) واللفظ له. .
قال ابنُ القَيِّمِ: (وكم ممَّن أشقى وَلَدَه وفِلذةَ كَبِدِه في الدُّنيا والآخِرةِ بإهمالِه، وتَركِ تأديبِه، وإعانتِه على شَهَواتِه، ويَزعُمُ أنَّه يُكرِمُه وقد أهانه، وأنَّه يرحَمُه وقد ظلَمَه؛ ففاته انتفاعُه بوَلَدِه، وفوَّتَ عليه حَظَّه في الدُّنيا والآخِرةِ، وإذا اعتبَرْتَ الفسادَ في الأولادِ رأيتَ عامَّتَه من قِبَلِ الآباءِ) [5192] ((تحفة المودود)) (ص: 142). .
وقال ابنُ عُثَيمين: (السَّبَبُ التَّاسِعُ من الأسبابِ التي يَستحِقُّ فاعِلُها دُخولَ النَّارِ دونَ الخُلودِ فيها: الغِشُّ للرَّعيَّةِ، وعَدَمُ النُّصحِ لهم...؛ لحديثِ مَعقِلِ بنِ يَسارٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه قال: ((سمِعتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ما مِن عبدٍ يسترعيه اللَّهُ رعيَّةً، يموتُ يومَ يموتُ وهو غاشٌّ لرعيَّتِه، إلَّا حَرَّم اللَّهُ عليه الجنَّةَ))، وهذا يعَمُّ رعايةَ الرَّجُلِ في أهلِه، والسُّلطانِ في سُلطانِه، وغيرَهم؛ لحديثِ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عنهما قال: ((سَمِعتُ رَسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: كُلُّكم راعٍ وكُلُّكم مسؤولٌ عن رعيَّتِه؛ الإمامُ راعٍ ومسؤولٌ عن رعيَّتِه، والرَّجُلُ راعٍ في أهلِه وهو مسؤولٌ عن رعيَّتِه، والمرأةُ راعيةٌ في بيتِ زَوجِها ومسؤولةٌ عن رعيَّتِها، والخادِمُ راعٍ في مالِ سيِّدِه ومسؤولٌ عن رعيَّتِه -قال: وحَسِبتُ أنْ قد قال- والرَّجُلُ راعٍ في مالِ أبيه ومسؤولٌ عن رعيَّتِه، وكُلُّكم راعٍ ومسؤولٌ عن رعيَّتِه)) [5193] رواه البخاري (893)، ومسلم (1829). ) [5194] ((مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين)) (20/387). .
3- الغِشُّ في القَولِ:
وذلك عِندَ إدلاءِ الشَّاهِدِ بالشَّهادةِ، فيَشهَدُ بشهادةٍ فيها زُورٌ وبهتانٌ وكَذِبٌ، ونحوُ ذلك.
4- الغِشُّ في النَّصيحةِ:
ويكونُ الغِشُّ في النَّصيحةِ بعَدَمِ الصِّدقِ والإخلاصِ فيها.
عن جريرِ بنِ عبدِ اللَّهِ، قال: ((بايَعْتُ رَسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على إقامِ الصَّلاةِ، وإيتاءِ الزَّكاةِ، والنُّصحِ لكُلِّ مُسلِمٍ)) [5195] رواه البخاري (57)، ومسلم (56). .
وعن تميمٍ الدَّاريِّ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((الدِّينُ النَّصيحةُ. قُلْنا: لمن؟ قال: للهِ، ولكتابِه، ولرَسولِه، ولأئمَّةِ المُسلِمين وعامَّتِهم)) [5196] رواه مسلم (55). .
5- الغِشُّ في تعَلُّمِ العِلمِ:
كأن يغُشَّ في الامتحاناتِ، ويحصُلَ على شهادةٍ لا يستَحِقُّها، وقد يتبوَّأُ بها منصِبًا، وهو ليس أهلًا لذلك المنصِبِ، وبهذا الغِشِّ يخرُجُ جِيلٌ جاهِلٌ، غيرُ مُؤَهَّلٍ لقيادةِ الأمَّةِ.
وقد تكَلَّم بعضُ العُلَماءِ عن هذا النَّوعِ من الغِشِّ، ومِن ذلك:
سؤالٌ قُدِّم للَّجنةِ الدَّائمةِ للإفتاءِ؛ مفادُه: ما حُكمُ مَن يَغُشُّ في امتحاناتِ الدِّراسةِ كموادِّ الكيمياءِ والطَّبيعةِ؟
فكان ردُّ اللَّجنةِ ما يلي: الغِشُّ حرامٌ في امتحاناتِ الدِّراسةِ أو غيرِها، وفاعِلُه مرتكِبٌ كبيرةً من كبائِرِ الذُّنوبِ؛ لِما ثبت عنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: ((مَن غَشَّنا فليس منَّا)) [5197] رواه مسلم (101) مطوَّلًا من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. . ولا فَرقَ في ذلك بَيْنَ كونِ الموادِّ الدِّراسيَّةِ دينيَّةً أو غيرَ دينيَّةٍ [5198] ((فتاوى اللجنة الدائمة - 1)) (12/199). .
وقال ابنُ بازٍ: (الغِشُّ محرَّمٌ في الاختباراتِ، كما أنَّه محرَّمٌ في المعاملاتِ؛ فليس لأحَدٍ أن يَغُشَّ في الاختباراتِ في أيَّةِ مادَّةٍ، وإذا رَضِيَ الأستاذُ بذلك فهو شريكُه في الإثمِ والخيانةِ) [5199] ((مجموع فتاوى ومقالات ابن باز)) (6/397). .
وقُدِّم له سؤالٌ مفادُه: ما قولُكم فيمن يقولُ: إنَّ الغِشُّ حرامٌ فقط إذا كان في الموادِّ والعُلومِ الشَّرعيَّةِ، ويكونُ مُباحًا إذا كان في غيرِها؛ كاللُّغةِ الإنجليزيَّةِ، أو التَّاريخِ، أو الرِّياضيَّاتِ، أو الهندَسةِ، أو نحوِها؟
فقال: (الغِشُّ في جميعِ الموادِّ حرامٌ ومُنكَرٌ؛ لعمومِ قَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن غَشَّنا فليس مِنَّا)) [5200] رواه مسلم (101) مطوَّلًا من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. ...) [5201] ((مجموع فتاوى ومقالات ابن باز)) (24/61). .
وقال ابنُ عُثَيمين: (وإنَّ ممَّا يُؤسَفُ له أنَّ بعضَ الطُّلَّابِ يَستأجِرون مَن يُعِدُّ لهم بحوثًا أو رسائِلَ يحصُلون بها على شهاداتٍ عِلميَّةٍ، أو من يحقِّقُ بعضَ الكُتُبِ، فيقولُ لشَخصٍ: حَضِّرْ لي تراجِمَ هؤلاء، وراجِعِ البحثَ الفُلانيَّ، ثمَّ يُقَدِّمُه رسالةً ينالُ بها درجةً يستوجِبُ بها أن يكونَ في عِدادِ المعَلِّمين أو ما أشبَهَ ذلك، فهذا في الحقيقةِ مخالِفٌ لمقصودِ الجامعةِ، ومخالِفٌ للواقِعِ، وأرى أنَّه نوعٌ من الخيانةِ؛ لأنَّه لا بُدَّ أن يكونَ المقصودُ من الرِّسالةِ هو الدِّراسةَ والعِلمَ قَبلَ كُلِّ شيءٍ، فإذا كان المقصودُ من ذلك الشَّهادةَ فقط، فإنَّه لو سُئِل بَعدَ أيَّامٍ عن الموضوعِ الذي حَصَل على الشَّهادةِ فيه لم يُجِبْ؛ لهذا أحَذِّرُ إخواني الذين يحَقِّقون الكُتُبَ، أو الذين يُحضِّرون رسائِلَ على هذا النَّحوِ، من العاقِبةِ الوخيمةِ) [5202] ((العلم)) (ص: 185). .
وسُئِل فضيلتُه أيضًا: ما نصائِحُكم للطَّلَبةِ في أيَّامِ الامتحاناتِ والإجازاتِ؟
فأجاب بقَولِه: (نصيحتي للطَّلَبةِ في أيَّامِ الامتحاناتِ وفي غيرِ أيَّامِ الامتحاناتِ وفي الإجازةِ: أن يتَّقوا اللَّهَ عزَّ وجَلَّ، وأن يخلِصوا له النِّيَّةَ في طَلَبِ العِلمِ، وأن يؤدُّوا الأمانةَ في الامتحاناتِ بحيثُ لا يحاوِلُ أحَدٌ منهم الغِشَّ لا لنَفسِه ولا لغيرِه؛ لأنَّه مؤتَمَنٌ، ولأنَّ مَن نجَح بالغِشِّ فليس بناجِحٍ في الحقيقةِ، ثمَّ إنَّه يترَتَّبُ على غِشِّه أن ينالَ بشهادتِه مَرتبةً لا تحِلُّ له، ثمَّ إنَّه إذا تولَّى مَنصِبًا بشهادتِه هذه فسيبقى فاشِلًا في أداءِ مُهِمَّتِه؛ إذ إنَّه ليس عِندَه عِلمٌ، ولا فَرقَ في ذلك بَيْنَ مادَّةٍ وأخرى؛ فجميعُ الموادِّ لا يجوزُ فيها الغِشُّ، وما اشتَهَر عِندَ بعضِهم بأنَّه يجوزُ الغِشُّ في بعضِ الموادِّ فإنَّه لا وَجهَ له) [5203] ((مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين)) (26/459) بتصَرُّفٍ. .
6- عَدَمُ الوفاءِ بالعُقودِ:
كالعقودِ التي تُبرَمُ في الإنشاءاتِ والمقاوَلاتِ، وغيرِها من المعامَلاتِ؛ فعدَمُ الوفاءِ بها يُعَدُّ من الغِشِّ المحَرَّمِ، واللَّه سُبحانَه يأمُرُ بالوفاءِ وعَدَمِ الغِشِّ؛ حيثُ يقولُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة: 1] .
7- ومِن صُوَرِ الغِشِّ أيضًا: تَركُ الأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عن المُنكَرِ، وعَدَمُ الإنكارِ على الأصحابِ والأقارِبِ؛ محاباةً لهم ومُداهنةً.
فحَقُّ هؤلاء على المُسلِمِ أن ينصَحَهم ويأمُرَهم بالمعروفِ وينهاهم عن المُنكَرِ، فإنْ لم يفعَلْ فقد غَشَّهم.
8- ومِن صُوَرِ الغِشِّ: الغِشُّ في النِّكاحِ؛ فبعضُ الآباءِ قد يُخفي مرَضًا أو عَيبًا في ابنتِه ولا يُبَيِّنُه للخاطِبِ، فهذا غِشٌّ له، أو يُنكِحُ ابنَتَه شخصًا لغناه وإن كان لا دينَ له، وهذا من الغِشِّ لها، إلى غيرِ ذلك.

انظر أيضا: