موسوعة الأخلاق والسلوك

سادسًا: صُوَرُ التَّجَسُّسِ


أ- صُوَرُ التَّجَسُّسِ الممنوعِ:
1- التَّجَسُّسُ على بُيوتِ المُسلِمين، والاطِّلاعُ على عَوْراتِهم (بالاستماعِ من وراءِ الأبوابِ، أو بالدُّخولِ في البيوتِ على حينِ غَفلةٍ من أهلِها، أو باستئذانٍ لغَرَضٍ كاذِبٍ، كشُربِ الماءِ، والمقصودُ غيرُ ذلك... وكُلُّ ذلك لا يجوزُ في شَرعِ الإسلامِ) .
2- ومِن صُوَرِه أيضًا اقتحامُ البيوتِ والخَلَواتِ بحُجَّةِ ضَبطِ مَن فيها متلَبِّسينَ بالمعصيةِ، ولا شَكَّ أنَّ هذا ممَّا لا يبيحُه الشَّرعُ ولا يَقبَلُه.
3- ومِن صُوَرِ التَّجَسُّسِ الممنوعِ التَّقصِّي والبحثُ عن معاصٍ وسيِّئاتٍ اقتُرِفَت في الماضي، والتَّجَسُّسُ على أصحابِها لمعرفتِها.
قال السَّفَّارينيُّ: (ويَحرُمُ تجسيسٌ على ما يُفَسَّقُ به في الزَّمَنِ الماضي، أو الفِسقِ الماضي، مِثلُ أن يَشرَبَ الخمرَ في الزَّمَنِ الذي مضى، وتبحَثَ عنه أنت بعدَ مُدَّةٍ؛ لأنَّ ذلك إشاعةٌ للمُنكَرِ بما لا فائدةَ فيه، ولا عَودَ على الإسلامِ، وإنَّما هو عيبٌ ونَقصٌ؛ فينبغي كفُّه ونِسيانُه دونَ إذاعتِه وإعلانِه، وإنَّما يحرُمُ التَّجَسُّسُ عن ذلك إن لم يجَدِّدِ العودَ عليه، والإتيانَ به ثانيًا، فإن عاوَدَه فلا حُرمةَ إذَنْ.
قال في الرِّعايةِ: ويَحرُمُ التَّعرُّضُ لمُنكَرٍ فُعِل خُفيةً -على الأشهَرِ-، أو ماضٍ، أو بعيدٍ، وقيل: يُجهَلُ فاعِلُه ومَحَلُّه. وقال أيضًا: لا إنكارَ فيما مضى وفات إلَّا في العقائِدِ أو الآراءِ) .
4- ومِن صُوَرِ التَّجَسُّسِ الممنوعِ استماعُ المرءِ إلى حديثِ قومٍ، وهم له كارِهون؛ فعن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ الله عنه قال: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن استَمَع إلى حديثِ قومٍ وهم له كارِهون، أو يَفِرُّون منه، صُبَّ في أذُنِه الآنُكُ يومَ القيامةِ)) .
(ومن هذا الحديثِ يُعلَمُ أنَّ الاستماعَ لحديثِ الآخَرينَ بغيرِ رِضاهم وإذنِهم، هو من التَّجَسُّسِ المحَرَّمِ الذي نهى عنه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وحذَّر منه، وكفى بترتيبِ العقوبةِ المذكورةِ في الحديثِ على من يفعَلُ هذا دليلًا على حُرمتِهـ) .
ويدخُلُ في هذه الصُّورةِ مِن صُوَرِ التَّجَسُّسِ التَّنصُّتُ على هواتِفِ النَّاسِ ومُكالماتِهم، وهو (يتضَمَّنُ معنى تسمُّعِ حَديثِ قومٍ أو التَّجَسُّسِ عليهم، فيكونُ حُكمُ المسألةِ هو حُكمَ التَّجَسُّسِ... أو يكونُ حُكمُه حُكمَ التَّسمُّعِ إلى حديثِ قومٍ وهم كارِهون؛ لأنَّ العادةَ أنَّ النَّاسَ لا يريدون أن يطَّلِعَ على مكالمتِهم أحدٌ، والذي يتنَصَّتُ على هواتِفِ النَّاسِ بهذا المعنى يدخُلُ تحتَ الوعيدِ) .
5- ومنها: استِقصاءُ الرَّجُلِ في المسألةِ عن حالِ أخيه وخبَرِه، وسؤالُه إيَّاه: من أينَ جئتَ؟ وأين تريدُ؟
قال أبو طالبٍ المكِّيُ، وهو يذكُرُ بعضَ ما أحدث النَّاسُ من القولِ والفِعلِ فيما بَيْنَهم ممَّا لم يكُنْ عليه السَّلَفُ: (ومِن ذلك استقصاءُ الرَّجُلِ في المسألةِ عن حالِ أخيه وخبَرِه، وقد كُرِه ذلك. تزوَّج سَلمانُ الفارسيُّ رَضِيَ اللهُ عنه، فلمَّا دخل على أهلِه خرَج إلى النَّاسِ من الغَدِ، فقال له رجُلٌ: كيف أنت يا أبا عبدِ اللهِ؟ قال: بخيرٍ، أحمَدُ اللهَ تعالى، قال: كيف حالُك؟ وكيف بتَّ البارِحةَ؟ وفي لفظٍ آخَرَ: كيف وجَدْتَ أهلَك؟ فغَضِبَ سَلمانُ، وقال: لِمَ يسأَلُ أحَدُكم فيُحْفي المسألةَ ويسأَلُ عمَّا وراءَ البيوتِ؟! يكفي أحَدَكم أن يسأَلَ عن ظاهِرِ الأمرِ!
وكان الأعمَشُ يقولُ: يلقى أحَدُهم أخاه فيسأَلُه عن كُلِّ شيءٍ حتَّى عن الدَّجاجِ في البيتِ! ولو سأله دِرهمًا ما أعطاه! وكان مَن مضى مِن السَّلَفِ إذا لقِيَ أخاه لا يزيدُ على قولِ: كيف أنتم؟ أو: حيَّاكم اللهُ بالسَّلامِ، ولو سأله شَطْرَ مالِه قاسَمَه!
ومِن ذلك: قولُ الرَّجُلِ لأخيه إذا لَقِيَه ذاهبًا في الطَّريقِ: إلى أينَ تُريدُ؟ أو مِن أينَ جئتَ؟ فقد كُرِه هذا، وليس من السُّنَّةِ ولا الأدَبِ، وهو داخِلٌ في التَّجَسُّسِ والتَّحَسُّسِ؛ لأنَّ التَّحَسُّسَ في الآثارِ والتَّجَسُّسَ في الأخبارِ، وهذا السُّؤالُ عن ذلك يجمَعُهما، وقد لا يحِبُّ الرَّجُلُ أن يُعلِمَ صاحِبَه أين يَذهَبُ، ولا مِن أين جاء.
وقد كَرِه ذلك مجاهِدٌ وعطاءٌ، قالا: إذا لَقِيتَ أخاك في طريقٍ فلا تسأَلْه من أينَ جِئتَ، ولا أين يذهَبُ؛ فلعَلَّه أن يَصدُقَك فتَكرَهَ ذلك، ولعَلَّه أن يَكذِبَك فتكونَ قد حمَلْتَه عليهـ) .
6- ومن صُوَرِ التَّجَسُّسِ الممنوعِ: التَّجَسُّسُ على الكافِرِ المسالِمِ، خاصَّةً إذا لم يَظهَرْ منه ما يدعو للرِّيبةِ؛ قال تعالى:لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الممتحنة: 8] .
7- ومِن أبشَعِ صُوَرِ التَّجَسُّسِ وأقبَحِها التَّجَسُّسُ على المُسلِمين لصالحِ أعداءِ الدِّينِ (فإذا كان التَّجَسُّسُ للوقوفِ على عَوْراتِ الأفرادِ ومَعايبِهم أمرًا محرَّمًا، فإنَّ التَّجَسُّسَ على الأمَّةِ الإسلاميَّةِ لحِسابِ أعدائِها أشَدُّ حُرمةً، وأعظَمُ خَطَرًا وضَرَرًا على البلادِ والعبادِ، وخيانةٌ للهِ ورَسولِه وللأمَّةِ، وقد تحدَّث الفُقَهاءُ -رحمهم اللهُ تعالى- على عُقوبةِ مَن يقومُ بهذا العمَلِ الخطيرِ الذي يُعَرِّضُ الأمَّةَ الإسلاميَّةَ بأكمَلِها لأضرارٍ فادحةٍ، قد يستَمِرُّ أثَرُها لأمَدٍ بعيدٍ، محَطِّمًا كافَّةَ النَّواحي السِّياسيَّةِ والاقتِصاديَّةِ والاجتِماعيَّةِ للدَّولةِ الإسلاميَّةِ) .
قال عبدُ القادِرِ العاني: (ومن أكبَرِ الكبائِرِ وأفظَعِها التَّجَسُّسُ على المُسلِمين، وإفشاءُ أسرارِهم الحربيَّةِ إلى أعدائِهم، أو إلى من يُوصِلُ إليهم) .
(وإذ قد اعتُبِرَ النَّهيُ عن التَّجَسُّسِ من فروعِ النَّهيِ عن الظَّنِّ، فهو مقيَّدٌ بالتَّجَسُّسِ الذي هو إثمٌ، أو يُفضي إلى الإثمِ، وإذا عُلِم أنَّه يترَتَّبُ عليه مفسدةٌ عامَّةٌ صار التَّجَسُّسُ كبيرةً، ومنه التَّجَسُّسُ على المُسلِمين لمن يبتغي الضُّرَّ بهم) .
صُوَرُ التَّجَسُّسِ المشروعِ:
1- من صُوَرِ التَّجَسُّسِ المشروعِ: التَّجَسُّسُ على أعداءِ الأمَّةِ لمعرفةِ عَدَدِهم وعَتادِهم (فقد اتَّفَق الفُقَهاءُ على أنَّ التَّجَسُّسَ والتَّنصُّتَ على الكُفَّارِ في الحَربِ مشروعٌ وجائزٌ لمعرفةِ عَدَدِهم وعَتادِهم، وما يُخَطِّطون له ويُدَبِّرون من المكائِدِ للمُسلِمين، وهو الأمرُ الذي يكونُ بعِلمِ الإمامِ، وتحتَ نَظَرِه ومَعرفتِهـ) .
فالتَّجَسُّسُ على أعداءِ الأمَّةِ الإسلاميَّةِ بتتبُّعِ أخبارِهم، والاطِّلاعِ على مخطَّطاتِهم التي يعدُّونها للقضاءِ على الأمَّةِ الإسلاميَّةِ، وإثارةِ الفتنةِ والقلاقلِ بَيْنَ صُفوفِها، وزَعزعةِ أمنِها واستقرارِها: أمرٌ مشروعٌ، بل قد يكونُ واجبًا في حالةِ قيامِ حَربٍ بَيْنَهم وبَينَ المُسلِمين، وقد دلَّ على مشروعيَّتِه الكِتابُ والسُّنَّةُ، وعَمَلُ الصَّحابةِ:
فمِنَ الكتابِ: عُمومُ قَولِ اللهِ تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ [الأنفال: 60] .
فقد أمَرَت الآيةُ المُسلِمين بإعدادِ ما يستطيعونَ مِن قُوَّةٍ لمواجهةِ الأعداءِ، ومِن أسبابِ القُوَّةِ: التَّخطيطُ السَّليمُ، واليَقَظةُ والحَذَرُ، والتَّأهُّبُ الدَّائمُ؛ لإحباطِ مخطَّطاتِ الأعداءِ، ولا شَكَّ أنَّ ذلك لا يَتِمُّ إلَّا بمعرفةِ أخبارِ الأعداءِ وخُطَطِهم، ورَصدِ تحرُّكاتِهم، وما لا يَتِمُّ الواجِبُ إلَّا به فهو واجِبٌ؛ فدلَّت الآيةُ على مشروعيَّةِ التَّجَسُّسِ على الأعداءِ بكُلِّ وسيلةٍ شريفةٍ، وطريقةٍ نبيلةٍ.
ومن السُّنَّةِ أحاديثُ كثيرةٌ؛ منها:
- عن جابرٍ رَضِيَ الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يومَ الأحزابِ: ((من يأتينا بخَبَرِ القومِ؟ فقال الزُّبَيرُ: أنا. ثُمَّ قال: من يأتينا بخَبَرِ القومِ؟ فقال الزُّبَيرُ: أنا، ثُمَّ قال: من يأتينا بخَبَرِ القومِ؟ فقال الزُّبَيرُ: أنا. ثُمَّ قال: إنَّ لكُلِّ نَبيٍّ حواريًّا ، وإنَّ حوارِيَّ الزُّبَيرُ)) .
- وعن المِسْوَرِ بنِ مَخْرَمةَ، ومَروانَ بنِ الحَكَمِ، يزيدُ أحَدُهما على صاحِبِه قالا: ((خرج النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عامَ الحُدَيبيَةِ في بِضعَ عَشرةَ مائةٍ من أصحابِه، فلمَّا أتى ذا الحُلَيفةِ قلَّد الهَدْيَ وأشعَرَه، وأحرَمَ منها بعُمرةٍ، وبعَث عَينًا له من خُزاعةَ، وسار النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حتَّى كان بغديرِ الأشطاطِ أتاه عينُه، قال: إنَّ قُرَيشًا جمعوا لك جُموعًا، وقد جمَعوا لك الأحابيشَ ، وهم مُقاتِلوك، وصادُّوك عن البيتِ ومانِعوك. فقال: أشيروا أيُّها النَّاسُ عَلَيَّ، أتَرَون أن أميلَ إلى عيالِهم وذراريِّ هؤلاء الذين يريدون أن يَصُدُّونا عن البيتِ، فإنْ يأتونا كان اللهُ عزَّ وجَلَّ قد قطَعَ عَينًا من المُشرِكين، وإلَّا ترَكْناهم محروبينَ . قال أبو بكرٍ: يا رسولَ اللهِ، خرَجْتَ عامِدًا لهذا البيتِ، لا تريدُ قَتْلَ أحَدٍ، ولا حَرْبَ أحَدٍ، فتوجَّهْ له، فمَن صَدَّنا عنه قاتَلْناه. قال: امضوا على اسمِ اللهِ)) .
فهذه الأحاديثُ جميعُها تدُلُّ على مشروعيَّةِ جمعِ المعلوماتِ عن الأعداءِ، وكَشفِ مخطَّطاتِهم، وذلك بالطُّرُقِ المشروعةِ والوسائِلِ الشَّريفةِ، وأنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ كان يتخيَّرُ لهذه المهمَّةِ الأشخاصَ الذين كان يَثِقُ بهم؛ حِرصًا منه على صِحَّةِ المعلوماتِ التي تَصِلُه، ودِقَّتِها؛ لكي يبنيَ عليها خُطَطَه العسكريَّةَ في مواجهةِ الأعداءِ .
2- ومِن صُوَرِ التَّجَسُّسِ المشروعِ: تتبُّعُ المجرِمين الخَطِرين وأهلِ الرَّيبِ، وقد عدَّه بعضُ الفُقَهاءِ من التَّجَسُّسِ المشروعِ إذا كانت جرائِمُهم ذاتَ خَطَرٍ كبيرٍ على الأفرادِ، أو على الأمَّةِ بأسرِها، وغَلَب على الظَّنِّ وقوعُها بأماراتٍ وعلاماتٍ ظاهرةٍ، وذلك كالتَّجَسُّسِ على إنسانٍ يغلِبُ على الظَّنِّ أنَّه يتربَّصُ بآخَرَ ليقتُلَه، أو بامرأةٍ أجنبيَّةٍ ليزنيَ بها، بل قد يكونُ واجِبًا إذا خيفَ فواتُ تدارُكِ الجريمةِ بدونِ التَّجَسُّسِ .
قال الرَّمليُّ: (وليس لأحَدٍ البحثُ والتَّجَسُّسُ، واقتحامُ الدُّورِ بالظُّنونِ، نعَمْ، إذا غلب على ظَنِّه وقوعُ معصيةٍ ولو بقرينةٍ ظاهرةٍ كإخبارِ ثِقةٍ، جاز له، بل وجَب عليه التَّجَسُّسُ إن فات تدارُكُها، كقَتلٍ وزِنًا، وإلَّا فلا) .
وذكَر الماورديُّ جوازَه في حالةِ ما إذا كان في تركِه انتهاكُ حُرمةٍ يفوتُ استدراكُها، مثلُ أن يخبِرَه من يَثِقُ بصِدقِه أنَّ رجُلًا خلا برجُلٍ ليقتُلَه، أو بامرأةٍ ليزنيَ بها، فيجوزُ له في مِثلِ هذه الحالِ أن يتجسَّسَ، ويُقدِمَ على الكَشفِ والبَحثِ؛ حذَرًا من فواتِ ما لا يُستدرَكُ من انتهاكِ المحارِمِ، وارتكابِ المحظوراتِ .
3- ومِن صُوَرِ التَّجَسُّسِ المشروعِ: تفقُّدُ الوالي لأحوالِ رعيَّتِه لمعرفةِ المظلومين والمحتاجين، وتأمينِ احتياجاتِهم؛ إذ هم أمانةٌ في عُنُقِ الوالي .
ومن أمثلةِ ذلك:
- ما رُوِيَ عن أسلَمَ رَضِيَ الله عنه، قال: خرَجْنا مع عُمَرَ بنِ الخطَّابِ إلى حَرَّةِ واقمٍ ، حتَّى إذا كُنَّا بصِرارٍ إذا نارٌ، فقال: يا أسلَمُ، إنِّي لأرى هاهنا ركْبًا قَصَّر بهم اللَّيلُ والبَردُ، انطَلِقْ بنا، فخرَجْنا نُهَرولُ حتَّى دنَونا منهم، فإذا بامرأةٍ معها صبيانٌ صِغارٌ وقِدرٌ منصوبةٌ على نارٍ، وصِبيانُها يَتضاغَون ، فقال عُمَرُ: السَّلامُ عليكم يا أصحابَ الضَّوءِ، وكَرِه أن يقولَ: يا أصحابَ النَّارِ، فقالت: وعليك السَّلامُ، فقال: أدنو؟ فقالت: ادْنُ بخيرٍ أو دَعْ، فدنا فقال: ما بالُكم؟ قالت: قصَّر بنا اللَّيلُ والبَرْدُ، قال: فما بالُ هؤلاء الصِّبْيةِ يَتضاغَون؟ قالت: الجوعُ، قال: فأيُّ شيءٍ في هذه القِدْرِ؟ قالت: ماءٌ أُسكِتُهم به حتَّى يناموا، واللهُ بَينَنا وبَينَ عُمَرَ! فقال: أيْ رَحِمَكِ اللهُ، وما يُدري عُمَرَ بكم؟! قالت: يتولَّى عُمَرُ أمْرَنا ثُمَّ يَغفُلُ عنَّا! قال: فأقبَلَ علَيَّ، فقال: انطَلِقْ بنا، فخرَجْنا نُهَرولُ حتَّى أتينا دارَ الدَّقيقِ، فأخرج عِدلًا من دقيقٍ وكَبَّةً من شَحمٍ، فقال: احمِلْه عَلَيَّ، فقُلتُ: أنا أحمِلُه عنك! قال: أنت تحمِلُ عنِّي وِزْري يومَ القيامةِ لا أُمَّ لك؟! فحمَلْتُه عليه فانطلَق، وانطلَقْتُ معه إليها نُهَرْولُ، فألقى ذلك عندَها وأخرج من الدَّقيقِ شيئًا، فجَعَل يقولُ لها: ذُرِّي عَلَيَّ، وأنا أُحَرِّكُ لكِ، وجعَلَ ينفُخُ تحتَ القِدْرِ ثُمَّ أنزلها! فقال: أَبْغيني شيئًا، فأتته بصَحفةٍ فأفرَغَها فيها، ثُمَّ جعَل يقولُ لها: أطعِمِيهم وأنا أَسطَحُ لهم، فلم يَزَلْ حتَّى شَبِعوا، وتَرَك عندَها فَضلَ ذلك، وقام وقُمتُ معه، فجعَلَت تقولُ: جزاك اللهُ خيرًا، كنتَ أَولى بهذا الأمرِ من أميرِ المُؤمِنين! فيقولُ: قولي خيرًا إذا جِئتِ أميرَ المُؤمِنين، وحَدِّثيني هناك إن شاء اللهُ، ثُمَّ تنحَّى ناحيةً عنها، ثُمَّ استقبلها فرَبَض مَربِضًا، فقُلْنا له: إنَّ لنا شأنًا غيرَ هذا، ولا يُكَلِّمُني، حتَّى رأيتُ الصِّبيةَ يَصطَرِعون ثُمَّ ناموا وهدَؤوا، فقال: يا أسلَمُ، إنَّ الجوعَ أسهَرَهم وأبكاهم، فأحبَبْتُ ألَّا أنصَرِفَ حتَّى أرى ما رأيتُ !
- وقَدِم المدينةَ رُفقةٌ من تُجَّارٍ، فنزلوا المصَلَّى، فقال عُمَرُ لعبدِ الرَّحمنِ بنِ عَوفٍ: هل لكَ أن تحرُسَهم اللَّيلةَ؟ قال: نعم! فباتا يحرُسانِهم ويُصَلِّيان، فسَمِع عُمَرُ بُكاءَ صَبيٍّ فتوَجَّهَ نحوَه، فقال لأمِّه: اتَّقِ اللهَ تعالى وأحسِني إلى صَبيِّكِ! ثُمَّ عاد إلى مكانِه، فسَمِع بكاءَه، فعاد إلى أمِّه، فقال لها مِثلَ ذلك، ثُمَّ عاد إلى مكانِه، فلمَّا كان آخِرُ اللَّيلِ سَمِع بكاءَ الصَّبيِّ، فأتى إلى أمِّه، فقال لها: ويحَكِ! إنَّكِ أمُّ سَوْءٍ! ما لي أرى ابنَكِ لا يَقِرُّ مُنذُ اللَّيلةِ مِن البكاءِ؟! فقالت: يا عبدَ اللهِ، إنِّي أُشغِلُه عن الطَّعامِ فيأبى ذلك، قال: ولِمَ؟ قالت: لأنَّ عُمَرَ لا يَفرِضُ إلَّا للمفطومِ! قال: وكم عُمرُ ابنِك هذا؟ قالت: كذا وكذا شَهرًا، فقال: ويحَكِ! لا تُعجِليه عن الفِطامِ. فلمَّا صلَّى الصُّبحَ، وهو لا يَستبينُ للنَّاسِ قراءتُه من البكاءِ. قال: بؤسًا لعُمَرَ! كم قَتَل من أولادِ المُسلِمين! ثُمَّ أمَر مناديَه فنادى، لا تُعجِلوا صِبيانَكم عن الفِطامِ، فإنَّا نَفرِضُ لكُلِّ مولودٍ في الإسلامِ. وكتَب بذلك إلى الآفاقِ .

انظر أيضا:

  1. (1) ((المفصل في أحكام المرأة والبيت المسلم في الشريعة الإسلامية)) لعبد الكريم زيدان (4/207).
  2. (2) ((غذاء الألباب)) (1/263).
  3. (3) رواه البخاري (7042) مطوَّلًا.
  4. (4) ((بهجة الأسماع في أحكام السماع في الفقه الإسلامي)) لعلي بن ذريان (ص: 364).
  5. (5) ((أحكام السماع والاستماع في الشريعة الإسلامية)) لمحمد معين الدين بصري (ص: 357).
  6. (6) ((قوت القلوب)) (1/ 279، 280) بتصرُّفٍ.
  7. (7) انظر: ((أحكام السماع والاستماع في الشريعة الإسلامية)) لمحمد معين الدين بصري (ص: 357).
  8. (8) ((عقوبة الإعدام دراسة فقهية مقارنة لأحكام العقوبة بالقتل في الفقه الإسلامي)) لمحمد بن سعد الغامدي (ص: 472).
  9. (9) ((بيان المعاني)) (6/ 226).
  10. (10) ((التحرير والتنوير)) لمحمد الطاهر بن عاشور (26/ 254).
  11. (11) ((بهجة الأسماع في أحكام السماع في الفقه الإسلامي)) لعلي بن ذريان (ص: 376).
  12. (12) الحواريُّ: النَّاصِرُ، وقيل: الخاصَّةُ. يُنظَر: ((شرح النووي على مسلم)) (15/ 189).
  13. (13) رواه البخاري (4113) واللفظ له، ومسلم (2415).
  14. (14) أي: جاسوسًا. يُنظَر: ((الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري)) للكرماني (16/ 77).
  15. (15) أي: الجماعةُ من النَّاس ليسوا من قبيلةٍ واحدةٍ. يُنظَر: ((الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري)) للكرماني (16/ 77).
  16. (16) أي: مسلوبين منهوبين. يُنظَر: ((الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري)) للكرماني (16/77).
  17. (17) رواه البخاري (4178، 4179).
  18. (18) ((عقوبة الإعدام دراسة فقهية مقارنة لأحكام العقوبة بالقتل في الفقه الإسلامي)) لمحمد بن سعد الغامدي (465-467).
  19. (19) يُنظَر: ((جريمة التجسس وعقوبتها)) لعثمان بن علي (ص: 85).
  20. (20) ((نهاية المحتاج)) (4/ 47-49).
  21. (21) ((الأحكام السلطانية)) للماوردي (ص: 366).
  22. (22) ((عقوبة الإعدام دراسة فقهية مقارنة لأحكام العقوبة بالقتل في الفقه الإسلامي)) لمحمد بن سعد الغامدي (ص: 469).
  23. (23) واقِمٌ: أُطُمٌ من آطامِ المدينةِ. وإليه تُنسَبُ الحَرَّةُ. يُنظَر: ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (5/216).
  24. (24) موضِعٌ قريبٌ من المدينةِ. يُنظَر: ((فتح الباري)) لابن حجر (1/ 143).
  25. (25) يتضاغَون، أي: يصوتون باكين، وقيل: الضُّغاءُ: صَوتُ الاستجداءِ والذِّلَّةِ، وقيل: هو الصِّياحُ والبُكاءُ. يُنظَر: ((فتح الباري)) لابن حجر (1/ 147).
  26. (26) أي: أبسُطُه حتَّى يَبرُدَ. يُنظَر: ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (2/ 365(.
  27. (27) رواه عبد الله بن أحمد في ((زوائد الفضائل)) (382) واللفظ له، والطبري في ((التاريخ)) (2/567)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (44/353).
  28. (28) رواه ابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) (3887)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (44/355).