ثالثَ عشرَ: حُكمُ الإطراءِ والمدحِ
مَدحُ الإنسانِ والثَّناءُ عليه بجَميلِ صِفاتِه قد يكونُ في حُضورِ المَمدوحِ، وقد يكونُ بغَيرِ حُضورِه؛ فأمَّا الذي في غَيرِ حُضورِه فلا مَنعَ مِنه إلَّا أن يُجازِفَ المادِحُ ويدخُلَ في الكذِبِ، فيَحرُمَ عليه بسَبَبِ الكذِبِ، لا لكونِه مَدحًا، ويُستحَبُّ هذا المدحُ الذي لا كَذِبَ فيه إذا ترتَّب عليه مصلحةٌ، ولم يجُرَّ إلى مفسدةٍ.
وأمَّا المَدحُ في وَجهِ المَمدوحِ فتَحرُمُ المُبالَغةُ فيه والغُلوُّ في إطرائِه ووصفِه بما لا يستَحِقُّ، فهذا مِن الكَذِبِ، وفيه ضَرَرٌ على المَمدوحِ، وكذلك يحرُمُ مَدحُه بما هو فيه إذا خشِيَ أن يغتَرَّ المَمدوحُ بنَفسِه ويزهوَ ويتَرَفَّعَ على غَيرِه ويفتَتِنُ ويَغتَرُ، وقيل: يُكرَهُ كَراهةً شَديدةً
.
إن سَلِمَ المَدحُ عن هذه الآفاتِ وعن الفرَحِ به وفُتورِ النَّفسِ بسَبَبِه، لم يكُنْ به بَأسٌ، بل رُبَّما كان مَندوبًا إليه؛ ولذلك أثنى رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم أجمَعينَ
.
فالمدحُ الجائزُ له خَمسةُ ضوابِطَ:
الأوَّلُ: أن يوصَفَ الإنسانُ بما فيه من غيرِ مُبالغةٍ.فإذا غلا في إطرائِه ووصفِه بما لا يستحِقُّ، فهذا كَذِبٌ وخِداعٌ.
الثَّاني: إن كان يحصُلُ بالمدحِ مَصلَحةٌ، فيُستحَبُّ. ومن ذلك أن يكونَ في المدحِ تشجيعٌ للممدوحِ على الخيرِ وتثبيتٌ له؛ حتَّى يستمِرَّ على ما هو عليه، فهذا حَسَنٌ، وهو داخِلٌ في قولِه تعالى:
وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى [المائدة: 2]
. وكذلك إذا كان تحريضًا للنَّاسِ على الاقتداءِ به في أشباهِه، وهذا راجِعٌ إلى النِّيَّاتِ
.
الثَّالِثُ: أن لا يُفضِيَ إلى فسادٍ، كأن يُمدَحَ في وجهِه، ويُخافُ عليه الفتنةُ.
الرَّابعُ: إذا كان المادِحُ مُكرَهًا أو ابتُليَ به لدَفعِ شَرٍّ، فهذا من بابِ المداراةِ، ويُذكَرُ عن
أبي الدَّرداءِ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: (إنَّا لنَكشِرُ في وجوهِ أقوامٍ، وإنَّ قُلوبَنا لتلعَنُهم)
.
الخامِسُ: ألَّا يكونَ المدحُ لنَفسِه؛ لأنَّ تزكيةَ النَّفسِ لا تجوزُ؛ لقَولِه تعالى:
فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى [النجم: 32] ، وهذا النَّهيُ يقتضي الغَضَّ من المزكِّي لنَفسِه بلسانِه، والإعلامَ بأنَّ الزَّاكيَ المزكَّى من حَسُنَت أفعالُه وزكَّاه اللهُ عزَّ وجَلَّ
، وقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((لا تزكُّوا أنفُسَكم، اللهُ أعلَمُ بأهلِ البِرِّ منكم))
، وقال عُتبةُ بنُ غَزوانَ رَضِيَ اللهُ عنه: (وإنِّي أعوذُ باللهِ أن أكونَ في نفسي عظيمًا، وعندَ اللهِ صَغيرًا)
.
وفي حُكمِ مَدحِ النَّفسِ مدحُ ما يتعلَّقُ بها من الأبناءِ والآباءِ والتَّواليفِ والأصحابِ، ونحوِ ذلك ممَّا هو مدحٌ للنَّفسِ على الحقيقةِ؛ قال
العِزُّ بنُ عبدِ السَّلامِ: (ومَدحُك نفسَك أقبحُ من مدحِك غيرَك؛ فإنَّ غَلَط الإنسانِ في حَقِّ نَفسِه أكثَرُ من غلَطِه في حقِّ غيرِه، فإنَّ حُبَّك الشَّيءَ يُعمي ويُصِمُّ، ولا شيءَ أحَبُّ إلى الإنسانِ من نَفسِه)
؛ ولهذا قد يمدَحُ الإنسانُ نفسَه بباطلٍ، أو يبالِغُ في وصفِ بعضِ ما يتعلَّقُ بها، وهذا غِشٌّ وتدليسٌ وكَذِبٌ.
أمَّا إذا قصد التَّعريفَ بنَفسِه وبما عندَه من العِلمِ، فلا بأسَ؛ قال يوسفُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ:
إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف: 55] ، وفي هذا دَلالةٌ على أنَّه جائزٌ للإنسانِ أن يَصِفَ نَفسَه بالفَضلِ عندَ من لا يَعرِفُه
، قال
ابنُ الجوزيِّ: (إذا خلا مَدحُه لنَفسِه من بَغيٍ وتكبُّرٍ، وكان مرادُه به الوصولَ إلى حَقٍّ يقيمُه، وعَدلٍ يُحييه، وجَورٍ يُبطِلُه؛ كان ذلك جميلًا جائزًا)
.
ويدخُلُ في هذا القِسمِ ما إذا تحدَّث المرءُ بنِعَمِ اللهِ عنده، قال
الطَّحاويُّ: (فهذا نرجو ألَّا يَضُرَّ)
، ومنه قولُ
ابنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه: (واللهِ الذي لا إلهَ غيرُه، ما أُنزِلَت سورةٌ من كتابِ اللهِ إلَّا أنا أعلَمُ أين أُنزِلَت، ولا أُنزِلَت آيةٌ من كتابِ اللهِ إلَّا أنا أعلَمُ فيمَ أُنزِلَت، ولو أعلَمُ أحدًا أعلَمَ منِّي بكتابِ اللهِ تبلُغُه الإبِلُ، لركِبتُ إليه)
، فخرج هذا الكلامُ مخرجَ الشُّكرِ للهِ وتعريفِ المستفيدِ ما عندَ المفيدِ
. ومنه ما رُوِيَ عن
أبي الدَّرداءِ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: (سَلُوني، فواللهِ لَئِن فقَدْتُموني لتفقِدُنَّ رَجُلًا عظيمًا من أمَّةِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم)
.
ودلَّ على إباحةِ المدحِ بهذه الشُّروطِ عِدَّةُ أحاديثَ؛ منها: قولُ
ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما:
((قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنَّه ليس من النَّاسِ أحَدٌ أمَنَّ عليَّ في نَفسِه ومالِه من أبي بكرِ بنِ أبي قُحافةَ))
، وقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لعُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنه:
((والذي نفسي بيَدِه، ما لَقِيَك الشَّيطانُ قَطُّ سالِكًا فَجًّا إلَّا سلك فجًّا غيرَ فَجِّك))
، وقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يومَ خيبَرَ:
((لأعطِيَنَّ الرَّايةَ غَدًا رجلًا يفتَحُ على يَدَيه، يحِبُّ اللهَ ورسولَه، ويحبُّه اللهُ ورسولُه))
، فأعطاها عليًّا رَضِيَ اللهُ عنه، وقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((إنَّ لكُلِّ أمَّةٍ أمينًا، وإنَّ أمينَنا -أيَّتُها الأمَّةُ- أبو عُبَيدةَ بنُ الجَرَّاحِ))
، ونظائِرُ ذلك كثيرٌ ممَّا هو مبسوطٌ في مظانِّه، وقد مُدِح صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الشِّعرِ والخُطَبِ والمخاطَبةِ، ولم يَحْثُ في وُجوهِ مدَّاحيه التُّرابَ، ولا أمَرَ بذلك
.
أمَّا النَّهيُ عن المدحِ فمحمولٌ على المجازفةِ فيه والزِّيادةِ في الأوصافِ، أو على من يُخافُ عليه فِتنةٌ
، قال عبدُ اللهِ بنُ أحمدَ: (جاء رجلٌ إلى
أبي، فذَكَر أنَّه كان عند بِشرٍ فذَكَروه، فأثنى عليه بِشرٌ، وقال: لا ينسى اللهُ
لأحمدَ صنيعَه، ثبَت وثَبَّتَنا، ولولاه لهلَكْنا. قال عبدُ اللهِ: ووَجهُ
أبي يتهَلَّلُ، فقُلتُ: يا أبتِ، أليس تكرَهُ المدحَ في الوَجهِ، فقال: يا بُنَيَّ، إنَّما ذُكِرْتُ عند رجلٍ من عبادِ اللهِ الصَّالحينَ، وما كان منِّي فحَمِد صنيعي، وقد قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: المؤمِنُ مِرآةُ المؤمِنِ
.