موسوعة الأخلاق والسلوك

حادِيَ عَشَرَ: الوسائِلُ المعينةُ على اكتِسابِ المُروءةِ


يقولُ ابنُ حِبَّانَ البُستيُّ: (الواجِبُ على العاقِلِ أن يلزَمَ إقامةَ المُروءةِ بما قدَر عليه من الخصالِ المحمودةِ، وتركِ الخِلالِ المذمومةِ، وقد نبغت نابغةٌ اتَّكلوا على آبائِهم، واتَّكلوا على أجدادِهم في الذِّكرِ والمروءاتِ، وبَعُدوا عن القيامِ بإقامتِها بأنفُسِهم، ولقد أنشدني منصورُ بنُ محمَّدٍ في ذمِّ مَن هذا نعتُه:
إنَّ المُروءةَ ليس يُدرِكُها امرؤٌ
وَرِث المُروءةَ عن أبٍ فأضاعَها
أمرَتْه نفسٌ بالدَّناءةِ والخَنَا [8444] الخَنَا: الفُحشُ في القولِ. يُنظر: ((لسان العرب)) لابن منظور (14/ 244).
ونهَتْه عن طَلَبِ العُلى فأطاعَها
فإذا أصاب من الأمورِ عظيمةً
يبني الكريمُ بها المُروءةَ باعَها
... إلى أن قال: (ما رأيتُ أحدًا أخسَرَ صفقةً ولا أظهَرَ حَسرةً، ولا أخيبَ قصدًا، ولا أقَلَّ رُشدًا، ولا أحمَقَ شِعارًا، ولا أدنَسَ دِثارًا، من المفتَخِرِ بالآباءِ الكرامِ، وأخلاقِهم الجِسامِ، مع تعرِّيه عن سلوكِ أمثالِهم وقصدِ أشباهِهم، متوهِّمًا أنَّهم ارتفَعوا بمن قَبلَهم، وسادوا بمن تقَدَّمهم، وهيهاتَ! أنَّى يسودُ المرءُ على الحقيقةِ إلَّا بنَفسِه، وأنَّى ينبُلُ في الدَّارينِ إلَّا بكَدِّه؟!) [8445] ((روضة العقلاء)) (ص: 230). .
فإذا كانت المُروءةُ لا تُنالُ بالميراثِ، ولا تنتَقِلُ عبرَ المورَّثاتِ الجينيَّةِ من الآباءِ إلى الأبناءِ، فكيف ينالُها الشَّخصُ وكيف يَصِلُ إليها؟
والجوابُ: أن هناك وسائِلَ تُعينُ المرءَ للوصولِ إلى المُروءةِ المبتغاةِ، نذكُرُ بعضَها فيما يلي:
1- علُوُّ الهمَّةِ والتَّطلُّعُ إلى السُّموِّ بالنَّفسِ، والتَّرقِّي بها إلى المعالي.
2- منافَسةُ أصحابِ المروءاتِ ومسابقةُ أصحابِ الأخلاقِ العاليةِ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين: 26] .
3- شرَفُ النَّفسِ واستعفافُها ونزاهتُها وصيانتُها.
كان الفَضلُ بنُ يحيى يقولُ: (لو عَلِمتُ أنَّ شُربَ الماءِ يَنقُصُ مروءتي، لتركتُه!) [8446] ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (9/ 65). وروي نحوه عن الشافعيِّ. ينظر: ((حلية الأولياء)) لأبي نعيم (9/ 124). .
4- المالُ الصَّالحُ خيرُ مُعينٍ على بلوغِ المروءاتِ؛ قال ابنُ حِبَّانَ: (من أحسَنِ ما يستعينُ به المرءُ على إقامةِ مروءتِه المالُ الصَّالحُ، ولقد أنشدني منصورُ بنُ محمَّدٍ الكريزيُّ:
احتَلْ لنفسِك أيُّها المحتالُ
فمن المُروءةِ أن يُرى لك مالُ
كم ناطِقٍ وسْطَ الرِّجالِ وإنما
عنهم هناك تَكَلَّمُ الأموالُ
فالواجبُ على العاقِلِ أن يقيمَ مروءتَه بما قدَر عليه، ولا سبيلَ إلى إقامةِ مروءتِه إلَّا باليسارِ من المالِ؛ فمن رُزِق ذلك وضَنَّ بإنفاقِه في إقامةِ مروءتِه، فهو الذي خسِر الدُّنيا والآخرةَ، ولا آمَنُ أن تفجَأَه المنيَّةُ فتَسلُبَه عمَّا مَلَك كريهًا، وتودِعَه قبرًا وحيدًا، ثمَّ يَرِثَ المالَ بعدُ مَن يأكُلُه ولا يَحمَدُه، ويُنفِقُه ولا يَشكُرُه، فأيُّ ندامةٍ تُشبِهُ هذه، وأيُّ حَسرةٍ تزيدُ عليها؟!) [8447] ((روضة العقلاء)) لابن حبان (ص: 232، 233). .
ولذا قال بعضُ العَرَبِ: (المُروءةُ طعامٌ مأكولٌ، ونائلٌ مبذولٌ، وبِشرٌ مقبولٌ، وكلامٌ معسولٌ. وقيل: لا مُروءةَ لمُقِلٍّ. وقال بعضُهم: المالُ والمُروءةُ رضيعَا لِبانٍ، وشريكَا عِنانٍ [8448] شريكَا عِنانٍ: يُضرَبُ بهما المثَلُ، كقولِهم: رَضيعا لِبانٍ، في المتقاربَينِ المتماثِلَينِ. يُنظَر: ((ثمار القلوب في المضاف والمنسوب)) للثعالبي (ص: 680). ، وغَزِيَّا حِصانٍ، وفَرَسَا رِهانٍ [8449] فَرَسا رِهانٍ: من أمثالِ العَرَبِ في الاثنينِ يستبقانِ إلى غايةٍ. يُنظَر: ((ثمار القلوب في المضاف والمنسوب)) للثعالبي (ص: 360). . وقال بعضُهم: لا مُروءةَ إلَّا بالمالِ والفِعالِ. ورُفِع إلى المنصورِ كَثرةُ نَفَقاتِ محمَّدِ بنِ سُلَيمانَ والي البصرةِ، فوقَّع: أعظَمُ النَّاسِ مُروءةً أكثَرُهم مَؤونةً) [8450] ((عين الأدب والسياسة)) لابن هذيل الأندلسي (ص: 142-143). .
5- اختيارُ الزَّوجةِ الصَّالحةِ ((فاظفَرْ بذاتِ الدِّينِ تَرِبَت يداك)) [8451] رواه البخاري (5090)، ومسلم (1466) مطوَّلًا. .
قال مَسلَمةُ بنُ عبدِ المَلِكِ: (ما أعان على مُروءةِ المرءِ كالمرأةِ الصَّالحةِ) [8452] ((المروءة)) لابن المرزبان (ص: 135). .
قال الشَّاعِرُ:
إذا لم يكُنْ في منزِلِ المرءِ حُرَّةٌ
مُدَبِّرةٌ ضاعت مُروءةُ دارِه
6- مجالَسةُ أهلِ المروءاتِ، ومجانبةُ السُّفهاءِ وأهلِ السُّوءِ.
أسنَد ابنُ حِبَّانَ عن بعضِهم قال: (كان يقالُ: مجالسةُ أهلِ الدِّيانةِ تجلو عن القَلبِ صدَأَ الذُّنوبِ، ومجالسةُ ذوي المروءاتِ تدُلُّ على مكارِمِ الأخلاقِ، ومجالسةُ العُلَماءِ تُذْكي القُلوبَ) [8453] ((روضة العقلاء)) (ص: 234). .
ومتى جالس المرءُ أهلَ المروءاتِ اكتَسَب منهم صالِحَ الأخلاقِ والصِّفاتِ، قال ابنُ عبدِ البَرِّ: (فلا تكادُ تجِدُ حَسَنَ الخُلُقِ إلَّا ذا مُروءةٍ وصبرٍ) [8454] ((الاستذكار)) (5 / 105). .
وكذلك إن عاشَر المرءُ إخوانَ السُّوءِ وقليلي المُروءةِ أخذ عنهم أخلاقَهم، وكان ذلك سببًا في القَدحِ بمروءتِه، قال معاويةُ بنُ أبي سفيانَ رَضِيَ اللهُ عنه: (آفةُ المُروءةِ إخوانُ السُّوءِ) [8455] ((المروءة)) لابن المرزبان (ص: 117)، ((روضة العقلاء)) لابن حبان البستي (234). .
7- القناعةُ وتَركُ الحِرصِ، عن محمَّدِ بنِ عَليٍّ الكتَّانيِّ، قال: (من باع الحِرصَ بالقناعةِ ظَفِرَ بالعِزِّ والمُروءةِ) [8456] ((الزهد الكبير)) للبيهقي (92). .

انظر أيضا: