موسوعة الأخلاق والسلوك

د- نماذِجُ من الفَصاحةِ عِندَ الصَّحابةِ


فصاحةُ أبي بَكرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عنه:
عن هشامِ بنِ عُروةَ، عن أبيه، قال: (لمَّا وَلِيَ أبو بكرٍ خطَب النَّاسَ، فحَمِد اللهَ، وأثنى عليه، ثمَّ قال: أمَّا بعدُ، أيُّها النَّاسُ قد وُلِّيتُ أمْرَكم، ولستُ بخَيرِكم، ولكِنْ نَزَل القرآنُ، وسَنَّ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم السُّنَنَ فعَلَّمَنا فعَلِمْنا. اعلَموا أنَّ أكيَسَ الكَيسِ: التَّقوى، وأنَّ أحمَقَ الحُمقِ: الفُجورُ، وأنَّ أقواكم عندي الضَّعيفُ حتَّى آخُذَ له بحَقِّه، وأنَّ أضعَفَكم عندي القَويُّ حتَّى آخُذَ منه الحَقَّ. أيُّها النَّاسُ إنَّما أنا متَّبعٌ ولستُ بمُبتَدِعٍ، فإن أحسَنْتُ فأعينوني، وإن زِغْتُ فقَوِّموني) [7409] رواه أبو عبيد القاسم بن سلام في ((الخطب والمواعظ)) (119)، وابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) (3418). .
فصاحةُ عُمَرَ بنِ الخطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه:
خطَب عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عنه، فقال بعدَ ما حَمِد اللهَ، وأثنى عليه، وصلَّى على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (أيُّها النَّاسُ، إنَّ بعضَ الطَّمَعِ فَقرٌ، وإنَّ بعضَ اليأسِ غِنًى، وإنَّكم تَجمَعون ما لا تأكُلون، وتأمُلون ما لا تُدرِكون، وأنتم مؤجَّلون في دارِ غُرورٍ، كنتُم على عهدِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تؤخَذون بالوحيِ، فمَن أسرَّ شيئًا أُخِذ بسريرتِه، ومن أعلَن شيئًا أُخِذ بعلانيتِه، فأظهِروا لنا أحسَنَ أخلاقِكم، واللهُ أعلمُ بالسَّرائرِ؛ فإنَّه من أظهَر شيئًا وزَعَم أنَّ سريرتَه حَسَنةٌ، لم نُصَدِّقْه، ومن أظهَرَ لنا علانيةً حَسَنةً ظَنَنَّا به حَسَنًا، واعلَموا أنَّ بعضَ الشُّحِّ شُعبةٌ من النِّفاقِ، فأنفِقوا خيرًا لأنفُسِكم، ومَن يُوقَ شُحَّ نفسِه فأولئك هم المُفلِحون. أيُّها النَّاسُ، أطيبُوا مثواكم، وأصلِحوا أمورَكم، واتَّقوا اللهَ رَبَّكم، ولا تُلبِسُوا نِساءَكم القَباطيَّ [7410] القَباطيُّ جَمعُ القُبطيِّ: وهو ثوبٌ رقيقٌ من كتانٍ يُعمَلُ بمِصرَ نِسبةً إلى القِبطِ. يُنظَر: ((شرح الزرقاني على موطأ مالك)) (2/489). ؛ فإنَّه إن لم يَشِفَّ فإنَّه يَصِفُ. أيُّها النَّاسُ، إنِّي لوَدِدْتُ أن أنجوَ كَفافًا [7411] كَفافًا: أي مكفوفًا عني شرُّها وخيرُها. يُنظَر: ((فتح الباري)) لابن حجر (13/207). ، لا لي ولا عليَّ، وإني لأرجو إن عُمِّرْتُ فيكم يسيرًا أو كثيرًا أن أعمَلَ بالحَقِّ فيكم -إن شاء اللهُ-، وألَّا يبقى أحدٌ من المُسلِمين وإن كان في بيتِه إلَّا أتاه حَقُّه ونصيبُه من مالِ اللهِ، ولا يُعمِلُ إليه نفسَه، ولم يَنصَبْ إليه يومًا. وأصلِحوا أموالَكم التي رزقكم اللهُ، ولَقليلٌ في رفقٍ خيرٌ من كثيرٍ في عُنفٍ، والقَتلُ حَتفٌ [7412] الحَتفُ: الهَلاكُ. يُنظَر: ((لسان العرب)) لابن منظور (9/38). من الحُتوفِ، يصيبُ البَرَّ والفاجِرَ، والشَّهيدُ من احتَسَب نفسَه. وإذا أراد أحدُكم بعيرًا فليَعمِدْ إلى الطَّويلِ العظيمِ فليَضْرِبْه بعصاه، فإن وجَده حديدَ الفؤادِ فليَشْتَرِه) [7413] رواه الطبري في ((التاريخ)) (2/573) واللفظ له، وابن المنذر في ((التفسير)) (20). .
فصاحةُ عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها:
كانت عائشةُ رَضِيَ اللهُ عنها على درجةٍ عاليةٍ من الفَصاحةِ والبلاغةِ؛ فعن معاويةَ قال: (ما رأيتُ خطيبًا قَطُّ أبلَغَ ولا أفطَنَ من عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها) [7414] رواه ابنُ أبي عاصم في ((الآحاد والمثاني)) (3027)، والطبراني (23/183) (298). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (9/246): رجالُه رجالُ الصَّحيحِ. .
- وقال موسى بنُ طلحةَ: (ما رأيتُ أحَدًا أفصَحَ من عائشةَ) [7415] رواه الترمذي (3884)، والحاكم (6735) واللفظ لهما، والطبراني (23/182) (292) باختلافٍ يسيرٍ. صحَّحه الترمذي، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (3884)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((شرح السنة)) (14/166)، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (9/246): رجالُه رجالُ الصَّحيحِ. .
- وعن الأحنَفِ بنِ قَيسٍ قال: (سمِعتُ خُطبةَ أبي بَكرٍ الصِّدِّيقِ، وعُمَرَ بنِ الخطَّابِ، وعُثمانَ بنِ عَفَّانَ، وعليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عنهم، والخلفاءِ هَلُمَّ جَرًّا إلى يومي هذا، فما سَمِعتُ الكلامَ من فَمِ مخلوقٍ أفخَمَ ولا أحسَنَ منه مِن في عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها) [7416] رواه الحاكم (6732) واللالكائي في ((شرح أصول الاعتقاد)) (2767)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (24/352). .
- وحينما توفِّي أبوها قالت رَضِيَ اللهُ عنها: (رَحِمك اللهُ يا أَبَةِ! لقد قُمتَ بالدِّينِ حينَ وهى شُعَبُه، وتفاقَمَ صَدْعُه، ورَحُبَت جوانبُه، وبغَّضْتَ ما أصغَوا إليه، وشمَّرْتَ فيما وَنَوا عنه، واستخفَفْتَ من دُنياك ما استوطَنوا، وصَغَّرْتَ منها ما عَظَّموا، ولم تهضِمْ دينَك، ولم تَنْسَ غَدَك؛ ففاز عِندَ المساهمةِ قِدْحُك، وخَفَّ مما استوزروا ظَهْرَك، حتى قرَرْتَ الرُّؤوسَ على كواهِلِها، وحقَنْتَ الدِّماءَ في أُهُبِها -يعني: في الأجسادِ -؛ فنضَّر اللهُ وَجْهَك يا أَبَةِ! فلقد كنتَ للدُّنيا مُذِلًّا بإدبارِك عنها، وللآخِرةِ مُعِزًّا بإقبالِك عليها، ولكأنَّ أجَلَّ الرَّزايا بعدَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رُزْؤُك [7417] الرُّزءُ: المصيبةُ. يُنظَر: ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (2/218). ، وأكبَرَ المصائِبِ فَقْدُك؛ فعليك سلامُ اللهِ ورحمتُه، غيرَ قاليةٍ لحياتِك، ولا زاريةٍ على القضاءِ فيك!) [7418] رواه أبو بكر الدِّينَوَري في ((المجالسة وجواهر العلم)) (2422)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (30/443). .
فصاحةُ عليِّ بنِ أبي طالبٍ:
فمِن فصيحِ كَلِماتِه رَضِيَ اللهُ عنه: (مَن كانت له عِندَ النَّاسِ ثلاثٌ وَجَبت له عليهم ثلاثٌ: من إذا حدَّثهم صَدَقهم، وإذا ائتَمَنوه لم يخُنْهم، وإذا وعدَهم وفَى لهم؛ وجب له عليهم أن تحِبَّه قلوبُهم، وتنطِقَ بالثَّناءِ عليه ألسِنَتُهم، وتظهَرَ له معونتُهم) [7419] يُنظَر: ((الآداب الشرعية والمنح المرعية)) لابن مفلح (1/ 39). .
وقال أيضًا موصيًا ابنَه: (يا بُنَيَّ إن استطَعْتَ ألَّا يكونَ بينَك وبينَ اللهِ ذو نعمةٍ فافعَلْ، ولا تكُنْ عبدَ غَيرِك وقد جعَلَك اللهُ حُرًّا؛ فإنَّ اليسيرَ من اللهِ تعالى أكرَمُ وأعظَمُ من الكثيرِ من غيرِه، وإن كان كُلٌّ منه كثيرًا) [7420] يُنظَر: ((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (ص: 330). .

انظر أيضا: