د- نماذِجُ من الفَصاحةِ عِندَ الصَّحابةِ
فصاحةُ أبي بَكرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عنه:عن هشامِ بنِ عُروةَ، عن
أبيه، قال: (لمَّا وَلِيَ
أبو بكرٍ خطَب النَّاسَ، فحَمِد اللهَ، وأثنى عليه، ثمَّ قال: أمَّا بعدُ، أيُّها النَّاسُ قد وُلِّيتُ أمْرَكم، ولستُ بخَيرِكم، ولكِنْ نَزَل القرآنُ، وسَنَّ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم السُّنَنَ فعَلَّمَنا فعَلِمْنا. اعلَموا أنَّ أكيَسَ الكَيسِ: التَّقوى، وأنَّ أحمَقَ الحُمقِ: الفُجورُ، وأنَّ أقواكم عندي الضَّعيفُ حتَّى آخُذَ له بحَقِّه، وأنَّ أضعَفَكم عندي القَويُّ حتَّى آخُذَ منه الحَقَّ. أيُّها النَّاسُ إنَّما أنا متَّبعٌ ولستُ بمُبتَدِعٍ، فإن أحسَنْتُ فأعينوني، وإن زِغْتُ فقَوِّموني)
.
فصاحةُ عُمَرَ بنِ الخطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه:خطَب عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عنه، فقال بعدَ ما حَمِد اللهَ، وأثنى عليه، وصلَّى على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (أيُّها النَّاسُ، إنَّ بعضَ الطَّمَعِ فَقرٌ، وإنَّ بعضَ اليأسِ غِنًى، وإنَّكم تَجمَعون ما لا تأكُلون، وتأمُلون ما لا تُدرِكون، وأنتم مؤجَّلون في دارِ غُرورٍ، كنتُم على عهدِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تؤخَذون بالوحيِ، فمَن أسرَّ شيئًا أُخِذ بسريرتِه، ومن أعلَن شيئًا أُخِذ بعلانيتِه، فأظهِروا لنا أحسَنَ أخلاقِكم، واللهُ أعلمُ بالسَّرائرِ؛ فإنَّه من أظهَر شيئًا وزَعَم أنَّ سريرتَه حَسَنةٌ، لم نُصَدِّقْه، ومن أظهَرَ لنا علانيةً حَسَنةً ظَنَنَّا به حَسَنًا، واعلَموا أنَّ بعضَ الشُّحِّ شُعبةٌ من النِّفاقِ، فأنفِقوا خيرًا لأنفُسِكم، ومَن يُوقَ شُحَّ نفسِه فأولئك هم المُفلِحون. أيُّها النَّاسُ، أطيبُوا مثواكم، وأصلِحوا أمورَكم، واتَّقوا اللهَ رَبَّكم، ولا تُلبِسُوا نِساءَكم القَباطيَّ
؛ فإنَّه إن لم يَشِفَّ فإنَّه يَصِفُ. أيُّها النَّاسُ، إنِّي لوَدِدْتُ أن أنجوَ كَفافًا
، لا لي ولا عليَّ، وإني لأرجو إن عُمِّرْتُ فيكم يسيرًا أو كثيرًا أن أعمَلَ بالحَقِّ فيكم -إن شاء اللهُ-، وألَّا يبقى أحدٌ من المُسلِمين وإن كان في بيتِه إلَّا أتاه حَقُّه ونصيبُه من مالِ اللهِ، ولا يُعمِلُ إليه نفسَه، ولم يَنصَبْ إليه يومًا. وأصلِحوا أموالَكم التي رزقكم اللهُ، ولَقليلٌ في رفقٍ خيرٌ من كثيرٍ في عُنفٍ، والقَتلُ حَتفٌ
من الحُتوفِ، يصيبُ البَرَّ والفاجِرَ، والشَّهيدُ من احتَسَب نفسَه. وإذا أراد أحدُكم بعيرًا فليَعمِدْ إلى الطَّويلِ العظيمِ فليَضْرِبْه بعصاه، فإن وجَده حديدَ الفؤادِ فليَشْتَرِهـ)
.
فصاحةُ عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها:كانت
عائشةُ رَضِيَ اللهُ عنها على درجةٍ عاليةٍ من الفَصاحةِ والبلاغةِ؛ فعن
معاويةَ قال: (ما رأيتُ خطيبًا قَطُّ أبلَغَ ولا أفطَنَ من
عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها)
.
- وقال موسى بنُ طلحةَ: (ما رأيتُ أحَدًا أفصَحَ من
عائشةَ)
.
- وعن الأحنَفِ بنِ قَيسٍ قال: (سمِعتُ خُطبةَ
أبي بَكرٍ الصِّدِّيقِ، وعُمَرَ بنِ الخطَّابِ، وعُثمانَ بنِ عَفَّانَ، وعليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عنهم، والخلفاءِ هَلُمَّ جَرًّا إلى يومي هذا، فما سَمِعتُ الكلامَ من فَمِ مخلوقٍ أفخَمَ ولا أحسَنَ منه مِن في
عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها)
.
- وحينما توفِّي أبوها قالت رَضِيَ اللهُ عنها: (رَحِمك اللهُ يا أَبَةِ! لقد قُمتَ بالدِّينِ حينَ وهى شُعَبُه، وتفاقَمَ صَدْعُه، ورَحُبَت جوانبُه، وبغَّضْتَ ما أصغَوا إليه، وشمَّرْتَ فيما وَنَوا عنه، واستخفَفْتَ من دُنياك ما استوطَنوا، وصَغَّرْتَ منها ما عَظَّموا، ولم تهضِمْ دينَك، ولم تَنْسَ غَدَك؛ ففاز عِندَ المساهمةِ قِدْحُك، وخَفَّ مما استوزروا ظَهْرَك، حتى قرَرْتَ الرُّؤوسَ على كواهِلِها، وحقَنْتَ الدِّماءَ في أُهُبِها -يعني: في الأجسادِ -؛ فنضَّر اللهُ وَجْهَك يا أَبَةِ! فلقد كنتَ للدُّنيا مُذِلًّا بإدبارِك عنها، وللآخِرةِ مُعِزًّا بإقبالِك عليها، ولكأنَّ أجَلَّ الرَّزايا بعدَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رُزْؤُك
، وأكبَرَ المصائِبِ فَقْدُك؛ فعليك سلامُ اللهِ ورحمتُه، غيرَ قاليةٍ لحياتِك، ولا زاريةٍ على القضاءِ فيك!)
.
فصاحةُ عليِّ بنِ أبي طالبٍ:فمِن فصيحِ كَلِماتِه رَضِيَ اللهُ عنه: (مَن كانت له عِندَ النَّاسِ ثلاثٌ وَجَبت له عليهم ثلاثٌ: من إذا حدَّثهم صَدَقهم، وإذا ائتَمَنوه لم يخُنْهم، وإذا وعدَهم وفَى لهم؛ وجب له عليهم أن تحِبَّه قلوبُهم، وتنطِقَ بالثَّناءِ عليه ألسِنَتُهم، وتظهَرَ له معونتُهم)
.
وقال أيضًا موصيًا ابنَه: (يا بُنَيَّ إن استطَعْتَ ألَّا يكونَ بينَك وبينَ اللهِ ذو نعمةٍ فافعَلْ، ولا تكُنْ عبدَ غَيرِك وقد جعَلَك اللهُ حُرًّا؛ فإنَّ اليسيرَ من اللهِ تعالى أكرَمُ وأعظَمُ من الكثيرِ من غيرِه، وإن كان كُلٌّ منه كثيرًا)
.