موسوعة الأخلاق والسلوك

ب- نماذِجُ من الشُّكرِ عِندَ السَّلَفِ الصَّالحِ والعُلَماءِ


1- عن أنَسٍ قال : ((لمَّا قدِم النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المدينةَ أتاه المُهاجِرونَ، فقالوا: يا رسولَ اللهِ، ما رأينا قومًا أبذَلَ مِن كثيرٍ ولا أحسَنَ مُواساةً مِن قليلٍ مِن قومٍ نزَلْنا بَينَ أظهُرِهم! لقد كفَوْنا المُؤنةَ، وأشرَكونا في المَهنَأِ، حتَّى خِفْنا أن يذهَبوا بالأجرِ كلِّه! فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لا، ما دعَوتُم اللهَ لهم، وأثنَيتُم عليهم)) .
قال الطِّيبيُّ: (قولُه: «بالأجرِ كُلِّه»، يعني: إذا حمَلوا المشقَّةَ والتَّعَبَ على أنفُسِهم، وأشرَكونا في الرَّاحةِ والمهنَأِ، فقد أحرَزوا المثوباتِ، فكيف نجازيهم؟! فأجاب: لا. أي: ليس الأمرُ كما زعَمْتُم؛ فإنَّكم إذا أثَنيتُم عليهم شُكرًا لصنيعِهم، ودُمتُم عليه، فقد جازَيتُموهم) .
2- عن أبي هُرَيرةَ، قال: ((بعَث رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خيلًا قِبَلَ نَجدٍ، فجاءت برَجُلٍ من بني حَنيفةَ يُقالُ له: ثمامةُ بنُ أُثالٍ، سَيِّدُ أهلِ اليمامةِ، فربَطوه بساريةٍ من سواري المسجِدِ، فخرج إليه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: ماذا عندَك يا ثُمامةُ؟ فقال: عندي يا محمَّدُ خيرٌ؛ إنْ تقتُلْ تقتُلْ ذا دَمٍ، وإنْ تُنعِمْ تُنعِمْ على شاكِرٍ...)) .
قَولُه: (وإنْ تُنعِمْ تُنعِمْ على شاكِرٍ) أي: إن تُعتِقْني أشكُرْك وأعرِفْ نِعمَتَك عليَّ . وقيل: أي: يقعُ إنعامُك على مَن يَشكُرُك . وقيل: وإن تحسِنْ إليَّ بالعفوِ عنِّي فالعفوُ مِن شِيَمِ الكرامِ، ولن يَضيعَ معروفُك عندي؛ لأنَّك أنعَمْتَ على كريمٍ يحفَظُ الجميلَ، ولا ينسى المعروفَ أبَدًا .
3- عن عائشةَ: (أنَّها استعارت من أسماءَ قلادةً فهَلَكَت، فبعث رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رجلًا فوجَدَها، فأدركَتْهم الصَّلاةُ وليس معهم ماءٌ، فصَلَّوا فشَكَوا ذلك إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأنزل اللهُ آيةَ التَّيمُّمِ، فقال أُسَيدُ بنُ حُضَيرٍ لعائشةَ: جزاكِ اللهُ خيرًا، فواللهِ ما نَزَل بك أمرٌ تَكرَهينَه إلَّا جَعَل اللهُ ذلك لكِ وللمُسلِمين فيه خيرًا!) .
4- عن ابنِ عُمَرَ قال: (حضَرْتُ أبى حينَ أُصيبَ، فأثْنَوا عليه، وقالوا: جزاك اللهُ خيرًا) .
5- عن أنسٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: (قَدِم عبدُ الرَّحمنِ بنُ عَوفٍ المدينةَ، فآخى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَينَه وبَينَ سَعدِ بنِ الرَّبيعِ الأنصاريِّ، وكان سعدٌ ذا غِنًى، فقال لعبدِ الرَّحمنِ: أقاسِمُك مالي نصفَينِ وأزَوِّجُك، قال: بارك اللهُ لك في أهلِك ومالِك، دُلُّوني على السُّوقِ) .
وفي روايةٍ: (فعَرَض عليه أن يناصِفَه أهلَه ومالَه، فقال عبدُ الرَّحمنِ: بارَك اللهُ لك في أهلِك ومالِك، دُلَّني على السُّوقِ) .
6- عن عبدِ الرَّحمنِ بنِ كعبِ بنِ مالكٍ -وكان قائدَ أبيه بعدَ ما ذهب بصرُه- عن أبيه كَعبِ بنِ مالِكٍ أنَّه كان إذا سمِع النِّداءَ يومَ الجُمُعةِ ترَحَّم لأسعَدَ بنِ زُرارةَ، فقُلتُ له: (إذا سَمِعتَ النِّداءَ ترحَّمتَ لأسعدَ بنِ زُرارةَ! قال: لأنَّه أوَّلُ من جمَّع بنا في هَزْمِ النَّبيتِ مِن حَرَّةِ بني بياضةَ في نَقيعٍ، يُقالُ له: نقيعُ الخَضِماتِ، قُلتُ: كم أنتم يومَئذٍ؟ قال: أربعون) .
7- وعن العُتْبيِّ، قال: (مرَّ سعيدُ بنُ العاصِ بدارِ رَجُلٍ بالمدينةِ فاستسقى فسَقَوه، ثمَّ مرَّ بعدَ ذلك بالدَّارِ ومنادٍ ينادي عليها فيمَن يزيدُ؟ فقال لمولاه: سَلْ لمَ تُباعُ هذه؟ فرجع إليه، فقال: على صاحِبِها دَينٌ، قال: فارجِعْ إلى الدَّارِ، فرَجَع فوَجَد صاحِبَها جالِسًا وغريمُه معه، فقال: لمَ تبيعُ دارَك؟ قال: لهذا علَيَّ أربعةُ آلافِ دِينارٍ، فنزل وتحدَّث معهما، وبعَث غلامَه فأتاه ببَدْرةٍ فدَفَع إلى الغريمِ أربعةَ آلافٍ، ودفَع الباقيَ إلى صاحِبِ الدَّارِ، ورَكِبَ ومضى!) .
8- قال الرَّبيعُ بنُ سُلَيمانَ: (أخَذ رَجُلٌ برِكابِ الشَّافعيِّ، فقال: يا ربيعُ، أعطه أربعةَ دنانيرَ واعذُرني عندَه، قال: فأعطيتُه إيَّاها) .
9- عن أبي عيسى قال: (كان إبراهيمُ بنُ أدهَمَ إذا صنَع إليه أحدٌ معروفًا حَرَص على أن يكافِئَه أو يتفَضَّلَ عليه، قال أبو عيسى: فلَقِيني وأنا على حمارٍ وأنا أريدُ بيتَ المقدِسِ جائيًا من الرَّملةِ، قال: وقد اشترى بأربعةِ دوانيقَ تُفَّاحًا وسَفَرْجَلًا وخوخًا وفاكهةً، فقال: يا أبا عيسى، أحِبُّ أن تحمِلَ هذا، قال: وإذا عجوزٌ يهوديَّةٌ في كوخٍ لها، فقال: أحِبُّ أن تُوصِلَ هذا إليها؛ فإنَّني مرَرْتُ وأنا مُمسٍ فبيتَّتْني عندَها، فأحِبُّ أن أكافِئَها على ذلك) .
10- عن عليِّ بنِ محمَّدٍ قال: (مرَّ عُمَرُ بنُ هُبَيرةَ لَمَّا انصرف في طريقِه، فسَمِع امرأةً من قيسٍ تقولُ: لا والذي يُنجي عُمَرَ بنَ هُبَيرةَ، فقال: يا غُلامُ، أعْطِها ما معك وأعلِمْها أنِّي قد نجَوتُ) .
11- وبلَغ ابنَ المُقَفَّعِ أنَّ جارًا له يبيعُ دارًا له لدَينٍ ركِبَه، وكان يجلِسُ في ظِلِّ دارِه، فقال: (ما قُمتُ إذًا بحُرمةِ ظِلِّ دارِه إن باعها مُعدِمًا وبِتُّ واجِدًا! فحَمَل إليه ثمَنَ الدَّارِ وقال: لا تَبِعْ) .
12- وغَضِبَ معاويةُ على يزيدَ فهَجَره، فقال الأحنَفُ: (يا أميرَ المُؤمِنين، أولادُنا ثمارُ قُلوبِنا وعِمادُ ظهورِنا، ونحن لهم سماءٌ ظليلةٌ وأرضٌ ذليلةٌ، وبهم نَصولُ على كُلِّ جليلةٍ، فإن غَضِبوا فأرْضِهم، وإن سألوا فأعْطِهم، وإن لم يَسألوا فابتَدِئْهم، ولا تنظُرْ إليهم شَزْرًا فيَمَلُّوا حياتَك ويتَمَنَّوا وفاتَك. فقال معاويةُ: يا غلامُ، إذا رأيتَ يزيدَ فاقرَأْه السَّلامَ، واحمِلْ إليه مائَتَي ألفِ دِرهَمٍ، ومائَتَي ثوبٍ، فقال يزيدُ: مَن عِندَ أميرِ المُؤمِنين؟ فقيل له: الأحنَفُ. فقال يزيدُ بنُ مُعاويةَ: عليَّ به، فقال: يا أبا بَحرٍ، كيف كانت القِصَّةُ؟ فحكاها له، فشَكَر صنيعَه، وشاطَرَه الصِّلةَ) .
13- وقال الطُّوفيُّ الحنبليُّ: (ولقد طالما نظَرْتُ في كتُبِ الفُضَلاءِ، فإذا رأيتُ فائدةً مُستغرَبةً، أو حَلَّ أمرٍ مُشكِلٍ، أقرأُ لمصَنِّفِ الكتابِ شيئًا من القُرآنِ، وأجعَلُ له ثوابَه على مذهَبِنا في ذلك، وإن كان المصَنِّفُ ممَّن لا يعتَقِدُ وُصولَه فأنا أرجو من النَّاسِ مِثلَ ذلك؛ فإنَّه يُقالُ: كما تكونوا يُولَّى عليكم) .
14- وشَكَر أعرابيٌّ رجلًا أولاه جميلًا، فقال له: (لا ابتلاك اللهُ ببلاءٍ يَعجِزُ عنه صَبْرُك، وأنعَمَ عليك نعمةً يَعجِزُ عنها شُكرُك) .
15- في فوائِدِ النَّجِيرَميِّ بخَطِّه: قال العبَّاسُ بنُ بكَّارٍ للضَّبِّيِّ: ما أحسَنَ اختيارَك للأشعارِ! فلو زِدْتَنا من اختيارِك، فقال: (واللهِ ما هذا الاختيارُ لي، ولكِنَّ إبراهيمَ بنَ عبدِ اللهِ استَتَر عندي، فكنتُ أطوفُ وأعودُ إليه بالأخبارِ، فيأنَسُ ويُحَدِّثُني، ثمَّ عَرَض لي خروجٌ إلى ضيعَتي أيامًا، فقال لي: اجعَلْ كُتُبَك عندي لأستريحَ إلى النَّظَرِ فيها، فتركتُ عنده قِمَطْرَينِ فيهما أشعارٌ وأخبارٌ، فلمَّا عدتُ وجَدتُه قد عَلَّم على هذه الأشعارِ، وكان أحفَظَ النَّاسِ للشِّعرِ؛ فجمَعْتُه وأخرَجْتُه، فقال النَّاسُ: اختيارُ المُفَضَّلِ) .

انظر أيضا:

  1. (1) أخرجه الترمذي (2487) وأحمد (13122). صحَّحه ابن دقيق العيد في الاقتراح (ص: 117) وابن حجر كما في ((الفتوحات الربانية)) لابن علان (5/249) والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2487) وقال ابنُ كثير في ((البداية والنهاية)) (3/227): (على شرط الصحيحين)، وقال شعيب في تحقيق المسند(20/384): إسناده صحيح على شرط الشيخين.
  2. (2) ((الكاشف عن حقائق السنن)) للطيبي (7/ 2232).
  3. (3) أخرجه البخاري (4372)، ومُسلِم (1764) واللفظ له
  4. (4) ((شرح المصابيح)) لابن الملك (4/ 405).
  5. (5) ((الكوكب الوهاج)) لمحمد الأمين الهرري (19/ 194).
  6. (6) ((منار القاري)) لحمزة محمد قاسم (4/ 377).
  7. (7) أخرجه البخاري (336) واللفظ له، ومُسلِم (843).
  8. (8) أخرجه مُسلِم (4817).
  9. (9) أخرجه البخاري (2049).
  10. (10) أخرجه البخاري (3937).
  11. (11) أخرجه أبو داود (1069) واللفظ له، وابن ماجه (1082). قال الحاكم في ((المستدرك على الصحيحين)) (1/ 417): (صحيح على شرط مسلم)، وحسَّنه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (1069)، وحسَّن إسنادَه النووي في خلاصة الأحكام (2/768) وشعيب في ((تخريج سنن أبي داود)) (1069)، وقال ابنُ حجر في الدراية (1/215): (رجاله ثقات).
  12. (12) البَدْرةُ: كيسٌ فيه ألفٌ أو عَشَرةُ آلافِ دِرهَمٍ أو سبعةُ آلافِ دينارٍ. يُنظَر: ((تاج العروس)) للزبيدي (10/ 142).
  13. (13) ((روضة العقلاء)) لابن حبان (ص: 263).
  14. (14) ((روضة العقلاء)) لابن حبان (ص: 265)، ((حلية الأولياء)) لأبي نعيم (9/ 130).
  15. (15) ((روضة العقلاء)) لابن حبان (ص: 266).
  16. (16) ((روضة العقلاء)) لابن حبان (ص: 268).
  17. (17) ((عيون الأخبار)) لابن قتيبة (1/ 462).
  18. (18) يقالُ: نَظَر إليه شَزْرًا، وهو نظَرُ الغَضبانِ بمُؤخِرِ العَينِ. يُنظَر: ((الصحاح)) للجوهري (2/ 696).
  19. (19) ((الفاضل)) للمبرد (ص: 93)، ((المستطرف)) للأبشيهي (ص: 260).
  20. (20) ((شرح مختصر الروضة)) (1/ 109).
  21. (21) ((الفاضل)) للمبرد (ص: 96).
  22. (22) ((المزهر في علوم اللغة وأنواعها)) (2/ 273).