الفرع الثاني: نبوءة موسى عن البركة الموعودة في أرض فاران:
وقبيل وفاة موسى عليه السلام ساق لبني إسرائيل خبراً مباركاً ، فقد جاء في سفر التثنية: (هذه البركة التي بارك بها موسى رجل الله بني إسرائيل قبل موته، فقال: جاء الرب من سيناء، وأشرق لهم من سعير، وتلألأ من جبل فاران، وأتى من ربوات القدس، وعن يمينه نار شريعة، فأحب الشعب، جميع قديسيه في يدك، وهم جالسون عند قدمك، يتقبلون من أقوالك) (التثنية 33/1-3).
وأكد هذه النبوءة النبي حبقوق، حيث ذكر خبراً أفزعه؛ لأنه يشير إلى انتقال النبوة بعيداً عن قومه بني إسرائيل، يقول: (يا رب قد سمعت خبرك، فجزعت، يا رب عملك في وسط السنين أحْيِه، في وسط السنين عرّف، في الغضب اذكر الرحمة، الله جاء من تيمان، والقدوس من جبل فاران. سلاه. جلاله غطى السماوات، والأرض امتلأت من تسبيحه، وكان لمعان كالنور. له من يده شعاع، وهناك استتار قدرته، قدامه ذهب الوبأ، وعند رجليه خرجت الحمى، وقف وقاس الأرض، نظر فرجف الأمم.... ) (حبقوق 3/3 - 6).
وقبل أن نمضي في تحليل النص نتوقف مع الاختلاف الكبير الذي تعرض له هذا النص في الترجمات المختلفة.
فقد جاء في الترجمة السبعينية: (واستعلن من جبل فاران، ومعه ربوة من أطهار الملائكة عن يمينه، فوهب لهم وأحبهم، ورحم شعبهم، وباركهم وبارك على أظهاره، وهم يدركون آثار رجليك، ويقبلون من كلماتك. أسلم لنا موسى مثله، وأعطاهم ميراثاً لجماعة يعقوب ).
وفي ترجمة الآباء اليسوعيين: (وتجلى من جبل فاران، وأتى من رُبى القدس، وعن يمينه قبس شريعة لهم).
وفي ترجمة (1622) م, العربية: ( شرف من جبل فاران، وجاء مع ربوات القدس، من يمينه الشريعة )، ومعنى ربوات القدس أي: ألوف القديسين الأطهار، كما في ترجمة (1841) م, ( واستعلن من جبل فاران، ومعه ألوف الأطهار، في يمينه سنة من نار ).
واستخدام ربوات بمعنى ألوف أو الجماعات الكثيرة معهود في الكتاب المقدس (ألوف ألوف تخدمه، وربوات ربوات وقوف قدامه) (دانيال 7/10)، ومثله قوله: (كان يقول: ارجع يا رب إلى ربوات ألوف إسرائيل) (العدد 10/36)، فالربوات القادمين من فاران هم الجماعات الكثيرة من القديسين، الآتين مع قدوسهم الذي تلألأ في فاران.
والنص التوراتي يتحدث عن ثلاثة أماكن تخرج منها البركة، أولها: جبل سيناء حيث كلم الله موسى. وثانيها: ساعير، وهو جبل يقع في أرض يهوذا. (انظر يشوع 15/10)، وثالثها: هو جبل فاران.
وتنبئ المواضع التي ورد فيها ذكر ( فاران ) في الكتاب المقدس أنها تقع في صحراء فلسطين في جنوبها.
لكن تذكر التوراة أيضاً أن إسماعيل قد نشأ في برية فاران. (انظر التكوين 21/21)، ومن المعلوم تاريخيًّا أنه نشأ في مكة المكرمة في الحجاز.
ويرى المسلمون أن النص نبوءة عن ظهور عيسى عليه السلام في سعير في فلسطين، ثم محمد صلى الله عليه وسلم في جبل فاران، حيث يأتي ومعه الآلاف من الأطهار مؤيدين بالشريعة من الله عزَّ وجلَّ.
وذلك متحقق في رسول الله لأمور:
1- أن جبل فاران هو جبل مكة، حيث سكن إسماعيل، تقول التوراة عن إسماعيل: ( كان الله مع الغلام فكبر، وسكن في البرية، وكان ينمو رامي قوس، وسكن في برية فاران، وأخذت له أمه زوجة من أرض مصر ) (التكوين 21/20-21).وقد انتشر أبناؤه في هذه المنطقة، فتقول التوراة: ( هؤلاء هم بنو إسماعيل... وسكنوا من حويلة إلى شور ) (التكوين 25/16 - 18)، وحويلة كما جاء في (قاموس الكتاب المقدس) منطقة في شمال أرض اليمن، بينما شور في جنوب فلسطين.
انظر ((قاموس الكتاب المقدس)) ( 329ص).
وعليه فإن إسماعيل وأبناءه سكنوا هذه البلاد الممتدة جنوب الحجاز وشماله، وهو يشمل أرض فاران التي سكنها إسماعيل.كما وقد قامت الأدلة التاريخية على أن فاران هي الحجاز، حيث بنى إسماعيل وأبوه الكعبة، وحيث تفجر زمزم تحت قدميه، وهو ما اعترف به عدد من المؤرخين كما نقل عنهم المؤرخ الهندي مولانا عبد الحق فدرياتي في كتابه ( محمد في الأسفار الدينية العالمية) ومن هؤلاء المؤرخين المؤرخ جيروم واللاهوتي يوسبيوس فقالا بأن فاران هي مكة
انظر ((محمد في بشارات الأنبياء)) (ص14 ), محمود الشرقاوي، . وجاء في قاموس Strong's Hebrew Bible Dictionary أن فاران في صحراء العرب، حيث يقول: ( Paran, a desert of Arabia).
2- أن وجود منطقة اسمها فاران في جنوب سيناء لا يمنع من وجود فاران أخرى، هي تلك التي سكنها إسماعيل، فقد ورد مثلاً إطلاق اسم سعير على المنطقة التي تقع في أرض أدوم والتي هي حالياً في الأردن، وتكرر ذلك الإطلاق في مواضع عديدة في الكتاب، ولم تمنع كثرتها أن يطلق ذات الاسم على جبل في وسط فلسطين غربي القدس في أرض سبط يهوذا. (انظر يشوع 15/10).
ولنا أن نسأل أولئك الذين يصرون على أن فاران هي فاران سيناء: من هو القدوس الذي تلألأ من ذلكم الجبل الذي لا يرتبط بأدنى علاقة بأي من أحداث الإنسانية المهمة، فمن الذي تلألأ عليه ؟
3- لا يقبل قول القائل بأن النص يحكي عن أمر ماضٍ؛ إذ التعبير عن الأمور المستقبلة بصيغة الماضي معهود في لغة الكتاب المقدس. يقول اسبينوزا: ( أقدم الكتاب استعملوا الزمن المستقبل للدلالة على الحاضر، وعلى الماضي بلا تمييز، كما استعملوا الماضي للدلالة على المستقبل... فنتج عن ذلك كثير من المتشابهات).
4- ونقول: لم خص جبل فاران بالذكر دون سائر الجبال، لو كان الأمر مجرد إشارة إلى انتشار مجد الله كما زعم بعض كتاب اليهود، فإن مجد الله لم يتوقف عند حدود فاران أو جبل سعير.
5- ومما يؤكد أن الأمر متعلق بنبوءة الحديث عن آلاف القديسين، والذين تسميهم بعض التراجم ( أطهار الملائكة ) أي: أطهار الأتباع، إذ يطلق هذا اللفظ ويراد به: الأتباع، كما جاء في سفر الرؤيا أن ( ميخائيل وملائكته حاربوا التنين، وحارب التنينُ وملائكتُه...) (الرؤيا 12/7).
فمتى شهدت فاران مثل هذه الألوف من الأطهار إلا عند ظهور محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ؟
6- وما جاء في سفر حبقوق يؤيد قول المسلمين حيث يقول: ( الله جاء من تيمان، والقدوس من جبل فاران. سلاه. جلاله غطى السماوات، والأرض امتلأت من تسبيحه، وكان لمعان كالنور. له من يده شعاع، وهناك استتار قدرته، قدامه ذهب الوبأ، وعند رجليه خرجت الحمى، وقف وقاس الأرض، نظر فرجف الأمم...) (حبقوق 3/3 - 6).
فالنص شاهد على أنه ثمة نبوة قاهرة تلمع كالنور، ويملأ الآفاق دوي أذان هذا النبي بالتسبيح.
وتيمان كما يذكر محررو الكتاب المقدس هي كلمة عبرية معناها: ( الجنوب )، لذا يقول النص الكاثوليكي للتوراة: (الله يأتي من الجنوب، والقدوس من جبل فاران)، ولما كان المخاطبون في فلسطين فإن الوحي المبشر به يأتي من جهة الجنوب أي من جزيرة العرب، فالقدوس سيبعث في جبل فاران.
ومن هذا كله فالقدوس المتلألئ في جبال فاران هو نبي الإسلام، فكل الصفات المذكورة لنبي فاران متحققة فيه، ولا تتحقق في سواه من الأنبياء الكرام.