موسوعة الفرق

المَبحَثُ الرَّابعُ: آدابُ المُريدِ مَعَ شَيخِه في الطَّريقةِ النَّقشَبَنْديَّةِ


وضَعَ أربابُ الطَّريقةِ النَّقشَبَنْديَّةِ آدابًا لطَريقَتِهم ورَسَموا فيها صورةَ العَلاقةِ المَطلوبةِ بَينَ الشَّيخِ ومُريديه، وهي عَلاقةٌ قائِمةٌ على الغُلوِّ والمُبالغةِ وتَقديسِ الشَّيخِ، ومن أبرَزِ تلك الآدابِ التي سَطَّروها في بَعضِ كُتُبِهم:
1- أن يَخدُمَ المُريدُ شَيخَه النَّقشَبَنْديَّ بالمالِ والبَدَنِ؛ لأنَّ جَوهَرَ الإرادةِ والمَحَبَّةِ لا يَنبَني إلَّا بهذا الطَّريقِ. 
وفضَّلوا خِدمةَ الشَّيخِ على التَّقَرُّبِ إلى اللهِ بالنَّوافِلِ!
قال مُحَمَّد أمين الكُرديُّ: (قال بَعضُهم: الخِدمةُ عِندَ القَومِ من أفضَلِ العَمَلِ الصَّالحِ) [1156] ((تنوير القلوب)) (ص: 528- 530). .
وقال عُبَيدُ اللهِ أحرار: (ظَنَّ بَعضُ النَّاسِ أنَّ الاشتِغالَ بالنَّوافِلِ أَولى من خِدمةِ الشَّيخِ، وليس كذلك، فإنَّ نَتيجةَ الخِدمةِ المَحَبَّةُ ومَيلُ القُلوبِ؛ لأنَّها جُبِلَت على حُبِّ مَن أحسَنَ إليها، وفَرقٌ بَينَ ثَمَرةِ النَّوافِلِ وثَمَرةِ الخِدمةِ) [1157] يُنظر: ((المواهب السرمدية)) للكردي (ص: 163). .
وقد تَجاهَلوا ثَمَرةَ التَّقَرُّبِ إلى اللهِ بالنَّوافِلِ، وهي مَحَبَّةُ اللهِ كما قال: ((ولا يَزالُ عَبدي يَتَقَرَّبُ إليَّ بالنَّوافِلِ حتَّى أحِبَّه)) [1158] أخرجه البخاري (6502) مطولًا باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. .  زاعِمينَ أنَّه لا يَزالُ المُريدُ يَتَقَرَّبُ إلى الشَّيخِ بالخِدمةِ حتَّى يُحِبَّه!
2- أن يَفنى في ذاتِ الشَّيخِ وأفعالِه وصِفاتِه؛ فإنَّ الفَناءَ في الشَّيخِ مُقدِّمةٌ للفناءِ في اللهِ تعالى [1159] يُنظر: ((السعادة الأبدية)) للخاني (ص: 30). ، وأن يَرى كُلَّ نِعمةٍ إنَّما هي من شَيخِه [1160] يُنظر: ((المواهب السرمدية)) (ص: 494، 495)، ((تنوير القلوب)) (ص: 529) كلاهما للكُرديِّ. ، وأن يُلازِمَ عِندَ الذِّكْرِ في مُخَيِّلتِه وبَينَ عَينَيه صورةَ الشَّيخِ، وذلك من أصولِ الذِّكْرِ عِندَهم [1161] يُنظر: ((رسالة في تحقيق الرابطة)) لخالد النقشبندي (ص: 9)، ((شفاء العليل)) للدهلوي (ص: 90، 78). .
3- إذنُ الشَّيخِ، فلا يَذكُرُ اللَّهَ إلَّا بإذنِ الشَّيخِ [1162] يُنظر: ((مكتوبات الإمام الرباني)) للسرهندي (ص: 347). ، ولا يَتَكَلَّمْ في مَجلسٍ قَطُّ إلَّا بإذنِ شَيخِه إن كان جِسمُه حاضِرًا، وإن كان غائِبًا يَستَأذِنُه بالقَلبِ [1163] يُنظر: ((البهجة السنية)) للخاني (ص: 26). .
4- أن يَعتَقِدَ أنَّ كُلَّ شَيءٍ يَصدُرُ عن شَيخِه يَعتَبرُه صَوابًا وإن لم يَرَه صَوابًا في الظَّاهرِ؛ فإنَّه يَفعَلُ ما يَفعَلُه بطَريقِ الإلهامِ والإذنِ [1164] يُنظر: ((مكتوبات الإمام الرباني)) للسرهندي (ص: 347). ، فلا يُنكِرْ على أفعالِه؛ فإنَّ المُنكِرَ عليه لا يَنجو [1165] يُنظر: ((المواهب السرمدية)) للكردي (ص: 79). .
5- أن يَكونَ بَينَ يَدَيه كالمَيِّتِ بَينَ يَدي غاسِلِه، لا يُخالفُه في شَيءٍ مُطلقًا [1166] يُنظر: ((الحديقة الندية)) للبغدادي (ص: 76، 77)، ((البهجة السنية)) للخاني (ص: 25، 41، 57). .
وأنشَدَ الكُرديُّ شِعرًا يُبَيِّنُ كَيف يَكونُ المُريدُ من شَيخِه، فقال:
وكُنْ عِندَه كالمَيِّتِ عِند مُغَسِّلٍ
يُقَلِّبُه ما شاءَ وهْو مُطاوِعُ
ولا تَعتَرِضْ فيما جَهِلتَ مِن امْرِه
عليه فإنَّ الاعتِراضَ تَنازُعُ
وسَلِّمْ له فيما تَراه ولو يَكُنْ
على غَيرِ مَشروعٍ فثَمَّ مخادِعُ [1167] ((تنوير القلوب)) (ص: 529).
6- أن لا يُشيرَ على الشَّيخِ برَأيِه، بل يَرُدُّ الأمرَ إلى شَيخِه اعتِقادًا منه أنَّه أعلمُ منه بالأمورِ وغَنيٌّ عنِ استِشارَتِه [1168] يُنظر: ((تنوير القلوب)) للكردي (ص: 529)، ((البهجة السنية)) للخاني (ص: 41). . وهذا مَعناه في الحَقيقةِ (فإن تَنازَعتُم في شَيءٍ فرَدُّوه إلى الشَّيخِ، ذلك خَيرٌ وأحسَنُ تَأويلًا)!
فأينَ هذه التَّعاليمُ من أمرِ اللهِ تعالى لنَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بمَشورةِ أصحابِه وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ [آل عمران: 159] ، وقد كان يَستَشيرُهم دائِمًا، كَقَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((يا أيُّها النَّاسُ، أشيروا عليَّ في الكَعبةِ: أَنقُضُها ثمَّ أبني بناءَها، أو أُصلِحُ ما وهى منها؟)) [1169] أخرجه مسلم (1333) من قولِ عبدِ اللهِ بنِ الزُّبَيرِ رَضِيَ اللهُ عنهما. ، وقال أيضًا: ((أمَّا بَعدُ؛ أشيروا عليَّ في أناسٍ أبَنُوا أهلي)) [1170] أخرجه البخاري (4757)، ومسلم (2770) مطولًا من حديثِ عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها. . فهذا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يَستَغنِ عن مَشورةِ أصحابِه رَضِيَ اللهُ عنهم.
7- الاحتِرامُ المُطلَقُ، ومن صُوَرِ ذلك: أن لا يَتَوضَّأَ بمَرأًى من شَيخِه ولا يُصَلِّي النَّوافِلَ بحَضرَتِه، وأن لا يَشرَبَ ماءً ولا يَأكُلَ طَعامًا ولا يُكَلِّمَ أحَدًا في حُضورِ شَيخِه، ولا يَمُدَّ رِجلَه عِندَ غَيبةِ شَيخِه إلى جانِبٍ هو فيه، ولا يَرمي بُصاقَه إلى ذلك الجانِبِ -أي: الجِهةِ التي يَكونُ فيها الشَّيخُ في أيِّ مَكانٍ في العالم-، وأن لا يَقومَ في مَحَلٍّ يَقَعُ ظِلُّه على ثَوبِ شَيخِه أو ظِلِّه [1171] يُنظر: ((مكتوبات الإمام الرباني)) للسرهندي (ص: 347). . ومن صُورِ هذا الاحتِرامِ المُطلَقِ أن لا يَتَزَوَّجَ زَوجةً طَلَّقَها شَيخُه أو مالت نَفسُه إليها [1172] يُنظر: ((تنوير القلوب)) للكردي (ص: 529). !
فهذه التَّعاليمُ النَّقشَبَنْديَّةُ تَجعَلُ للمَشايِخِ العِصمةَ والكَمالَ المُطلَقَ، وهذا تَقديسٌ في صورةِ أدَبٍ! قال تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة: 31] ، وهم وإنِ ادَّعَوا أنَّهم لا يَدَّعونَ العِصمةَ للمَشايِخِ إلَّا أنَّ لسانَ حالِهم يُؤَكِّدُ اعتِقادَهمُ العِصمةَ.
وتلك التَّعاليمُ قائِمةٌ على التَّسليمِ والاستِسلامِ المُطلَقِ للشَّيخِ، قال مُحَمَّد أمين الكُرديُّ: (اعلَمْ أنَّ كُلَّ ما وضَعوه منَ الآدابِ للمُريدينَ كَتَغميضِ العَينِ وقتَ الذِّكرِ، وإغلاقِ الأبوابِ، فيَنبَغي أن تَتَلقَّاه بالقَبولِ وتَعلمَ أنَّهمُ اقتَبَسوه من مِصباحِ السُّنَّةِ، فإذا أرَدتَ أدَبًا من آدابِهم ولم تَعرِفْ مَأخَذَه منَ السُّنَّةِ فلا يَنبَغي أن تُطيلَ لسانَك بالاعتِراضِ عليهم) [1173] يُنظر: ((المواهب السرمدية)) (ص: 323). .
بل يُختَبَرُ المُريدُ أحيانًا على ارتِكابِ المَعصيةِ مَهما كَبُرَت إذا أمَرَ الشَّيخُ بها، وفي ذلك يَحكونَ قِصَّةً للشَّيخِ بَهاءِ الدِّينِ الذي تُنسَبُ الطَّريقةُ للَقَبِه أنَّه كان في بُخارى مَعَ تِلميذِه نَجمِ الدِّينِ دادرك، فقال الشَّيخُ له: (أتمتَثِلُ كُلَّ ما آمُرُك به؟ قال: نَعم. قال: فإن أمَرتُك بالسَّرِقةِ تَفعَلُها؟ قال: لا. قال: ولمَ؟ قال: لأنَّ حُقوقَ اللهِ تُكَفِّرُها التَّوبةُ، وهذه من حُقوقِ العِبادِ. فقال: إن لم تَمتَثِلْ أمْرَنا فلا تَصحَبْنا. ففَزِعَ نَجمُ الدِّينِ فزَعًا شَديدًا وضاقَت عليه الأرضُ بما رَحُبَت وأظهَرَ التَّوبةَ والنَّدَمَ وعَزَمَ على أن لا يَعصيَ له أمرًا، فرَحِمَه الحاضِرونَ وشَفَعوا له عِندَه وسَألوه العَفوَ عنه، فعفا عنه) [1174] يُنظر: ((الحدائق الوردية)) للخاني (ص: 139)، ((المواهب السرمدية)) للكردي (ص: 138)، ((جامع كرامات الأولياء)) للنبهاني (1/150). !

انظر أيضا: