موسوعة الفرق

المَبحَثُ الثَّالثُ: أركانُ الطَّريقةِ النَّقشَبَنْديَّةِ


قال عَبدُ المَجيدِ الخانيُّ: (اعلَمْ أنَّ للطَّريقةِ العَليَّةِ الخالديَّةِ النَّقشَبَنْديَّةِ أركانًا مَحكَمةً، من أهمِّها:
الذِّكْرُ الخَفيُّ، والرَّابطةُ، وإغلاقُ البابِ.
فالأوَّلُ: أعني الذِّكرَ الخَفيَّ هو: ذِكرُ القَلبِ -بلا حَرَكةِ لسانٍ، ولا إعانةِ نَفسٍ- الاسمَ الأعظَمَ: اللَّه اللَّه فقَط، بدونِ مُلاحَظةِ أنَّ الاسمَ الأعظَمَ مُبتَدَأٌ مَحذوفُ الخَبَرِ، أو مُنادًى بحَرفِ نِداءٍ مُقدَّرٍ، أو غَيرِ ذلك! وهو ذِكرٌ جَليلٌ، له شَأنٌ عَظيمٌ في تَنويرِ قَلبِ السَّالكِ، وطَيِّ مَنازِلِ السُّلوكِ، وهو أفضَلُ منَ الجَهريِّ بمَراحِلَ.
وأمَّا الدَّليلُ على كَونِه ذِكرًا وأنَّ المُشتَغِلَ به يُسَمَّى ذاكرًا اللَّهَ تعالى، فهو ما نُقِل عن سَيِّدِ الطَّائِفتَينِ الجُنَيدِ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه قال: منَ الأعمالِ ما لا يَطَّلِعُ عليه الحَفَظةُ، وهو ذِكرُ اللهِ بالقَلبِ، وما طُوِيَت عليه الضَّمائِرُ منَ الهَيبةِ والتَّعظيمِ، واعتِقادِ الخَوفِ، وإجلالِ أوامِرِه ونَواهيه... الذي اختارَه سادَتُنا النَّقشَبَنْديَّةُ منَ الأذكارِ، الذِّكرُ الخَفيُّ القَلبيُّ، ولهم على ذلك دَلائِلُ منَ الكِتابِ والسُّنَّةِ ونَقولِ العُلماءِ الأئِمَّةِ...
الرُّكنُ الثَّاني: الرَّابِطةُ: وهي أن يستحضِرَ المُريدُ صورةَ شَيخِه الكامِلِ المشهودِ له بالوُصولِ إلى مقامِ الفَناءِ والبقاءِ الأتمَّينِ مُستَمِدًّا من روحانيَّتِه وأنوارِه، وهي أشَدُّ تَأثيرًا منَ الذِّكْرِ في حُصولِ الجَذبةِ الإلهيَّةِ، وتَرَقِّي السَّالكِ إلى مَعارِجِ الكَمالِ!
وحَسْبُنا بُرهانًا على إثباتِ أصلِها شَرعًا ما أورَدَه وليُّ العُلماءِ، وعالمُ الأولياءِ، حَضرةُ سَيِّدِنا ومَولانا خالدٍ -قدَّسَ اللهُ سِرَّه العَزيزَ- في رِسالةٍ خاصَّةٍ أرسَل بها إلى القُسطَنطينيَّةِ -دارِ الخِلافةِ الإسلاميَّةِ- في هذا الشَّأنِ، ونَصُّها بَعدَ الخُطبةِ: بلغَنا أنَّ بَعضَ الغافِلينَ عن أسرارِ حَقِّ اليَقينِ، يَعُدُّونَ الرَّابطةَ بِدعةً في الطَّريقةِ، ويَزعُمونَ أنَّها شَيءٌ ليس له أصلٌ ولا حَقيقةٌ، كَلَّا، إنَّها أصلٌ عَظيمٌ من أصولِ طَريقَتِنا العَليَّةِ النَّقشَبَنْديَّةِ، بل هي أعظَمُ أسبابِ الوُصولِ، بَعدَ التَّمَسُّكِ التَّامِّ بالكِتابِ العَزيزِ وسُنَّةِ الرَّسولِ، ومن جُملةِ ساداتِنا مَن كان يَقتَصِرُ في السُّلوكِ والتَّسليكِ عليها، ومنهم مَن كان يَأمُرُ بغَيرِها أيضًا مَعَ تنصيصِه على أنَّها أقرَبُ الطُّرُقِ إلى الفَناءِ في الشَّيخِ الذي هو مُقدِّمةُ الفِناءِ في اللهِ تعالى. ومنهم مَن أثبتَها بنَصِّ قَولِه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الَّلَه وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة: ١١٩‏]، فقال منَ السَّادةِ الكِبارِ الشَّيخُ عُبَيدُ اللهِ المَشهورُ بخواجة أحرار‏ قُدِّسَ سِرُّه، ما حاصِلُه:
إنَّ الكَينونةَ مَعَ الصَّادِقينَ المَأمورَ بها في كَلامِ رَبِّ العالمينَ: الكَونُ مَعَهم صورةً ومَعنًى. ثمَّ فسَّرَ الكَينونةَ المَعنَويَّةَ بالرَّابطةِ، وهو عِندَ أهلِه مَشهورٌ، وفي كِتابِ الرَّشحات بالتَّفصيلِ مَسطورٌ.
فكأنَّهم لم يَتَصَوَّروا مَعنى الرَّابطةِ اصطِلاحًا، وإلَّا لما وسِعَهم إنكارُها؛ إذ هي في الطَّريقةِ عِبارةٌ عنِ استِمدادِ المُريدِ من روحانيَّةِ شَيخِه الكامِلِ الفاني في اللهِ، وكَثرةِ رِعايةِ صورتِه ليَتَأدَّبَ ويَستَفيضَ منه في الغَيبةِ كالحُضورِ، ويَتِمَّ له باستِحضارِه الحُضورُ والنُّورُ، فيَنزَجِرَ بسَببِها عن سَفاسِفِ الأمورِ.
وهو أمرٌ لا يتَصَوَّرُ جُحودَه إلَّا مَن كَتَبَ اللهُ في جَبهَتِه الخُسرانَ، واتَّسَمَ -والعياذُ باللهِ- تعالى بالمَقتِ والحِرمانِ؛ لأنَّه إن كان مِمَّن يَعتَقِدُ بالأولياءِ فقد صَرَّحوا بحُسنِها وعِظَمِ نَفعِها، بل واتَّفقوا عليها كما لا يَخفى على مَن تَتبَّع كَلماتِهمُ القُدسيَّةَ، واستَنشَقَ نَفحاتِهمُ الأُنسيَّةَ، وإلَّا فلا بُدَّ أن يَعتَقِدَ بكَلامِ أئمَّةِ الشَّرعِ وأساطينِ الأصلِ والفَرعِ؛ فقد قال بها من كُلِّ مَذهَبٍ منَ المَذاهبِ الأربَعةِ أئِمَّةٌ تَصريحًا، وها أنا أعُدُّ بَعضَ ما ذَكَروه مَعَ تَعيينِ الأماكِنِ ليُراجِعَها مَن ليس في قَلبِه مَرَضٌ، ولا يُنكِرَ على الأولياءِ بمُجَرَّدِ اتِّباعِ الهَوى والغَرَضِ!
الرُّكنُ الثَّالِثُ: إغلاقُ البابِ وَقتَ الذِّكرِ: وهو وسيلةٌ عَظيمةٌ لحِفظِ الخاطِر منَ التَّفرِقةِ، وجَمعِ الحَواسِّ كُلِّها، وهو من أهَمِّ الأركانِ عِندَ السَّادةِ الخالديَّةِ النَّقشَبَنْديَّةِ. وسَنَدُهم في ذلك ما ذَكَرَه العارِفُ الشَّعَرانيُّ قُدِّسَ سِرُّه في «النفحات»: رَوى الطَّبَرانيُّ والإمامُ أحمَدُ والبَزَّارُ وغَيرُهم بإسنادٍ حَسَنٍ: ((أنَّ‏ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يَومًا يَجمَعُ مَعَ أصحابِه، فقال: هَل فيكُم غَريبٌ؟ يَعني أهلَ الكِتابِ، قالوا: لا، يا رَسولَ اللهِ! فأمَرَ بغَلقِ البابِ، وقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ارفعوا أيديَكُم، وقولوا: لا إلهَ إلَّا اللهُ، قال شَدَّادُ بنُ أوسٍ: فرَفَعْنا أيديَنا ساعةً، وقُلْنا: لا إلهَ إلَّا اللهُ، ثمَّ قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: اللَّهمَّ إنَّك بَعَثتَني بهذه الكَلِمةِ، وأمَرتَني بها، ووعَدتَني عليها الجَنَّةَ، وإنَّك لا تُخلفُ الميعادَ. ثمَّ قال عليه السَّلامُ: ألَّا فأبشِروا؛ فإنَّ اللهَ قد غَفرَ لكم)) [1134] أخرجه أحمد (17121)، والبزار (2717)، والحاكم (1844) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ شَدَّادِ بنِ أوسٍ وعُبادةَ بنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللهُ عنهما. ضعَّفه الألبانيُّ في ((الترغيب والترهيب)) (924)، وضعَّف إسنادَه شُعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (17121). ، ثمَّ قال: وإنَّما أمرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بغَلقِ البابِ في تَلقينِه جَماعةَ أصحابِه كَما تَقدَّمَ. وقال: ((هل‏ فيكُم غَريبٌ؟))‏ ليُنَبِّهَ على أنَّ طَريقَ القَومِ مَبنيَّةٌ على السِّرِّ، وصَفاءِ الوَقتِ من حُضورِ مَن ليس منهم ولا يُؤمِنُ بطَريقِهم، فرُبَّما استَهزَأ به فمَقتَه اللهُ عَزَّ وجَلَّ) [1135] ((الكواكب الدرية)) (ص: 792، 799، 803، 810). .
ولذا حَكَموا على مَن قال: (الطُّرُقُ الصُّوفيَّةُ لم يَرِدْ بها كِتابٌ ولا سُنَّةٌ) بالكُفرِ، فقالوا: (وإيَّاكَ أن تَقولَ: الطُّرُقُ الصُّوفيَّةُ لم يَأتِ بها كِتابٌ ولا سُنَّةٌ؛ فإنَّه كُفرٌ) [1136] ((الحديقة الندية)) للبغدادي (ص: 31). .
آدابُ الذِّكْرِ الخَفيِّ:
من أصولِ الذِّكْرِ عِندَ النَّقشَبَنْديِّين تركُ الذِّكرِ باللِّسانِ، وتَفضيلُ الذِّكرِ بالقَلبِ بَدَلًا منه؛ فصاحِبُ تَنويرِ القُلوبِ وغَيرُه لا يُعجِبُهم كَثرةُ الأذكارِ اللِّسانيَّةِ والأورادِ الظَّاهريَّةِ [1137] يُنظر: ((تنوير القلوب)) للكردي (ص: 44). .
وقد زَعَموا أنَّ الغُجْدُوانيَّ أخَذَ طَريقةَ الذِّكْرِ منَ الخَضِرِ الذي لقَّنَه الذِّكْرَ العَدَديَّ والذِّكرَ الخَفيَّ، وهو أن يَنغَمِسَ في الماءِ ويَذكُرَ بقَلبِه (لا إلهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسولُ اللهِ) [1138] يُنظر: ((المواهب السرمدية)) للكردي (ص: 77). . وعَلَّقَ النَّقشَبَنْديُّون على هذا الغَوصِ في الماءِ بقَولِهم: (ولعَلَّ الأمرَ بالغَوصِ بالماءِ لحِفظِ النَّفَسِ والاحتياطِ في حَبسِه) [1139] يُنظر: ((البهجة السنية)) للخاني (ص: 53)، ((رشحات عين الحياة)) للهروي (ص: 25)، ((نور الهداية والعرفان)) لصاحب زاده (ص: 3). .
واعتِرافُهم بأنَّ مَصدَرَ طَريقَتِهم في الذِّكْرِ مُستَقًى منَ الخَضِرِ لا من سُنَّةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَنقُضُ قَولَهم إنَّ طَريقَتَهم مَبنيَّةٌ على الكِتابِ والسُّنَّةِ على أصلِها لم يَزيدوا عليها ولم يَنقُصوا منها! فإنَّ هذا الذِّكْرَ الخَفيَّ شَريعةٌ خَضِريَّة لا مُحَمَّديَّةٌ! هذا مَعَ عَدَمِ التَّسليمِ بأنَّه الخَضِرُ عليه السَّلامُ.
إنَّ إبطالَ دَورِ اللِّسانِ في الذِّكرِ بدعةٌ شَنيعةٌ؛ فإنَّ مَجموعَ الأحاديثِ تُبَيِّنُ أنَّ الذِّكْرَ باللِّسانِ لا بُدَّ منه مَعَ حُضورِ القَلبِ كقَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا يَزالُ لِسانُك رَطبًا بذِكرِ اللهِ)) [1140] أخرجه الترمذي (3375)، وابن ماجه (3793) باختلاف يسير، والبيهقي (6764) واللفظ له، من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ بُسرٍ رَضِيَ اللهُ عنه. صحَّحه ابن حبان في ((صحيحه)) (814)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (3375)، وحسَّنه البغوي في ((شرح السنة)) (3/66)، وابن حجر في ((نتائج الأفكار)) (1/39)، وصحَّح إسناده الحاكم في ((المستدرك)) (1822)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (17680).  ولم يَقُلْ: لا يَزالُ لسانُ قَلبِك!
وقد جَعَلوا له آدابًا، فقال خالدٌ البَغداديٌّ النَّقشَبَنْديُّ: (هذه فائِدةٌ في بَيانِ نُبذةٍ من آدابِ الذِّكرِ وغَيرِه عِندَ السَّادةِ السُّنِّيَّةِ قادَتِنا النَّقشَبَنْديَّةِ، قدَّسَ اللهُ أسرارَهمُ العَليَّةَ:
اعلَمْ أنَّ آدابَ الذِّكرِ الأوَّلِ -أعني اسمَ الذَّاتِ بالقَلبِ-:
أن يَجلسَ الذَّاكِرُ على رُكبَتَيه متورِّكًا بعَكسِ تَورُّكِ الصَّلاةِ بأن يُخرِجَ قدَمَ الرِّجلِ اليُمنى من تَحتِ ساقِ الرِّجلِ اليُسرى، ويَعتَمِدَ على وَركِه الأيمَنِ متوضِّئًا مستقبِلًا للقِبلةِ، ويَقولَ بلسانِه: أستَغفِرُ اللهَ، إمَّا خمسًا أو خَمسةَ عَشَرَ أو خمسًا وعِشرينَ، ويُغمِضَ عَينَيه لاصقًا الأسنانَ بالأسنانِ، والشَّفةَ بالشَّفةِ، واللِّسانَ باللَّهاةِ -أعني سَقفَ الفَمِ- موجِّهًا جَميعَ حَواسِّه إلى القَلبِ، مدقِّقًا النَّظَرَ الخَياليَّ بالنُّفوذِ إليه، مُنطَلِقَ النَّفسِ على حالِه.
ثمَّ يُخطِرَ بقَلبِه أنَّه مُذنِبٌ مُقَصِّرٌ غَيرُ قابلٍ لشَيءٍ، خالٍ منَ الأعمالِ الصَّالحةِ بحَيثُ يَيأسُ من آمالِه ويَتَّكِلُ على اللهِ، ويُعَوِّلُ على فضلِه، ثمَّ يُلاحِظُ المَوتَ وأحوالَه والقَبرَ وأهوالَه، وكأنَّ المَوتَ قد دَخَل به الآنَ، وأنَّ هذا آخِرُ أنفاسِه منَ الدُّنيا، ثمَّ يَقرَأَ فاتِحةَ الكِتابِ مَرَّةً والإخلاصَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ بلسانِه، ويُهديَ مِثلَ ثَوابِها إلى حَضرةِ إمامِ الطَّريقةِ وغَوثِ الخَليقةِ ذي الفيضِ الجاري والنُّورِ السَّاري الخَواجةِ بَهاءِ الدِّينِ نَقْشَبَنْد الشَّيخِ مُحَمَّد الأويسيِّ البُخاريِّ قُدِّسَ سِرُّه العَزيزُ، ويَستَمِدَّ بالقَلبِ منه.
ثمَّ يُقَرِّرَ صورةَ حَضرةِ مَولانا الشَّيخِ قُدِّسَ سِرُّه العَزيزُ بَينَ حاجِبَيه -أعني النَّاصيةَ- ويُعَمِّقَ النَّظَرَ من ناصيَتِه إلى ناصيةِ الشَّيخِ قُدِّسَ سِرُّه، ويَستَمِدَّ في القَلبِ منه، وهذا التَّقريرُ والتَّصويرُ يُسَمَّى رابطةً، ثمَّ يَطرَحَ الصُّورةَ بالخَيالِ في وسَطِ قَلبِه ويَدَعَها ويَجمَعَ كُلَّ حَواسِّه إلى القَلبِ ويَتَصَوَّرَ بفراغِ البالِ فيه مَعنى اسمِ الجَلالةِ ومَدلولَ كَلمةِ (اللهِ)، وهو ذاتٌ بلا مِثْل الذي يُفهَمُ منَ الاسمِ الأقدَسِ، ويَجعَلَ قَلبَه مملوءًا بتَذَكُّرِ المَعنى المَدلولِ. وهذا الجَعلُ يُسَمَّى (وقوفًا قلبيًّا)، ولا بُدَّ من وُجودِه في جَميعِ أوقاتِ الذِّكْرِ وفي خارِجِها ما يَتَيَسَّرُ، وهو الرُّكنُ الأتَمُّ للذِّكرِ والمَحَطَّةُ لفائِدَتِه.
ثمَّ مَعَ الوُقوفِ يَقولُ بلسانِ القَلبِ: (اللَّهمَّ أنتَ مَقصودي ورِضاك مَطلوبي)، ثمَّ يَشرَعُ في ذِكرِ اللهِ تعالى بالقَلبِ، لكِن مَعَ الوُقوفِ القَلبيِّ المَذكورِ وتَفريغِ القَلبِ منَ الخَطَراتِ مَهما أمكَنَ وبَينَ كُلِّ مِائةٍ أو أقَلَّ يُكَرِّرُ قَولَه: اللَّهمَّ أنتَ مَقصودي ورِضاك مَطلوبي.
وإذا حَصَلت للذَّاكِرِ غَيبةٌ وذُهولٌ عنِ الدُّنيا وتَعَطَّلت حَواسُّه مَعَ بَقاءِ قَليلِ شُعورٍ بنَفسِه يَترُكُ الذِّكرَ ويَبقى تابعًا لتلك الكَيفيَّةِ مُستَغرِقًا في الوُقوفِ القَلبيِّ منتظِرًا لوارِدِ الوِردِ ومستحضِرًا قَلبَه لنُزولِ الفيضِ؛ إذ قد تَفيضُ عليه تلك المُدَّةَ اليسيرةَ أمورٌ غَزيرةٌ وإن لم يُدرِكْها! ثمَّ إن شاءَ بها بفتحِ عَينَيه ويوظِّفُ لنَفسِه وقتًا قَدْرَ ساعةٍ أو أقَلَّ بَعدَ العَصرِ يَشتَغِلُ فيه بالرَّابطةِ مَعَ الوُقوفِ القَلبيِّ من غَيرِ ذِكرٍ، وإذا ارتسخَ الذِّكرُ بحَيثُ لو تكَلَّف الذَّاكِرُ بإحضارِ الغَيرِ لم يخطُرْ، انتَقَل ذِكرُه إلى الرُّوحِ، وهي لطيفةٌ تَحتَ الثَّديِ الأيمَنِ، ثمَّ إلى السِّرِّ وهو في يَسارِ الصَّدرِ فوقَ القَلبِ، ثمَّ إلى الخَفيِّ وهو في يَمينِه فوقَ الرُّوحِ، ثمَّ إلى الأخفى وهو في وسَطِ الصَّدرِ. وهذه اللَّطائِفُ الخَمسُ من عالمِ الأمرِ الذي خَلقَه اللهُ تعالى بأمرِ كُنْ من غَيرِ مادَّةٍ، ورَكَّبها مَعَ لطائِفِ عالمِ الخَلقِ الذي خَلقَه اللهُ تعالى من مادَّةٍ هي النَّفسُ النَّاطِقةُ والعناصِرُ الأربَعةُ.
ثمَّ إلى هذه النَّفسِ وهي في الدِّماغِ، والعناصِرُ الأربَعةُ تَندَرِجُ فيها، وكُلٌّ من هذه المَحالِّ مَحَلُّ ذِكرٍ على التَّرتيبِ، وكذلك الرُّسوخُ لِما بَعدَ القَلبِ منَ اللَّطائِفِ على التَّرتيبِ المَذكورِ. فإذا ارتسخ الذِّكْرُ في لطيفةِ النَّفسِ حَصَل سُلطانُ الذِّكْرِ، وهو أن يَعُمَّ الذِّكْرُ على جَميعِ بَدَنِ الإنسانِ، بل على جَميعِ الآفاقِ!
وأمَّا الذِّكْرُ الثَّاني المُسَمَّى بالنَّفيِ والإثباتِ بكَلمةِ لا إلهَ إلَّا اللَّهُ، المُلقَّنُ للمُريدِ بَعدَ اللَّطائِفِ، فكَيفيَّةُ آدابِه:
أن يُلصِقَ اللِّسانَ كالأوَّلِ، ويَحبِسَ النَّفَسَ تَحتَ السُّرَّةِ، ويَتَخَيَّلَ منها «لا» لا إلى مُنتَهى البُلوغِ، ومنه «إله» إلى كَتِفِه الأيمَنِ، ومنه «إلَّا اللهُ» إلى القَلبِ الصَّنوبَريِّ الشَّكلِ، وهو المُضغةُ التي في الجانِبِ الأيسَرِ تَحتَ أصغَرِ عَظمٍ من عِظامِ الجَنبِ، ضاربًا عليه، مُنفِذًا إلى قَعرِه بقوَّةٍ يَتَأثَّرُ بحَرارَتِه جَميعُ البَدَنِ ويَنفيَ بشِقِّ النَّفيِ وُجودَ جَميعِ المُحدَثاتِ ويَنظُرَها بنَظَرِ الفناءِ، ويُثبتَ بشَقِّ الإثباتِ ذاتَ الحَقِّ سُبحانَه وتعالى ناظرًا إليه بنَظَرِ البَقاءِ، فيُحيطَ على مَجالِ اللَّطائِفِ ويُلاحِظَ الخَطَّ الحاصِلَ منَ الانتِقالاتِ ومَعناها -أي الكَلمةِ الطَّيِّبةِ- من نَفيِ المَعبوديَّة؛ لأنَّ كُلَّ مَعبودٍ مَقصودٌ ولا عَكسَ. ويَقولَ في آخِرِها بالقَلبِ: «مُحَمَّدٌ رَسولُ اللهِ» ويُريدَ به التَّقَيُّدَ بالاتِّباعِ ويُكَرِّرَها على قدرِ قوَّةِ النَّفسِ، ويُطلقَه منَ الفمِ على الوتَرِ المَعروفِ عِندَهم بالوُقوفِ العَدَديِّ، ويَقولَ بقَلبِه أيضًا قَبلَ إطلاقِ كُلِّ نَفَسٍ: «اللَّهمَّ أنتَ مَقصودي ورِضاك مَطلوبي»، فإذا استَراحَ يَشرَعُ في نَفَسٍ آخَرَ لكِن يُراعي ما بَينَ النَّفسَينِ بأن لا يَغفُلَ فيه بل يبقى التَّخَيُّلُ على حالِه لئَلَّا يَختَلَّ الاستِمرارُ. فإذا انتَهى العَدَدُ إلى أحَدٍ وعِشرينَ تَظهَرُ النَّتيجةُ، وهي النِّسبةُ المَعهودةُ منَ الذُّهولِ والاستِهلاكِ. وإن لم تَظهَرْ فممَّا وقَعَ منَ الإخلالِ في الآدابِ، فليستَأنِفْ، وليُطابِقِ الفِعلُ القَولَ مَضمونَ الذِّكْرِ عملًا واعتقادًا واتباعًا؛ فإنَّ المقصوديَّةَ به فيما سِواه إذا كانت باقيةً أو خِلافَ الاتِّباعِ في شَيءٍ كان ثابتًا في الواقِعِ، لزِمَ الكَذِبُ فليس بصادِقٍ. ولا حَصرَ في العَدَدِ، فمَن يَستَعِدَّ لتَقدُّمِ الجَذبةِ فله الذِّكرُ الأوَّلُ، ومَن يَستَعِدَّ لتَقدُّمِ السُّلوكِ فله الذِّكْرُ الثَّاني، وكِلاهما بالقَلبِ. فإذا جاهَدَ فيه حَقَّ الجِهادِ وانتَفى المَنفيُّ وثَبَتَ المُثبَتُ وظَهَرَتِ النَّتيجةُ، تَصِحُّ له المُراقَبةُ حينَئِذٍ) [1141] ((مكتوبات حضرة مولانا خالد)) لصاحب زاده (ص: 148- 154). .
الرَّابِطةُ عِند النَّقشَبَنْديِّين:
الرَّابطةُ تَعني أن يَستَحضِرَ المُريدُ صورةَ شَيخِه في قَلبه عِندَ الذِّكْرِ. على أساسِ أنَّ الشَّيخَ وسيلةُ المُريدِ الذَّاكِرِ إلى اللهِ يَتَقَرَّبُ به إلى اللهِ زُلفى. وقد عَرَّف خالدٌ البَغداديُّ الرَّابطةَ بأنَّها (عِبارةٌ عنِ استِمدادِ المُريدِ من روحانيَّةِ شَيخِه بكَثرةِ رِعايةِ صورَتِه ليَتَأدَّبَ ويَستَفيضَ منه في الغَيبةِ كالحُضورِ) [1142] ((رسالة في تحقيق الرابطة)) (ص: 3). .
وقالوا: إنَّ الرَّابطةَ تُفيدُ إن كانت مَعَ الإنسانِ الكامِلِ المُتَصَرِّفِ بقوَّةِ الوِلايةِ؛ لأنَّ الإنسانَ الكامِلَ مِرآةُ الحَقِّ سُبحانَه وتعالى، فمَن يَنظُرْ إلى روحانيَّتِه بعَينِ البَصيرةِ يُشاهدِ الحَقَّ فيها [1143] يُنظر: ((البهجة السنية)) للخاني (ص: 43). .
فيُشَدِّدُ النَّقشَبَنْديُّون على مَبدَأِ الرَّابطةِ، ويَعِدونَ به المُريدَ بالوُصولِ إلى اللهِ والفَناءِ فيه، وفيضِ المَعارِفِ والحِكمةِ والاتِّصالِ بسِلسِلةِ مَشايِخِ الطَّريقةِ.
لقد أخَذَ النَّقشَبَنْديُّون يَبحَثونَ للسَّالكِ عن رابطةٍ أخرى باللهِ غَيرِ تلك الرَّابطةِ التي كانت قُرَّةَ عَينِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أعني الصَّلاةَ. والتي كان إذا حِزبه أمرٌ نادى بلالًا: ((أرِحْنا بها يا بلالُ)) [1144] أخرجه من طرقٍ مطوَّلًا: أبو داود (4986)، وأحمد (23154) باختلاف يسير، والطبراني (6/277) (6215) واللفظ له. صحَّحه الوادعي على شرط البخاري في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1484)، وصحَّح إسناده الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (4986)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (4986)، وقال الزيلعي في ((تخريج الكشاف)) (1/63): إسنادُه على شرطِ البُخاريِّ. . فابتَدَعوا الرَّابطةَ. وهذه الرَّابطةُ مَبناها على رَبطِ القَلبِ بغَيرِ اللهِ، أي بالشَّيخِ مَحَبَّةً وطاعةً وخُضوعًا وتَذَلُّلًا. والشَّريعةُ إنَّما طالبَت بالرَّابطةِ أن تَكونَ باللهِ وليس بغَيرِه.
وزَعَموا أنَّ قَلبَ الشَّيخِ مَفتوحٌ إلى عالمِ الغَيبِ، وكُلُّ لحظةٍ يَحصُلُ فيها المَدَدُ منَ اللهِ إنَّما تَكونُ بواسِطةِ الشَّيخِ، بل إذا حَدَثَت وسوسةٌ فعلى المُريدِ أن يَغتَسِلَ بالماءِ البارِدِ ويَدخُلَ خَلوتَه ويَتَخَيَّلَ صورةَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أو صورةَ شَيخِه [1145] يُنظر: ((نور الهداية والعرفان)) لصاحب زاده (ص: 48). !
أمَّا مَشروعيَّتُها عِندَهم فهي مُستَنبَطةٌ من قَولِه تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31]، قالوا: ففي الآيةِ إشارةٌ إلى الرَّابطةِ؛ لأنَّ الاتِّباعَ يَقتَضي رُؤيةَ المَتبوعِ حِسًّا أو تَخَيُّلَه مَعنًى، وهو غَرَضُنا منَ الرَّابطةِ [1146] يُنظر: ((البهجة السنية)) للخاني (ص: 46). .
وقال مُحَمَّد أمين الكُرديُّ: (هذا الأمرُ لا يَجحَدُه إلَّا مَن كَتَبَ اللهُ في جَبهَتِه الخُسرانَ، واتَّسَمَ -والعياذُ باللهِ- تعالى بالمَقتِ والحِرمانِ، أولئِكَ همُ الأخسَرونَ أعمالًا الذينَ ضَلَّ سَعيُهم في الحَياةِ الدُّنيا وهم يَحسَبونَ أنَّهم يُحسِنونَ صُنعًا) [1147] ((تنوير القلوب)) (ص: 518). .
وكَتَبَ مُحَمَّد أسعَد المَعروفُ بصاحِبِ زادَه كِتابًا في الرَّدِّ على فتوى تَقضي ببُطلانِ الرَّابطةِ النَّقشَبَنْديَّةِ، وأنَّها منَ البدَعِ المُنكَرةِ، فقال في بدايَتِها: (ووقَفتُ على التَّاريخِ المُسَمَّى بـ«التَّاج المُكَلَّل» تَأليفُ الفاضِلِ المَشهورِ صِدِّيق حَسَن خان البُخاريّ القِنَّوجي نواب بهوبال، فرَأيتُ فيه سُؤالًا وارِدًا عليه منَ الأديبِ الفاضِلِ السَّيِّدِ نُعمانَ ابنِ الإمامِ الكَبيرِ والحُجَّةِ المُفسِّرِ الشَّهيرِ السَّيِّدِ مَحمودٍ الألوسيِّ مُفتي بَغدادَ، عنِ الرَّابطةِ الشَّريفةِ التي تَستَعمِلُها ساداتُنا الأئِمَّةُ النَّقشَبَنْديَّةُ... ومُلخَّصُ السُّؤالِ: ما قَولكُم في حُكمِ الرَّابطةِ المُستَعمَلةِ عِندَ أصحابِ الطَّريقةِ النَّقشَبَنْديَّةِ... وهل لها أصلٌ منَ السُّنَّةِ والكِتابِ، أم هي اختِراعٌ واجتِهادٌ؟
فأجابَ بما مُلخَّصُه: أمَّا مَسألةُ الرَّابطةِ فلا يَخفى أنَّها منَ البدَعِ المُنكَرةِ، وقد صَرَّحَ بالنَّهيِ عنها الشَّيخُ أحمَد وليُّ اللهِ المُحَدِّثُ الدِّهْلَويُّ، فقال: قالوا: والرُّكنُ الأعظَمُ رَبطُ القَلبِ بالشَّيخِ على وصفِ المَحَبَّةِ والتَّعظيمِ، ومُلاحَظةُ صورَتِه.
قُلتُ: إنَّ للَّهِ تعالى مَظاهرَ كَثيرةً، فما من عابدٍ غَبيًّا كان أو ذَكيًّا إلَّا وقد ظَهَرَ بحِذائِه شَيءٌ صارَ مَعبودًا له في مَرتَبَتِه، ولهذا السِّرِّ نزل الشَّرعُ باستِقبالِ القِبلةِ والاستِواءِ على العَرشِ، وقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ((إذا صَلَّى أحَدُكم فلا يَبصُقْ قِبَلَ وجهِه؛ فإنَّ اللهَ بَينَه وبَينَ قِبلتِه)) [1148] أخرجه البخاري (406)، ومسلم (547) من حَديثِ عَبدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، بلفظ: ((إذا كان أحَدُكُم يُصَلِّي فلا يَبصُقْ قِبَلَ وَجهِه؛ فإنَّ اللهَ قِبَلَ وَجهِه إذا صَلَّى)). وأخرجه البخاري (417)، ومسلم (551) من حَديثِ أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، ولفظُ البُخاريِّ: ((إنَّ أحَدَكُم إذا قامَ في صِلاتِه فإنَّما يُناجي رَبّه -أو رَبُّه بَينَه وبَينَ قِبلتِه- فلا يَبزُقَنَّ في قِبلتِه)). . وسَأل جاريةً سَوداءَ فقال: ((أينَ اللهُ؟)) فأشارَت إلى السَّماءِ [1149] أخرجه أبو داود (3284)، وأحمد (7906) من حديثِ أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. ضعَّفه البوصيري في ((إتحاف الخيرة المهرة)) (1/100)، والألباني في ((ضعيف سنن أبي داود)) (3284)، وضعَّف إسنادَه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (7906). وحديث الجارية أخرجه مسلم (537) من حَديثِ مُعاويةَ بنِ الحَكَمِ رَضِيَ اللهُ عنه، بلفظ: ((أينَ اللهُ؟ قالت: في السَّماءِ)). . فلا عليك أن لا تَتَوجَّهَ إلَّا إلى اللهِ، ولا تَربُطْ قَلبَك إلَّا به ولو بالتَّوجُّهِ إلى العَرشِ... أو إلى القِبلةِ، فيَكونُ كالمُراقَبةِ لهذا الحَديثِ.
وقد أفادَ الشَّيخُ العَلَّامةُ مُحَمَّد إسماعيل الدِّهْلَويُّ في كِتابِ «الصِّراط المُستَقيم» أنَّ هذه الرَّابطةَ بمَكانٍ منَ الشِّركِ لا يَخفى. وأقولُ: ما لنا ولقَلبِنا ورَبطِه بالشَّيخِ كائِنًا مَن كان. وإنَّما تُربَطُ قُلوبُ الأنامِ ببارِئِها) [1150] يُنظر: ((نور الهداية والعرفان)) (ص: 3). .
ثمَّ ذَكَرَ مُحَمَّد أسعَد أنَّه يُبَرهنُ على صِحَّةِ الرَّابطةِ بالكِتابِ والسُّنَّةِ والإجماعِ والقياسِ، لكِنَّه أتى بأدِلَّةٍ واهيةٍ، مِثلُ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يَخلو بغارِ حِراءٍ. وتَجاهَل أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَعدَ أن جاءَه الحَقُّ لم يَعُدْ يَخلو بغارِ حِراءٍ. وأنَّ قَولَه تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران: 31] دَليلٌ على مَشروعيَّةِ الرَّابطةِ، وذَكَرَ ما عليه دينُ الفلاسِفةِ، كَمَبدَأِ الاستِفاضةِ من أرواحِ الأمواتِ الفيَّاضةِ، واستِحضارِ روحانيَّاتِ أمواتِ سِلسِلةِ الخواجكانِ... إلخ [1151] يُنظر: ((نور الهداية والعرفان)) (ص: 5، 23، 29). .
ولمَّا أحَسَّ بضَعفِ أدِلَّتِه قال مُتَحَكِّمًا: (على أنَّه لا يَجِبُ علينا الاستِدلالُ على الرَّابطةِ الشَّريفةِ بدَليلٍ؛ لأنَّ دَليلَ مَن قَلَّدْناه منَ العُلماءِ العامِلينَ والأولياءِ العارِفينَ كافٍ وافٍ بالمَقصودِ) [1152] ((نور الهداية والعرفان)) (ص: 37). .
وذَكَرَ في مَوضِعٍ آخَرَ من كِتابِه أنَّه حتَّى لوِ افتَرَضْنا بأنَّ عَمَلَ الرَّابطةِ الشَّريفةِ لا دَليلَ عليه، فإنَّما استَعمَلْناه لِما حَصَل لنا منَ الفائِدةِ بالتَّجرِبةِ، قال: (فالإنكارُ علينا من أيِّ وجهٍ؟ وما دَليلُه؟) [1153] ((نور الهداية والعرفان)) (ص: 64). .
خَتمُ الخواجكانِ:
قال عبدُ المجيدِ الخانيُّ: (اعلَمْ أنَّ لهذا الخَتمِ المُبارَكِ شَرطَينِ:
الأوَّلُ: أن لا يَحضُرَ فيه أمَرَدُ ولا أجنَبيٌّ ليس داخِلًا في طَريقِنا؛ لئَلَّا يُخِلُّ نِظامَه.
والثَّاني: أن يُغلِقَ البابَ، وله آدابٌ منها: تَغميضُ العَينَينِ والاستِغفارُ خَمسًا وعِشرينَ مَرَّةً أوَّلَه، والجُلوسُ مُتَورِّكًا عَكسَ تَورُّكِ الصَّلاةِ كَما تَقدَّمَ، ومُلاحَظةُ الرَّابطةِ الشَّريفةِ الآتي بَيانُها.
وأركانُه: قِراءةُ الفاتِحةِ سَبعَ مَرَّاتٍ، ثمَّ الصَّلاةُ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِائةَ مَرَّةٍ، ثمَّ قِراءةُ سورةِ ألَمْ نَشرَحْ تِسعًا وسَبعينَ مَرَّةً، ثمَّ سورةِ الإخلاصِ ألفَ مَرَّةٍ وواحِدةً، ثمَّ الفاتِحةِ أيضًا سَبعًا، ثمَّ الصَّلاةُ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِائةً أيضًا، ثمَّ يُهدي ثَوابَ ذلك إلى صَحيفةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وإلى آلِه وأصحابِه والأولياءِ والمَشايِخِ الكِرامِ، والأحسَنُ أن يَدعوَ بالدُّعاءِ المَنقولِ عن حَضرةِ شَيخِنا ومَولانا خالدٍ قدَّسَ اللهُ سِرَّه، وهو:
«بسمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحيمِ:
اللَّهمَّ يا حَيُّ يا قَيُّومُ، يا بَديعَ السَّمَواتِ والأرضِ. يا مالِكَ المُلكِ يا ذا الجَلالِ والإكرامِ. صَلِّ على سَيِّدِنا ومَولانا مُحَمَّدٍ وعلى آلِه وصَحبِه أفضَلَ صَلواتِك عَدَدَ مَعلوماتِك، وبارِكْ وسَلِّمْ كذلك، وأوصِلْ مِثلَ ثَوابِ ما قَرَأناه وما قَرَأه أحَدٌ منَ المُؤمنينَ والمُؤمناتِ والمُنتَسِبينَ إلى الطَّريقةِ النَّقشَبَنْديَّةِ خُصوصًا في آفاقِ العالمِ ومَشارِقِ الأرضِ ومَغارِبِها بَعدَ القَبولِ إلى روحِ كُلِّ مَن صارَ سَبَبًا لقِراءَتِه وكُلٍّ منَ الحُضَّارِ وآبائِهم وأمَّهاتِهم، وكُلِّ مُؤمنٍ ومُؤمنةٍ وكُلِّ وليٍّ ووليَّةٍ، وكُلٍّ من ساداتِ السِّلسِلةِ النَّقشَبَنْديَّةِ والقادِريَّةِ والسَّهرَوَرديَّةِ والكبرويَّةِ والجشتيَّةِ، وكُلٍّ من آباءِ كُلٍّ وأمَّهاتِه ومَشايِخِه وخُلفائِه ومُريديه ومَنسوبيه ومحسوبيه المُؤمنينَ والمُؤمناتِ إلى يَومِ الدِّينِ، وثَوابًا مِثلَ أضعافِ ذلك كَما تُحِبُّ وتَرضى إلى ساحةِ سَيِّدِ المُرسَلينَ وخاتَمِ النَّبيِّينَ سَيِّدِنا ومَولانا مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عليه وعلى آلِه وصَحبِه وسَلَّمَ، وإلى روحِ كُلٍّ مِن آلِه وأولادِه وأزواجِه وأصحابِه وإخوانِه النَّبيِّينَ والصِّدِّيقينَ والشُّهَداءِ والصَّالحينَ وآلِ كُلٍّ أجمَعينَ، واحشُرْنا مَعَهم بفَضلِك آمينَ برَحمَتِك يا أرحَمَ الرَّاحِمينَ، وصَلِّ وسَلِّمْ على سَيِّدِنا ومَولانا مُحَمَّدٍ وعلى آلهِ وصَحبِه أبَدَ الآبدينَ في كُلِّ لحظةٍ وحينٍ، والحَمدُ للَّهِ رَبِّ العالمينَ». ثمَّ يَقرَأُ هو أو أحَدُ الحاضِرينَ ما تَيَسَّرَ منَ القُرآنِ، ثمَّ إذا أرادَ الانصِرافَ يَقولُ هو أو أحَدُهم هذه الصِّيغةَ: «على أشرَفِ العالمينَ سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ صَلواتٌ» ثَلاثًا، وهي كالإذنِ بالانصِرافِ. وإذا أرادَ أن يَتَوجَّهَ لهم فقَبلَ أن تُقالَ تلك الصِّيغةُ يَقرَأُ الفاتِحةَ الشَّريفةَ إلى روحانيَّةِ السَّاداتِ، ويستَمِدُّ منهم ثمَّ يَتَوجَّهُ للحاضِرينَ على الهَيئةِ المَعروفةِ عِندَهم، ثمَّ يَقرَأُ الفاتِحةَ كذلك أيضًا، ثمَّ ما تَيَسَّرَ منَ القُرآنِ، ثمَّ تُقالُ هذه الصِّيغةُ ويَمضي كُلٌّ لشَأنِه... وقد أبدى سَيِّدي الوالدُ الماجِدُ أيَّدَه اللهُ تعالى حِكمةً لتَسميَتِه خَتمًا: أنَّ السَّاداتِ كانوا إذا اجتَمَعَ المُريدونَ عِندَهم وأحَبَّ الشَّيخُ الانصِرافَ خَتم مَجلسَه بهذا الذِّكْرِ، وعليه فالتَّركيبُ على حَذفِ مُضافٍ، أي: خَتمُ مَجلسِ المَشايِخِ.
خَتمُ الإمامِ الرَّبَّانيِّ: أعمالُ هذا الخَتمِ المُبارَكِ عَينُ أعمالِ خَتمِ الخواجكانِ المَذكورِ شَرطًا وأدَبًا ورُكنًا ودُعاءً غَيرَ أنَّه يَقولُ خَمسَمِائةِ مَرَّةٍ: لا حَولَ ولا قوَّةَ إلَّا باللهِ عِوَضَ قِراءةِ ألم نَشرَحْ والإخلاصِ. والأوَّلُ يَعني خَتمَ الخواجكان للكَثيرينَ أَولى، وهو المَنسوبُ لسَيِّدِنا الشَّيخِ عَبدِ الخالِقِ الغُجْدُوانيِّ قدَّسَ اللهُ سِرَّه) [1154] ((السعادة الأبدية)) (ص: 15). .
وقد يُصابُ مَن لم يَحصُلْ له الاتِّصالُ بسِلسِلةِ الطَّريقةِ عِندَ ذِكرِ خَتمِ الخواجكانِ بجُنونٍ وصَرَعٍ. قال الهَرَويُّ: (حَصَل لي اضطِرابٌ قَويٌّ لعَدَمِ حُصولِ نِسبةِ الخواجكانِ قدَّسَ اللهُ أرواحَهم، فكُنتُ أضرِبُ رَأسي على الأرضِ في اللَّيالي المُظلِمةِ، وأخرُجُ في النَّهارِ إلى الصَّحراءِ أبكي فيها) [1155] ((رشحات عين الحياة)) (ص: 147). .

انظر أيضا: