موسوعة الفرق

المَطلبُ السَّادِسُ: الطَّريقةُ الرِّفاعيَّةُ والتَّشَيُّعُ


تَلتَقي الطَّريقةُ الرِّفاعيَّةُ مَعَ التَّشَيُّعِ في أمورٍ كَثيرةٍ، من أهَمِّها ما يَلي:
1- جَعلُ أحمَدَ الرِّفاعيِّ في المَنزِلةِ بَعدَ الأئِمَّةِ الاثنَي عَشَرَ مُباشَرةً:
بالرَّغمِ من أنَّ الرِّفاعيَّةَ يَنسُبونَ إمامَهم أحمَدَ الرِّفاعيَّ إلى أنَّه من أولادِ إبراهيمَ بنِ موسى الكاظِمِ بنِ جَعفَرٍ الصَّادِقِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ الباقِرِ بنِ زَينِ العابدينَ عَليِّ بنِ الحُسَينِ بنِ عَليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه [757] ((الطريقة الرفاعية)) لأبي الهدى الصيادي (ص: 129). ، إلَّا أنَّ الغَريبَ حَقًّا أنَّهم يَجعَلونَ مَنزِلتَه بَعدَ مَنزِلةِ الأئِمَّةِ الاثنَي عَشَرَ مُباشَرةً، وهذا لا شَكَّ مَبنيٌّ على قَولِ الإماميَّةِ في أنَّ الأئِمَّةَ الاثنَي عَشَرَ هم وُرَّاثُ الدِّينِ، وأنَّ إمامَتَهم بالنَّصِّ، وجَعْل أحمَدَ الرِّفاعيِّ آتيًا في المَنزِلةِ بَعدَ الإمامِ الثَّاني عَشَرَ الذي يَزعُمُ الشِّيعةُ أنَّه ابنُ سَنَتَينِ أو ثَلاثٍ أو خَمسٍ على خِلافٍ بَينَهم وأنَّه دَخَل السِّردابَ في سامَرَّاءَ سَنةَ 206هـ وأنَّه مَهديُّ آخِرِ الزَّمانِ، وأنَّه سَيَخرُجُ ليَملأَ الدُّنيا عَدلًا. لا شَكَّ أنَّ قَولَ الرِّفاعيَّةِ في أحمَدَ الرِّفاعيِّ اعتِرافٌ منهم بهذه العَقيدةِ التي يَعتَقِدُ أهلُ السُّنَّةِ أنَّها منَ المُفتَرَياتِ والمَكذوباتِ، وأنَّ الحَسَنَ العَسكَريَّ لم يُنجِبْ أحدًا، وأنَّ هذا المَهديَّ لا وُجودَ له.
يَقولُ الأستاذُ مُحَمَّد فهد الشَّقفة صاحِبُ كِتابِ (التَّصَوُّفُ بَينَ الحَقِّ والخَلقِ): (لدى تَصَفُّحي مَواضيعَ كِتابِ «بوارِقُ الحَقائِقِ» للرَّوَّاسِ، وجَدتُ نِقاطًا تَحتاجُ إلى بَيانٍ شافٍ -إن كان لها بَيانٌ شافٍ-... وقد عَلَّقتُعليه بمُلاحَظاتٍ). ثمَّ ذَكَرَ المُؤَلِّفُ من هذه المُلاحَظاتِ ما يلي:
الملاحَظةُ الأولى: ذَكَر ناشِرُ هذا الكِتابِ ومُحَقِّقُه ناقلًا عن كِتابِ (رَوضةُ العِرفانِ) لمُؤَلِّفِه أبي الهدى الصَّيَّاديِّ: (الأئِمَّةُ الاثنا عَشَرَ رَضيَ اللهُ تعالى عنهم أئِمَّةُ آلِ بَيتِ الرَّسولِ صَلَّى اللهُ تعالى عليه وسَلَّمَ، تَشمَلُ إمامَتُهم كثيرًا منَ المَعاني اختَلف فيها الفِرَقُ... وأشرَفُ المَذاهِبِ فيهم مَذهَبُ أهلِ الحَقِّ من رِجالِ اللهِ العارِفينَ؛ فإنَّهم يَقولونَ: إنَّ الأئِمَّةَ الاثنَي عَشَرَ هم أئِمَّةُ العِترةِ، فكُلُّ واحِدٍ منهم إمامٌ لآلٍ في زَمانِه، وصاحِبُ مَرتَبةِ الغَوثيَّةِ المُعَبَّرِ عنها بالقُطبيَّةِ الكُبرى، وهم:
1- سَيِّدُنا أميرُ المُؤمنينَ «عَليُّ بنُ أبي طالبٍ» كَرَّم اللهُ وَجهَه. 2- والإمامُ الجَليلُ ولدُه أبو مُحَمَّدٍ «الحَسَنُ». 3- والإمامُ الشَّهيدُ «الحُسَينُ». 4- والإمامُ زَينُ العابدينَ «عَليٌّ». 5- والإمامُ «مُحَمَّدٌ الباقِرُ». 6- والإمامُ «جَعفَرٌ الصَّادِقُ». 7- والإمامُ «موسى الكاظِمُ». 8- والإمامُ «عَليٌّ الرِّضا». 9- والإمامُ مُحَمَّدٌ «الجَوادُ». 10- والإمامُ«عَليٌّ الهادي». 11- والإمامُ «الحَسَنُ العَسكَريُّ». 12- والإمامُ «مُحَمَّدٌ المَهديُّ» المُنتَظَرُ الحُجَّةُ. رَضِيَ اللهُ عنهم جميعًا) [758] يُنظر: ((بوارق الحقائق)) (ص: 141، 142). .
الملاحَظةُ الثَّانيةُ: ذَكَرَ أيضًا عن (رَوضةِ العِرفانِ) بَعدَ ما تَقدَّم تَحتَ عُنوانِ (تُحفة): أنَّ بَعضَ الأجِلَّاء رَأى الرَّسولَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في المَنامِ وسَأله عنِ الإمامِ السَّيِّدِ أحمَدَ الرِّفاعيِّ رَضِيَ اللهُ عنه، فقال له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: هو ثالثَ عَشَرَ أئِمَّةِ الهدى من أهلِ بَيتي [759] يُنظر: ((بوارق الحقائق)) (ص: 142). .
الملاحَظةُ الثَّالِثةُ: ذَكَر الرَّوَّاسُ أنَّ الرَّسولَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ قال له: (تَمَسَّكْ بولدي «أحمَدَ الرِّفاعيِّ» تَصِلْ إلى اللهِ؛ فهو سَيِّدُ أولياءِ أمَّتي بَعدَ أولياءِ القُرونِ الثَّلاثةِ، وأعظَمُهم مَنزِلةً، ولا يَجيءُ مِثلُه إلى يَومِ القيامةِ غَيرُ سَمِيِّك «المَهديِّ» ابنِ العَسكَريِّ) [760] يُنظر: ((بوارق الحقائق)) (ص: 212). ويُنظر: ((التصوف بين الحق والخلق)) لشقفة (ص: 196). .
وهذه المُلاحَظاتُ التي أورَدَها مُحَمَّد فهد الشَّقفة نقلًا من كِتابِ (بوارِقُ الحَقائِقِ) للرَّوَّاسِ الرِّفاعيِّ لا تَحتاجُ إلى مَزيدِ شَرحٍ وإيضاحٍ أنَّ العَقيدةَ الرِّفاعيَّةَ تَأثَّرَت بالعَقيدةِ الشِّيعيَّةِ الإماميَّةِ حَولَ الأئِمَّةِ عمومًا والإمامِ الغائِبِ خُصوصًا. وإن كان الصَّيَّاديَّ قد زَعَمَ تارةً أنَّ أحمَدَ الرِّفاعيَّ يَأتي في المَنزِلةِ بَعد المَهديِّ الغائِب، وتارةً يَجعَلُه مساويًا له.
2- إسنادُ الطَّريقةِ الرِّفاعيَّةِ عنِ الإمامِ الغائِبِ مَهديِّ الشِّيعةِ المُنتَظَرِ:
جَعَل مُحَمَّدٌ الصَّيَّاديُّ الرِّفاعيُّ-الذي يُسَمُّونَه مُجَدِّدَ الطَّريقةِ الرِّفاعيَّةِ، والرِّفاعيَّ الثَّانيَ- أحَدَ أسانيدِه المَزعومةِ في الطَّريقةِ إلى المَهديِّ الغائِبِ مُنتَظَرَ الشِّيعةِ؛ حَيثُ قال: (لي أربَعةُ أسانيدَ في المُصافَحةِ؛ الأوَّل: عنِ ابنِ عَمِّي السَّيِّدِ إبراهيمَ الرِّفاعيِّ المُفتي وسَنَدُه في المُصافَحةِ سَنَدُه في الإجازةِ إلى الإمامِ الأكبَرِ سُلطانِ الأولياءِ مَولانا السَّيِّدِ أحمَدَ الكَبيرِ الرِّفاعيِّ رَضِيَ اللهُ عنه، وهو صافَحَ جَدَّه يَعني به النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَومَ مَدَّ اليَدَ، والقِصَّةُ أشهَرُ من أن تُذكَرَ. والثَّاني: عنِ ابنِ عَمِّي وشَيخي السَّيِّدِ عبدِ اللهِ الرَّاوي الرِّفاعيِّ، وسَنَدُه أيضًا سَنَدُ إجازَتِه، وهو يَتَّصِلُ بالإمامِ الكَبيرِ الرِّفاعيِّ رَضِيَ اللهُ عنه وعنَّا به، وهو قد صافحَ جَدَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ. والثَّالثُ: عن حُجَّةِ اللهِ الإمامِ المَهديِّابنِ الإمامِ العَسكَريِّ رِضوانُ اللَّهِ وسَلامُه عليهما، في طَيبةَ الطَّيِّبةِ تُجاهَ المَرقَدِ الأشرَفِ المُصطَفَويِّ، وقال: صافحتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ودَعا لي بخَيرٍ. قال شَيخُنا رَضِيَ اللهُ عنه: ثمَّ دَعا لي الإمامُ المَهديُّ رِضوانُ اللَّهِ عليه بخَيرٍ. قال: والرَّابعُ: عنِ الخَضِرِ عليه السَّلامُ صافحتُه سبعًا وثَلاثينَ مَرَّةً، آخِرُ مَرَّةٍ منها في مَقامِ الشَّيخِ مَعروفٍ الكَرخيِّ رَضِيَ اللهُ عنه ببَغدادَ عَصرَ يَومِ جُمعةٍ، فقال: صافحتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقال لي: صافحَت كَفِّي هذه سُرادِقاتِ عَرشِ رَبِّي عَزَّ وجَلَّ) [761] ((المجموعة النادرة)) (ص: 230، 231). !
وهذا اعتِرافٌ صَريحٌ بعَقيدةِ الشِّيعةِ في الأئِمَّةِ الاثنَي عَشَرَ، وبالإمامِ الغائِبِ المَزعومِ، فأيُّ صِلةٍ أكبَرُ من هذا بَينَ الطَّريقةِ الرِّفاعيَّةِ والتَّشَيُّع؟!
3- وَحدةُ الشِّعارِ بَينَ الرِّفاعيَّةِ والشِّيعةِ:
تَلتَقي الطَّريقةُ الرِّفاعيَّةُ أيضًا في شِعارٍ واحِدٍ مَعَ التَّشَيُّعِ، وهو السَّوادُ، ولُبسُ العِمامةِ السَّوداءِ.
قال مُحَمَّد مَهدي الصَّيَّاديُّ الرِّفاعيُّ المَعروفُ بالرَّوَّاسِ في كِتابِ (فَذلَكةُ الحَقيقةِ في أحكامِ الطَّريقةِ): (المادَّةُ التَّاسِعةَ عَشرةَ في المِائةِ الثَّالثةِ: لُبسُ العِمامةِ السَّوداءِ، ولُبسُ العِمامةِ البَيضاءِ وكِلاهما سُنَّةٌ من سُنَنِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ ولهذا كان زيُّ إمامِنا في طَريقَتِنا السَّيِّدِ أحمَدَ الرِّفاعيِّ -رَضِيَ اللهُ عنه وعنَّا به- العِمامةَ السَّوداءَ، فهي خِرقتُه المُبارَكةُ) [762] ((فذلكة الطريقة في أحكام الطريقة)) ملحقٌ بُكتب، منها: ((الطريقة الرفاعية)) لأبي الهدى الصيادي (ص: 126). .
فاختيارُ اللَّونِ الأسودِ ليَكونَ الخِرقةَ والشِّعارَ لا شَكَّ أنَّه تَوافُقٌ ظاهرٌ آخَرُ مَعَ الشِّيعةِ الذينَ جَعَلوا هذا اللَّونَ شعارًا لهم ولبَعضِ عَمائِمِهم.
4- الخَلوةُ الأُسبوعيَّةُ:
من شَعائِرِ الطَّريقةِ الرِّفاعيَّةِ الخاصَّةِ الخَلوةُ الأسبوعيَّةُ في كُلِّ عامٍ، وابتِداءُ دُخولِها في اليَومِ الثَّاني من عاشوراءَ يَعني الحاديَ عَشَرَ من مُحرَّمٍ، وقد جَعَلوها شرطًا لكُلِّ مَنِ انتَسَبَ إلى هذه الطَّريقةِ، وطَعامُها خالٍ مَن كُلِّ ذي رُوحٍ [763] يُنظر: ((الطريقة الرفاعية)) لأبي الهدى الصيادي (ص: 115). .
ولا شَكَّ أنَّ هذا التَّوقيتَ السَّنَويَّ ليس اختيارُه عَبَثًا؛ لأنَّه يَأتي مُباشَرةً بَعدَ الشَّعائِرِ الخاصَّةِ للشِّيعةِ بعاشوراءَ.
5- مَشاهِدُ الأئِمَّةِ ومَقابِرُهم عِندَ الفريقَينِ:
يوجَدُ التَّوافُقُ الرِّفاعيُّ الشِّيعيُّ في شَدِّ الرِّحالِ إلى مَقابرِ الأئِمَّةِ؛ وأخذِ العُلومِ منهم، والالتِقاءِ بهم؛ حَيثُ يُؤمنونَ بأنَّهم يَخرُجونَ من قُبورِهم مَتى شاؤوا لقَضاءِ حَوائِجِ المُستَغيثينَ بهم!
وقد كان كِتابُ (بوارِقُ الحَقائِقِ) للمَهديِّ الرَّوَّاسِ الرِّفاعيِّ من أقرَبِ الكُتُبِ الرِّفاعيَّةِ الدَّاعيةِ إلى التَّشَيُّعِ؛ حَيثُ سطَّرَ فيه تَنَقُّلاتِه الكَثيرةَ بَينَ قُبورِ أئِمَّةِ أهلِ البَيتِ، وذَكرَ أنَّهم كانوا يَخرُجونَ من قُبورِهم واحدًا واحدًا أمامَه، بل خَرَجَ له الأنبياءُ وأعطَوه عُلومَ الجَفرِ وغَيرَها!
وقد جاءَ فيه وصفُ قَبرِ أحمَدَ الصَّيَّادِ بأنَّه: زَيتونةٌ لا شَرقيَّةٌ ولا غَربيَّةٌ (بَتُوليَّةٌ فاطِميَّةٌ سِبطيَّةٌ مُحَمَّديَّةٌ عابِديَّةٌ باقِريَّةٌ جَعفَريَّةٌ كاظِميَّةٌ مُرتضَويَّةٌ أحمَديَّةٌ) [764] ((بوارق الحقائق)) (ص: 56، 57). .
وقد دَفَعَ الغُلوُّ بالصَّيَّاديِّ إلى أنِ ادَّعى على السَّلفِ الصَّالحِ أنَّهمُ اتَّخَذوا مَقابِرَ أهلِ البَيتِ والتَّوجُّهَ إليهم والتَّوسُّلَ بجاهِهم إلى اللهِ: ذَريعةً لقَضاءِ حَوائِجِهم! وأنَّ النَّاسَ قد جَرَّبوا في المَشرِقِ والمَغرِبِ مَقابِرَ أهلِ البَيتِ فوجَدوها بابًا لدَفعِ الأكدارِ، وسُلَّمًا لبُلوغِ الأوطارِ. ثمَّ أنشَأ يَقولُ:
جِئتُ بطَيبةَ والغُرى وكَرْبَلاء
والطُّوسِ والزَّوْرا وسامَرَّاء
ما زُرتُهم في حاجةٍ إلَّا انقَضَت
وتَبَدَّل الضَّرَّاءُ بالسَّرَّاءِ [765] ((قلادة الجواهر)) (ص: 439). .
والشِّيعةُ كذلك يُقدِّسونَ قُبورَ أئِمَّتِهم، ويَجِدونَ عِندَها منَ الخُشوعِ والرِّقَّةِ ما لا يَجِدونَه في المَساجِدِ والصَّلواتِ. ويَعتَبرونَها بابًا لقَضاءِ الحاجاتِ وكَشفِ الكُرُباتِ؛ فإنَّهم يَزعُمونَ أنَّ أئِمَّتَهم قائِمونَ بمَصالحِ العِبادِ وهم في قُبورِهم [766] يُنظر: فرقة الشيعة من هذه الموسوعة. !
ولا يُستَغرَبُ بَعدَ ذلك أن يُسَطَّرَ في تَرجَمةِ أبي الهدى الصَّيَّاديِّ الرِّفاعيِّ بَعدَ مَوتِه: (قامَ السَّيِّدُ أبو الهدى رَحِمَه اللهُ مُدَّةَ حَيَّاتِه الكَريمةِ بأعمالٍ جَليلةٍ نافِعةٍ، ومَآثِرَ حَميدةٍ طَيِّبةٍ، تبقى شافِعةً له عِندَ رَبِّه يَومَ اللِّقاءِ، وأعمالُه كانت مُنصَبَّةً على تَعميرِ الأضرِحةِ لآلِ البَيتِ الكِرامِ) [767] ((المجموعة النادرة)) (ص: 37، 38). .
6- مَراتِبُ الأولياءِ ومَراتِبُ الأئِمَّةِ:
تَقسيمُ الأئِمَّةِ إلى أقطابٍ وأبدالٍ وأوتادٍ وأنجابٍ وأغواثٍ؛ فإنَّه نَظيرُ تَقسيمِ الباطِنيَّةِ للأئِمَّةِ إلى النَّاطِقِ والتَّالي والأساسِ والسَّابقِ، ولكُلٍّ وظيفتُه في الكَونِ. ورُبَّما أخَذَ الصُّوفيَّةُ فِكرةَ النُّقَباءِ الاثنَي عَشَرَ منَ الشِّيعةِ الإسماعيليَّةِ، وكذلك فِكرةُ أنَّهم لا يَزيدونَ ولا يَنقُصونَ [768] يُنظر: ((الفتوحات المكية)) لابن عربي (2/ 9). .
وكذلك يَتَوافقُ كُلٌّ منَ الفريقَينِ في استِخدامِ ألقابٍ مُخَصَّصةٍ للأئِمَّةِ، مِثلُ لَفظِ: (صاحِبِ الزَّمانِ).
قال الصَّيَّاديُّ: (ورَضِيَ اللهُ عن الإمامَينِ والسَّبعةِ الأقطابِ وعنِ الأبدالِ والأنجابِ والأوتادِ والأفرادِ القائِمينَ بمَصالحِ العِبادِ) [769] ((القواعد المرعية)) (ص: 18، 19)، ((المعارف المحمدية)) (ص: 103)، ((قلادة الجواهر)) (ص: 344) جميعها لأبي الهدى الصيادي. .
ويَدعو الصَّيَّاديُّ اللَّهُ أن يُعطفَ عليه قَلبَ الأئِمَّةِ ليَنالَ منهم حاجَتَه، ويَدفعَ بهم كَربَه قائلًا: (ونَسألُه تعالى أن يُعطفَ عَلينا قَلبَ «صاحِبِ الزَّمانِ» وحاشيَتِه الكِرامِ الأعيانِ، جَعَلْناهم وسيلَتَنا إلى اللهِ، أخَذْناهم دِرعًا لرَدِّ كُلِّ بلاءٍ، ودَفعِ كُلِّ قَضاءٍ، قَبِلْناهم بابًا لنَيلِ كُلِّ خَيرٍ) [770] ((القواعد المرعية)) (ص: 19). ويُنظر: ((روضة الناظرين)) للوتري (ص: 95، 136). .
وفي مَوضِعٍ آخَرَ يَطلُبُ منَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يَأمُرَ صاحِبَ الزَّمانِ وآلَه أن يُساعِدوه في قَضاءِ حَوائِجِ دينِه ودُنياه [771] يُنظر: ((قلادة الجواهر)) (ص: 392، 393). !
7- تعظيمُ كِتابِ (الجَفرِ) الشِّيعيِّ:
يُؤمنُ الرِّفاعيَّةُ بكِتابِ (الجَفرِ) [772] يُنظر الكلامُ عليه في فِرقةِ الشِّيعةِ. الذي تُعَظِّمُه الشِّيعةُ وتُقدِّسُه وتَزعُمُ أنَّه وِعاءٌ فيه عِلمُ النَّبيِّينَ والوصيِّينَ وعُلماءِ أمَّةِ بَني إسرائيلَ، فيه عِلمُ ما كان وما يَكونُ مُفصَّلًا (شَيئًا بشَيءٍ) إلى يَومِ القيامةِ [773] يُنظر: ((بصائر الدرجات)) للصفار 3)/180)، ((الكافي)) للكليني (1/239). .
والمَهديُّ الرَّوَّاسُ منَ الرِّفاعيَّةِ يُصَرِّحُ بأنَّ الجَفرَ عِلمٌ صانَه اللَّهُ تعالى بآلِ البَيتِ النَّبَويِّ وخَصَّ به الأئِمَّةَ ووُرَّاثَ الأئِمَّةِ منَ الأغواثِ والأقطابِ والأنجابِ، وفيه أسرارٌ عَظيمةٌ ممَّا يَتَعَلَّقُ بكُلِّ وارِثٍ منهم، وهو عِبارةٌ عَمَّا يُحدِثُه فيهم، كَخِلافةِ أميرِ المُؤمنينَ عَليٍّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وولَدِه الحَسَنِ السِّبطِ الهُمامِ، وشِبلِه المِقدامِ الحُسَينِ، وما سيَجري في عَهدِ المَهديِّ سَلامُ اللَّهِ عليه ورِضوانُه، وهو سِرٌّ خاصٌّ بهم لا يَتَعَلَّقُ بغَيرِهم [774] يُنظر: ((بوارق الحقائق)) (ص: 284، 285). .
وهنا يَبرُزُ خَطُّ التَّشَيُّعِ بوُضوحٍ؛ فإنَّ (الجَفرَ) ذَكَرَ إمامةَ عَليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه ولم يَجعَلْها تاليةً لإمامةِ أبي بكرٍ وعُمَرَ. وإنَّما جَعَلَها أوَّلَ إمامةٍ بَعدَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ومن ثمَّ يَكونُ إقرارُ ذلك إقرارًا لمَذهَبِ الشِّيعةِ في الإمامةِ.
ولقد كان للرَّوَّاسِ نَصيبٌ من هذا الجَفرِ، فزَعَمَ أنَّه لمَّا اجتَمَعَ بقَبرِ أحمَدَ الصَّيَّادِ الرِّفاعيِّ [775]يلاحَظُ استعمالُ كَلِمةِ (اجتمع)؛ لأنَّ الأمواتَ من مشايخِ المتَصوِّفةِ يخرُجون من قبورِهم ويجتَمِعون بمن يحضُرُهم ممَّن يريدُ عِلمًا أو بَيعةً أو مَدَدًا! قال له هذا الأخيرُ: (أنتَ مَنبَعٌ يَجري منه نَهرٌ كنَهرِ النِّيلِ. قُلتُ: دُلَّني سَلامُ اللَّهِ عَليك على هذا النَّهرِ الذي مَثَّلتَه بالنِّيلِ. فذَكَرَ أنَّ الصَّيَّادَ تكَرَّم عليه بإعطائِه بَعضَ كَلماتٍ من «الجَفرِ» العَلويِّ الفاطِميِّ، وحَلَّ له أسرارَها) [776]((بوارق الحقائق)) (ص: 78، 79). .
وأنَّه حَصَل على تِسعِمِائةِ سِرٍّ من أسرارِ الجَفرِ الفاطِميِّ منَ الخَليلِ إبراهيمَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. وذلك حينَ ظَهَرَ عليه أمامَ قَبرٍ من قُبورِ الأئِمَّةِ. وأعطاه خِرقةً عليها بَعضُ الطَّلاسِمِ والرُّموزِ السِّحريَّةِ.
قال الرَّوَّاسُ: (وقد صَرَّحَ أولياءُ اللهِ مَن آلِ فاطِمةَ عليها السَّلامُ أنَّ مَن حَمَل هذا السَّطرَ على هذه الصُّورةِ الشَّريفةِ عوفيَ مَريضُه وأفاق مصروعُه، وهو المانِعُ من كُلِّ مُلمٍّ، ودافِعٌ لكُلِّ مُهمٍّ) [777]((بوارق الحقائق)) (ص: 177- 179). وهذا الكتابُ أشبَهُ ما يكونُ بكتابِ (رُؤيا يوحَنَّا) الذي عند النصارى. .
8- مَحَبَّةُ أهلِ البَيتِ واعتِقادُ تَكفيرها للذُّنوبِ:
من أوجُهِ التَّشابُهِ بَينَ الرِّفاعيَّةِ والشِّيعةِ اعتِقادُ كِلَا الفريقَينِ بَراءةَ مُحِبِّ أهلِ البَيتِ منَ النَّارِ:
فيَدَّعي الصَّيَّاديُّ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((مَعرِفةُ آلِ مُحَمَّدٍ بَراءةٌ منَ النَّارِ، وحُبُّ آلِ مُحَمَّدٍ جَوازٌ على الصِّراطِ، والوِلايةُ لآلِ مُحَمَّدٍ أمانٌ منَ العَذابِ)) [778] أخرجه الكلاباذي في ((معاني الأخبار)) (ص302) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ المِقدادِ بنِ الأسوَدِ رَضِيَ اللهُ عنه. قال الألباني في ((سلسلة الأحاديث الضعيفة)) (4917): موضوعٌ. .
وأنَّه قال: ((مَن ماتَ على حُبِّ آلِ مُحَمَّدٍ ماتَ شَهيدًا، ومَن ماتَ على حُبِّ آلِ مُحَمَّدٍ بَشَّره مَلَكُ المَوتِ بالجَنَّةِ، ومَن ماتَ على حُبِّ آلِ مُحَمَّدٍ فُتِح له في قَبرِه بابانِ إلى الجَنَّةِ، ومَن ماتَ على حُبِّ آلِ مُحَمَّدٍ جَعَل اللهُ قَبرَه مزارًا لمَلائِكةِ الرَّحمةِ [779] أورده الألباني في ((السلسلة الضعيفة)) (4920) وقال: باطلٌ موضوعٌ. ) [780] يُنظر: ((ضوء الشمس)) (1/ 251- 255). .
وأنَّه قال: ((الزَموا مَودَّتَنا أهلَ البَيتِ؛ فإنَّ مَن لقيَ اللهَ عَزَّ وجَلَّ وهو يَودُّنا دَخل الجَنَّةَ بشَفاعَتِنا، والذي نَفسي بيَدِه لا يَنفعُ عبدًا عَمَلُه إلَّا بمَعرِفةِ حَقِّنا)) [781] أخرجه الطبراني في ((الأوسط)) (2230) من حديث الحسن بن علي رَضِيَ اللهُ عنه قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (9/175): فيه ليث بن أبي سليم وغيره، وقال الألباني في ((سلسلة الأحاديث الضعيفة)) (4916): منكَر. .
وأنَّه قال: ((أربَعةٌ أنا لهم شَفيعٌ يَومَ القيامةِ: المُكرِمُ لذَرِّيَّتي، القاضي لهم حَوائِجَهم، السَّاعي لهم في أمورِهم، المُحِبُّ لهم بقَلبِه ولِسانِه [782] أخرجه الديلمي كما في ((الغرائب الملتقطة)) لابن حجر (541) باختلاف يسير من حديثِ عليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال الشوكاني في ((الفوائد المجموعة)) (397): موضوع. ) [783] يُنظر: ((ضوء الشمس)) (1/261، 263).
وفي المُقابِلِ نَرى الشِّيعةَ يَزعُمونَ أنَّ اللهَ تعالى قال: ((لا أُدخِلُ النَّارَ مَن عَرَف أبا طالبٍ وإن عَصاني، ولا أُدخِلُ الجَنَّةَ مَن أنكَرَه ولو أطاعني)) [784] يُنظر: ((البرهان في تفسير القرآن)) للبحراني (ص: 23)، ((الخصال)) للقمي (2/ 583). .
ويَدَّعونَ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((مَن رَزَقَه اللهُ حُبَّ الأئِمَّةِ من أهلِ بَيتي فقد أصابَ خَيرَ الدُّنيا والآخِرةِ، فلا يَشُكَّنَّ أحَدٌ أنَّه في الجَنَّةِ)) [785]ليس بحديث. .
وحُبُّ أهلِ البَيتِ إيمانٌ وهو جُزءٌ لا يَتَجَزَّأ من مَحَبَّةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، لكِن لا يَنبَغي اعتِقادُ مَحَبَّتِهم على النَّحوِ الذي تَعتَقِدُه الشِّيعةُ والصُّوفيَّةُ، وهو ما تَعتَقِدُه النَّصارى في عيسى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
9- اعتِقادُ عِصمةِ أهلِ البَيتِ النَّبَويِّ:
أمَّا عِصمةُ أهلِ البَيتِ فالصَّيَّاديُّ الرِّفاعيُّ صَرَّحَ بأنَّهم (المَعصومونَ المحفوظون) [786]((ضوء الشمس)) (1/ 268). ، وفسَّر قولَ اللهِ تعالى: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا [الأحزاب: 33] ، قال: (الرِّجسُ: الآثامُ والذُّنوبُ) [787] ((ضوء الشمس)) (1/ 251). .
وقال الصَّيَّاديُّ: (لا يَنبَغي لمُسلمٍ أن يَذُمَّهم بما يَقَعُ منهم أصلًا وإن ظَلموه؛ فإنَّ ذلك الظُّلمَ ظُلمٌ في زَعمِه لا في نَفسِ الأمرِ، حتَّى وإن حَكَمَ الشَّرعُ بأنَّه ظُلمٌ) [788] ((ضوء الشمس)) (1/ 269). .
وأضاف الصَّيَّاديُّ قائلًا: (بل حُكمُ ظُلمِهم إيَّانا في نَفسِ الأمرِ يُشبِهُ جَريَ المَقاديرِ عَلينا من غَرَقٍ أو حَرقٍ... فلا يَذُمُّ الإنسانُ قَضاءَ اللَّهِ وقدَرَه، فكذلك الأمرُ في أهلِ البَيتِ؛ فإنَّه يُقابِلُ ما يَطرَأُ عليه منهم بالرِّضا والتَّسليمِ، فلا يُؤاخِذُهم بما طَرَأ منهم في حَقِّه ولا يُطالبُهم به، بل يَترُكُه لهم تَركَ مَحَبَّةٍ وإيثارٍ) [789] ((ضوء الشمس)) (1/ 269، 270). .
فعلى كَلامِ الصَّيَّاديِّ يَجِبُ على المُسلمِ إذًا ألَّا يَرى لنَفسِه مَعَ أهلِ البَيتِ حَقًّا، وعليه أن يَتَنازَلَ عن حَقِّه لهم!
أمَّا إذا كان قاضيًا بَين واحِدٍ من أهلِ البَيتِ وآخَرَ من عامَّةِ النَّاسِ فيَأمُرُ الصَّيَّاديُّ بالتَّالي: (عَليك أن تَسعى في استِنزالِ صاحِبِ الحَقِّ من حَقِّه إذا كان المَحكومُ عليه من أهلِ البَيتِ) [790] ((ضوء الشمس)) (1/ 272). !
فهو يُسَوِّغُ لهمُ الظُّلمَ ويَحُثُّ الآخَرينَ أن يَطيبوا نَفسًا بهذا الظُّلمِ ويَرضَوا به كرِضاهم بقَضاءِ اللهِ وقدَرِه، وإلَّا كانوا مُتَطاوِلينَ عليهم إن طالبوا بحَقِّهم منهم، ويَدعو الحُكَّامَ والقُضاةَ أن يَميلوا عنِ الحَقِّ إلى جانِبِ الأئِمَّةِ ولو كانوا ظالمينَ!
وبالمُقارَنةِ بَينَ هذه الآدابِ مَعَ الأئِمَّةِ وبَينَ الآدابِ التي افتَرَضَتها الباطِنيَّةُ مَعَ الأئِمَّةِ لا يوجَدُ فرقٌ إلَّا بالعِبارةِ، وفي إحدى رَسائِلِ الإسماعيليَّةِ للدَّاعي الإسماعيليِّ الباطِنيِّ القاضي النُّعمانِ بنِ مُحَمَّدٍ المَغرِبيِّ، وهي بعُنوانِ (كِتابُ الهمَّةِ في آدابِ اتِّباعِ الأئِمَّةِ) ذكرَ فيها آدابَ المُريدِ مَعَ إمامِه على نَحوٍ مُماثِلٍ لِما يَدعو الصُّوفيَّةُ إليه.
وأخيرًا فالصَّيَّاديُّ يوجِبُ على كُلِّ مُسلمٍ احتِرامَ مَنِ انتَسَبَ إلى أهلِ البَيتِ من غَيرِ أن يُطالِبوه بإثباتِ صِحَّةِ هذا النَّسَبِ، فقال: (وليُعلَمْ أنَّه يَنبَغي احتِرامُ وتَعظيمُ كُلِّ مَن يَنتَسِبُ إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بدونِ تَكليفِه إلى إثباتِ نِسبَتِه إليه) [791] ((ضوء الشمس)) (1/ 263). .
10- اعتِقادُ أنَّ أبا طالبٍ وأبَوَيِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الجَنَّةِ:
مَوقِفُ الرِّفاعيَّةِ من أبي طالبٍ وأبَويِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم موافِقٌ لمَذهَبِ الشِّيعةِ. وللصَّيَّاديِّ رِسالةٌ سَمَّاها: (السَّهم الصَّائِب لكَبِدِ مَن آذى أبا طالِب) ورِسالةُ (الكَنز المُطَلسَم) ذَكَرَ فيهما أنَّ أهلَ البَيتِ كُلَّهم مُطَهَّرونَ وأنَّهم كُلَّهم في الجَنَّةِ. وأيَّدَ رَأيَ السُّيوطيِّ الذي نَصَّ على إيمانِ أبي طالبٍ ومَوتِه عليه، وأنَّ أبَويِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من أهلِ الجَنَّةِ، وأنَّ مَن رَماهم بالنَّقصِ يَكونُ مُؤذيًا لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وبالتَّالي يَكونُ مُقتَحِمًا للكُفرِ [792] يُنظر: ((ذخيرة المعاد)) (ص: 4، 5). ويُنظر: ((النجوم الزواهر)) للرجيبي (ص: 48). ناقِلًا عن كمالِ الدِّينِ الشُّمُنِّي الحَنَفيِّ أنَّ مَن قال بأنَّهما في النَّارِ فهو مَلعونٌ.
ولذلك إذا ذَكَرَ الصَّيَّاديُّ أمَّ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: (رَضِيَ اللهُ عنها، وإذا ذَكَرَ أباه قال: المُعظَّمُ) [793] ((ضوء الشمس)) (1/ 112). .
وقد جاءَ أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال لرَجُلٍ سَأله عن أبيه: ((إنَّ أبي وأباك في النَّارِ)) [794] أخرجه مسلم (203) من حديثِ أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه. ، وأمَّا أمُّه فقد نُهي عنِ الاستِغفارِ لها [795] أخرجه مسلم (976) عن أبي هُرَيرةَ قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((استأذنتُ ربي أن أستغفِرَ لأمِّي فلم يأذَنْ لي ...)). .
وقد هاجَمَ الصَّيَّاديُّ مَن نَفى إيمانَ أبي طالبٍ كما سَبَقَ، غَيرَ أنَّه نَقَضَ هذا المَوقِفَ فحَكَمَ ببُعدِ أبي طالبٍ عنِ الدِّينِ، مُبَيِّنًا أنَّ نِسبةَ قَرابَتِه لم تَنفَعْه، قال: (إنَّ نِسبةَ الأبوَّةِ المَعنَويَّةِ أشرَفُ من نِسبةِ الأبوَّةِ الظَّاهريَّةِ، وهي التي جَعَلت بلالًا الحَبَشيَّ وسَلمانَ الفارِسيَّ وصُهَيبًا الرُّوميَّ رَضِيَ اللهُ عنهم من أهلِ البَيتِ، وأُبعِدَ عنها أبو طالبٍ ولم تَنفَعْه نِسبةُ العُمومةِ) [796] ((قلادة الجواهر)) (ص: 295). .
وأمَّا أبو طالبٍ فقد تَواتَرَتِ الأحاديثُ أنَّه في ضَحضاحٍ من نارٍ، ولولا النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لكان في الدَّركِ الأسفَلِ منها [797] أخرجه البخاري (3883)، ومسلم (209) من حديثِ العبَّاسِ بنِ عبدِ المطَّلِبِ رَضِيَ اللهُ عنه. . وأنَّه لمَّا ماتَ قال عَليٌّ رَضِيَ اللهُ عنه للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ عَمَّك الضَّالَّ قد ماتَ)) [798] أخرجه أبو داود (3214)، والنسائي (2006) باختلاف يسير، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (5490) واللفظ له. ضعَّفه البيهقي في ((السنن الكبرى)) (1/304)، وضعَّف إسناده النووي في ((المجموع)) (5/281)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (1093). .
بَيدَ أنَّ أحَدَ الرِّفاعيَّةِ يَزعُمُ أنَّه لمَّا ماتَ أبو طالبٍ رَثاه عَليٌّ رَضِيَ اللهُ عنه بهذه الأبياتِ:
أبا طالبٍ عِصمةَ المُستَجيرِ
وغَيثَ المُحولِ ونورَ الظُّلَمْ
لقد هَدَّ فَقدُك أهلَ الحِفاظِ
فصَلَّى عَليك وليُّ النِّعَمْ [799] يُنظر: ((النجوم الزواهر)) للرجيبي (ص: 136). .
وكذلك الشِّيعةُ صَنَّفوا العَديدَ منَ الرَّسائِل في إيمانِ أبي طالبٍ، مِثلُ رِسالةِ (مُؤمنُ أهلِ البَيتِ) للخنيزيِّ، ورِسالةٍ للشَّيخِ المُفيدِ سَمَّاها (إيمان أبي طالبٍ) ورِسالةٍ للحُرِّ العامِليِّ سَمَّاها (شَيخ الأبطحِ) قال فيها: (إنَّ الشِّيعةَ الإماميَّةَ وأكثَرَ الزَّيديَّةِ يَقولونَ بإسلامِ أبي طالبٍ، وأنَّه سَتَرَ ذلك عن قُرَيشٍ لمَصلحةِ الإسلامِ) [800] يُنظر: ((الأعلام)) للزركلي (4/ 166). .
11- عِلمُ الباطِنِ بَـيـنَ الرِّفاعيَّةِ والشِّيعةِ الباطِنيَّةِ:
دَأَب الباطِنيَّةُ على إثباتِ وُجودِ عِلمٍ باطِنٍ لم يُبلِّغْه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى النَّاسِ، وإنَّما أسَرَّه إلى خاصَّتِه، وأخَصُّ خاصَّتِه هو عَليٌّ رَضِيَ اللهُ عنه الذي أخَذَ هذا العِلمَ عنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ثمَّ تَلقَّاه عنه أبناؤُه من بَعدِه. وبَقيَ عِندَ الإمامِ المَعصومِ الذي يُؤتى من لدُنِه التَّأويلُ.
وقد وصَفوا الإمامَ عَليًّا بأنَّه (بابُ مَدينةِ العِلمِ) و(وصيُّ النَّبيِّ وسِرُّه).
ولقدِ اعتَبَرَ أهلُ السُّنَّةِ والحَديثِ أنَّ مَن وافقَ الشِّيعةَ في هذا الادِّعاءِ أُلحِقَ بهم واستَحَقَّ وصفَه بالتَّشَيُّعِ، ونَهَوا عن أخذِ الحَديثِ منه.
قال النَّوويُّ: (قال القاضي: لمَّا عُرِف قُبحُ مَذهَبِه أحَدِ الرُّواةِ واسمُهُ الحارِث وغُلوُّه في مَذهَبِ الشِّيعةِ ودَعواهمُ الوصيَّةَ إلى عَليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه وسِرَّ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إليه منَ الوحيِ وعِلمِ الغَيبِ ما لم يُطلِعْ غَيرَه عليه: سيءَ الظَّنُّ بالحارِثِ في هذا أي: تَرَكوا رِوايَتَه لذلك) [801] ((شرح مسلم)) (1/ 99). .
فهذه الألقابُ التي اعتُبرَت غُلوًّا في التَّشَيُّعِ مَوجودةٌ كذلك عِندَ الصُّوفيَّةِ عامَّةً وعِندَ الرِّفاعيَّةِ خاصَّةً.
فعَليٌّ رَضِيَ اللهُ عنه عِندَ الرِّفاعيَّةِ (بابُ مَدينةِ العُلومِ) [802] يُنظر: ((قلادة الجواهر)) لأبي الهدى الصيادي (ص: 19). و(سِرُّ بابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) [803] يُنظر: ((المعارف المحمدية)) لأبي الهدى الصيادي (ص: 30). .
وقد وافقوا الباطِنيَّةَ في قَولِهم بالعِلمِ الباطِنِ.
قال عبدُ الرَّحمنِ الواسِطيُّ الرِّفاعيُّ: (وقد صَحَّ أنَّ سَلمانَ تَلقَّى عِلمَ الباطِنِ عن أميرِ المُؤمنينَ عَليٍّ، وهو «أخذَه» عنِ ابنِ عَمِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) [804] ((ترياق المحبين)) (ص: (7. .
ويُعرَفُ عِندَهم أيضًا بـ (العِلم المَكتوم) كما وصَفه الغَزاليُّ [805] يُنظر: ((ميزان العمل)) (ص: 111). أو (العِلمُ اللَّدُنِّيُّ) الذي يَزعُمونَ أخذَه عنِ الخَضِرِ مُباشَرةً، مِثلما يَدَّعي الباطِنيَّةُ أنَّهم أخَذوه عنِ المَهديِّ المَعصومِ صاحِبِ الزَّمانِ والسِّردابِ مُباشَرةً أيضًا.
وصارَ هذا العِلمُ عِندَ الصُّوفيَّةِ عِلمًا آخَرَ غَيرَ العِلمِ الشَّرعيِّ. وصارَت له أحكامٌ وفتاوى تَختَلفُ عنِ الأحكامِ المُتَعَلِّقةِ بالعِلمِ الشَّرعيِّ حتَّى إنَّهم ليَقولونَ في تَرجَمةِ سيرةِ شَيخٍ من مَشايِخِهم: (دَرس الشَّيخُ الفُلانيُّ وأفتى في عِلمَي الظَّاهِرِ والباطِنِ) [806]((جامع كرامات الأولياء)) للنبهاني 1)/189). .
وقد جَعَلوا البَوحَ بهذا العِلمِ كُفرًا وأوجَبوا كَتمَه، وهو عَينُ قَولِ الشِّيعةِ الباطِنيَّةِ الذينَ يَقولونَ: (إنَّ هذا العِلمَ مَكنونٌ فاكتُموه إلَّا من أهلِه) [807] ((لطائف المنن)) لابن عطاء الله (ص:489). ويُنظر في المقابل كتاب: ((من لا يحضُره الفقيهُ)) لابن بابويه (4/414، 415). .

انظر أيضا: