موسوعة الفرق

المَطلَبُ الثَّالِثُ: مُعتَقدُ الإسماعيليَّةِ في اليَومِ الآخِرِ


تَقومُ مُعتَقَداتُ الإسماعيليَّةِ في مَسائِلِ الآخِرةِ كبَقيَّةِ مُعتَقداتِهم على أساسِ التَّأويلِ الباطِنيِّ فما من أمرٍ من أمورِ الآخِرة إلَّا وأوَّلوه تأويلًا باطنيًّا يَصِلُ به إلى الجُحودِ والإنكارِ مَعَ تَظاهُرِهم بخِلافِ ذلك.
ولا بُدَّ أولًا من بَيانِ مَفهومِهم لقيامِ قائِمِهم وصِلَتِه بقيامِ القيامةِ؛ حَيثُ إنَّ تَصَوُّرَهم هذا هو القاعِدةُ والأساسُ لهذا الرُّكنِ الإيمانيِّ مَعَ اعتِمادِهم التَّأويلَ الباطِنيَّ كما تَقدَّمَ.
إنَّ كلِمةَ القائِمِ تُضافُ عِندَ الإسماعيليَّةِ إلى القيامةِ فلا يَخلو كِتابٌ من كُتُبِهم التَّأويليَّةِ من عِبارةِ قائِمِ القيامةِ، بل تُعتَبَرُ كلِمَتا القائِمِ وقيامِ القيامةِ واقِعَتانِ على مَدلولٍ واحِدٍ، فهم يَعتَقِدونَ أنَّ ظُهورَه هو قيامُ القيامةِ وبظُهورِه يَنتَهي دَورُ السَّترِ الذي كان واقِعًا على مَن سَبَقَه مِنَ النُّطَقاءِ، ويبتدئُ دَورُ الكَشفِ والظُّهورِ، فإذا ظَهَرَ ألغيَتِ الشَّرائِعُ والتَّكاليفُ وبَطَلَتِ الأعمالُ وانتَهَت دَورةُ الحَياةِ الاعتياديَّةِ، وبَعدَ ذلك يَتَوَلَّى القائِمُ الحِسابَ والجَزاءَ في الدَّورةِ الجَديدةِ، فمَعنى قيامِ القيامةِ ظُهورُ القائِمِ وبَدءُ هذه المَرحَلةِ الجَديدةِ مِنَ الحَياةِ. ومِن نُصوصِهم التي تَدُلُّ على ذلك [2830] يُنظر لهذا المطلب: ((أصول الإسماعيلية)) للسلومي (ص: 611-633). :
قال الحارِثيُّ: (فإذا اجتَمَعَتِ الخَلائِقُ بَينَ يَدَيِ القائِمِ وتَشَخَّصَ كُلُّ حَدٍّ مِنَ الحُدودِ والأئِمَّةِ والأوصياءِ والنُّطَقاءِ لأهلِ زَمانِه وعَصرِه، ووافَقَهم على جَميعِ أفعالِهم وأعمالِهم، واستَقَرَّ كُلُّ واحِدٍ منهم بما صَنَعَ، أمَرَ بهم فضُرِبَت أعناقُهم جَميعًا وأرسِلَت عليهم نارٌ فأحرَقَت جَميعَهم واستحالوا في الوَقتِ والحالِ، فصاروا بُخارًا ثُمَّ يَصعَدُ ذلك البُخارُ إلى العُقدَتَينِ...) [2831] ((الأنوار اللطيفة)) (ص: 143). .
وقال أيضًا: (إنَّ القائِمَ إذا ظَهَرَ وقَعَ الحِسابُ واستَقبَلَ بأهلِ العِقابِ العَذابَ، وضوعِفَ ثَوابُ أهلِ الثَّوابِ، وأقامَ الدَّعوةَ إلى أن يَستَخرِجَ منها مَن يَقومُ مَقامَه في إقامةِ الدَّعوةِ وانتَقَلَ بمَن في ضِمنِه إلى رُتبةِ العَقلِ العاشِرِ عقلًا تامًّا كاملًا نورانيًّا كأحَدِ العُقولِ الإبداعيَّةِ، وصَعِدَ العَقلُ العاشِرُ إلى رُتبةِ العَقلِ التَّاسِعِ، وصارَ هذا القائِمُ في رُتبةِ العَقلِ العاشِرِ مدبِّرًا لجَميعِ عالَمِ الطَّبيعةِ جرمانيِّها وجُسمانيِّها إلى أن يَستَخلِصَ قائمًا يَقومُ في مَقامِه...) [2832] ((الأنوار اللطيفة)) (ص: 145). .
وقال عَليُّ بنُ الوَليدِ: (إنَّ ما حَكى القُرآنُ وما أخبَرَ به الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من صِفةِ العَرشِ واستِواءِ الرَّبِّ عليه ومَجيئِه في ظُلَلٍ مِنَ الغَمامِ والمَلائِكةِ للمُحاسَبةِ والمُجازاةِ والإثابةِ والمُعاقَبةِ، ذلك كُلُّه يَصِحُّ ظاهِرُه في قائِمِ الـقـيـامـةِ المستـوفـي قـوى السَّمَواتِ والأرضِ السِّتَّةِ، الذين هم النُّطَقاءُ السِّتَّةُ في مُدَّةِ أدوارِهم السِّتَّةِ.
ومعنـى مـجـيـئِـه في ظُلَلٍ مِنَ الغَمامِ والمَلائِكةِ بُروزُه بمَن في ضِمنِه مِنَ الصُّوَرِ القُدسانيَّةِ والهَياكِلِ النُّورانيَّةِ لكافَّةِ الخَلقِ يَومَ فصلِ القَضاءِ والمُحاسَبةِ لهم على سَوابِقِ أفعالِهم والمُجازاةِ لهم على سَوالِفِ مُقدِّماتِهم) [2833] يُنظر: ((جلاء العقول)) (ص: 143). .
وذَكَرَ جَعفَرُ بنُ مَنصورِ اليَمَنِ تأويلًا لآياتِ القُرآنِ الوارِدةِ في القيامةِ وأحوالِها يُؤَيِّدُ هذا التَّأويلَ الإسماعيليَّ لمَعنى القيامةِ والبَعثِ. فيَومُ الفَصلِ الذي ذَكَرَه اللهُ بقَولِه: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا [النبإ: 17] هو القائِمُ الذي يَفصِلُ اللهُ به بَينَ الحَقِّ والباطِلِ والمُؤمِنِ والكافِرِ، وهو ميقاتُ أمرِ اللهِ ونِهايَتُه، وسابِعُ النُّطَقاءِ السَّبعةِ. ويَومُ النَّفخِ في الصُّورِ الذي ذَكَرَه اللهُ بقَولِه: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا [النبإ: 18] يَعني: يُعلِنُ بالدَّعوةِ إليه وقد ظَهَرَ أمرُه، فتَأتونَ أفواجًا فوجًا بَعدَ فوجٍ رَغبةً ورَهبةً [2834] يُنظر: ((الكشف)) (ص: 170). .
وأوَّلَ أيضًا جَميعَ أسماءِ يَومِ القيامةِ بيَومِ قيامِ القائِمِ، فذَكَرَ بأنَّ ظُهورَ القائِمِ هو يَومُ التَّنادِ ويَومُ التَّلاقِ ويَومُ الآزِفةِ ويَومُ التَّغابُنِ، والسَّاعةُ والصَّاخَّةُ والغاشيةُ، وغَيرُها مِنَ الألفاظِ، فكُلُّها تنبئُ عن يَومِ ظُهورِ النَّاطِقِ السَّابِعِ القائِمِ [2835] يُنظر: ((الرشد والهداية)) (ص: 193). .
وبمثلِ هذا قال قاضي الإسماعيليَّةِ ابنُ حَيُّونَ، فذَكَرَ أنَّ العَرضَ ويَومَ الفَصلِ ويَومَ الحِسابِ واليَومَ المَعلومَ التي ذَكَرَها اللهُ في القُرآنِ هي إشارةٌ إلى القائِمِ [2836] يُنظر: ((الرسالة المذهبة)) (ص: 75). .
والمُتَتَبِّعُ لكُتُبِ الإسماعيليَّةِ وتَأويلِها مَراحِلَ الإنسانِ من بَعثِه وحَشرِه ثُمَّ حِسابِه وجَزائِه بالجَنَّةِ أوِ النَّارِ، يَجِدُ مَفاهيمَ غَريبةً عن الإيمانِ باليَومِ الآخِرِ، وكُلُّها تَنبُعُ من إنكارِ يَومِ القيامةِ، والمُخالَفةُ التَّامَّةُ لِما أجمَعَت عليه الأمَّةُ الإسلاميَّةُ من مَعنى القيامةِ التي هي بَعثُ الأمواتِ من قُبورِهم، وقيامُهم مَرَّةً أخرى لحَياةٍ يُثابُ فيها المُحسِنُ ويُعاقَبُ فيها المُسيءُ.
فقد أوَّلَ الإسماعيليَّةُ المَوتَ الذي هو مُفارَقةُ الرُّوحِ للجِسمِ برُجوعِ كُلِّ شَيءٍ إلى جِنسِه، فالرُّوحُ تَصعَدُ إلى العَوالِمِ الرُّوحانيَّةِ، وتَسبَحُ في تلك العَوالِمِ، فإن كانت صالِحةً مُؤمِنةً انضَمَّت إلى العُقولِ الإبداعيَّةِ، وإن كانت غَيرَ ذلك رَجَعَت إلى العَوالِمِ السُّفليَّةِ، وأصبَحَت تَظهَرُ في النُّفوسِ الشِّرِّيرةِ مِنَ الجِنِّ والشَّياطينِ والهَوامِّ وغَيرِها، أمَّا الجَسَدُ فإنَّه يَعودُ إلى أصلِه وعُنصُرِه التُّرابيِّ [2837] يُنظر: ((طائفة الإسماعيلية)) لمحمد كامل حسين (ص: 171، 172). .
ويَرى الإسماعيليَّةُ أنَّ عَذابَ القَبرِ هو تَأثُّرُ النَّفسِ بسَبَبِ ما يَظهَرُ عليها مِنَ الصُّوَرِ الهَيولانيَّةِ المُخالِفةِ للطِّباعِ [2838] ((رسالة الدستور)) للداعي الإسماعيلي الطيبي (ص: 93) ضمن ((أربع رسائل إسماعيلية)) جمع عارف تامر. .
وذَكَروا أنَّ البَرزَخَ على ضَربَينِ: مَحمودٌ ومَذمومٌ؛ فالأوَّلُ ما يَصِلُ إليه المُؤمِنونَ بَعدَ نَقلِهم مِنَ المَراتِبِ، ويَكونونَ فيها إلى أوانِ البَعثِ الكُلِّيِّ الذي هو ظُهورُ القائِمِ. وأمَّا الثَّاني فهو ما يَصيرُ إليه أضدادُ الحَقِّ وسائِرُ العُصاةِ بَعدَ مَوتِه مَن بَرازِخ الهُبوطِ، وقَناطِرِ العَذابِ، كُلٌّ منهم بقدرِ استِحقاقِه مَوقوفونَ إلى أوانِ البَعثِ [2839] يُنظر: ((أربعة كتب إسماعيلية)) جمع شتروطمان (ص: 134). .
وقالوا عن حَقيقةِ المَلِكَينِ اللَّذَينِ يَأتيانِ المَيِّتَ في قَبرِه: إنَّ المُرادَ منهما ناطِقُ كُلِّ دَورٍ ووَصيُّه، فهما المَلِكانِ المُشارُ إليهما في عَصرِهما بمُبَشَّرٍ وبَشيرٍ لأوليائِه، ومُنكَرٍ ونَكيرٍ لأضدادِه، وعلى هذا القَولِ يَنطَوي الأمرُ في كُلِّ وقتٍ وزَمانٍ [2840] يُنظر: ((أصول الإسماعيلية)) للسلومي (ص: 616). .
وعَرَّفَ الإسماعيليَّةُ البَعثَ بأنَّه فِعلُ اللهِ تَعالى من جِهةِ المَلائِكةِ المُقَرَّبينَ في المَبعوثِ الطَّبيعيِّ كمالًا له؛ ليَكونَ مُنبَعِثًا الانبِعاثَ الثَّانيَ، ومَعناه هو المُعرَبُ عنه بالنَّفخِ المَخصوصِ بالقوَّةِ، التي هي إفاضةٌ على المُفاضِ عليه، الذي كان من قَبلُ خاليًا منها، فيَحيا الحَياةَ الأبَديَّةَ، وذَكَروا أنَّ ثَمَّ نَوعَينِ مِنَ البَعثِ:
الأوَّلُ: النَّفخُ الأوَّلُ، ويَكونُ في عالَمِ الطَّبيعةِ، ويَنقَسِمُ إلى ما يَكونُ بتَعليمٍ، وإلى ما يَكونُ بتَأييدٍ إلَهيٍّ، والذي يَكونُ بتَأييدٍ إلَهيٍّ هو إسراءُ القوى الإلَهيَّةِ من عالَمِ المَلَكوتِ في نَفسِ المَبعوثِ الكائِنِ في عالَمِ الطَّبيعةِ وسَرَيانِها فيها، فيَتَيَسَّرُ لها جَميعُ الأمورِ المُتَعَلِّقةِ بالسَّعاداتِ الأبَديَّةِ والكَمالِ الثَّاني، وقد أخبَرَ اللهُ سُبحانَه وتَعالى عن ذلك بإلقاءِ الرُّوحِ؛ حَيثُ يَقولُ: رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [غافر: 15] ، فزَعَموا أنَّ وضعَ الدَّرَجاتِ هو القائِمُ بالفِعلِ الذي هو الإلقاءُ بأمرِ اللَّهِ سُبحانَه، والرُّوحُ هو بَركاتُ القُدسِ، والمَلَكوتُ الفائِضُ من أمرِه الذي هو المُبدِعُ الأوَّلُ والمَوجودُ الأوَّلُ، وعلى مَن يَشاءُ من عِبادِه هم عِبادُه المُصطَفَونَ الذين كانت أنفُسُهم في ظُلُماتِ الطَّبيعةِ خاليةً، وهي فيها غَيرُ مُكتَسَبةٍ، فشَبَّهَ تَعالى الإسراءَ والتَّسريبَ بالنَّفخِ، وذلك من جِهة المَنصوبينَ للعِنايةِ بمَوجوداتِ عالَمِ الطَّبيعةِ في نَفسِ المَبعوثِ تَأثيرًا، وهو الذي به يُصعَقُ مَن في السَّمَواتِ والأرضِ ليكونَ المَبعوثُ في الكَمالِ مُنبَعِثًا بالفِعلِ الذي يَقتَضيه كمالُه.
أمَّا القِسمُ الثَّاني مِنَ النَّفخِ الأوَّلِ، وهو ما يَكونُ بتَعليمٍ من جِهةِ مَن يَكونُ طَبيعيًّا، فلكَونِ ما يُعلَمُ من جِهةِ المَبعوثِ المُرَقِّي إلى دَرَجةِ الكَمالِ المُنبَعِثِ الانبِعاثَ الثَّانيَ القائِمِ بالتَّعليمِ مِمَّا يَتِمُّ فيه البَعثُ؛ ولذلك سُمِّيَ بعثًا، وهو: إقامةُ النِّعمةِ على البَشَرِ بالمَبعوثِ المُؤَيَّدِ، فيَكونُ ما يُعلِمُهم ويَدعوهم إليه، ثُمَّ يَقومونَ به سَبَبًا لهم في نَيلِ السَّعادةِ في الدُّنيا، وطَريقًا إلى الفَوزِ بالحَياةِ الأبَديَّةِ في الأخرى، وأمرًا يَجري مَثَلًا من أنفُسِهم مَجرى النَّفسِ النَّاميةِ التي هي سَبَبٌ لحُصولِ القوَّةِ الحِسِّيَّةِ، فيَكونُ ذلك بَعثَهم، وبالجُملةِ فإنَّ هذا البَعثَ يَكونُ بواسِطةِ المُؤَدِّينَ مِنَ اللهِ مِنَ الأنبياءِ والأوصياءِ والأئِمَّةِ.
والنَّوعُ الثَّاني مِنَ البَعثِ: هو النَّفخُ الثَّاني الخُصوصيُّ بالقيامةِ عِندَ تَكامُلِ الأدوارِ واستِكمالِ قيامِ العِلمِ بالفِعلِ حينَ تَتَجَرَّدُ الصُّورةُ بكَمالِها فتَسطَعُ فيها أنوارُ المَلَكوتِ [2841] يُنظر: ((راحة العقل)) للكرماني (ص: 511- 513). .
وبتَعبيرٍ آخَرَ قَسَّم الدَّاعي الإسماعيليُّ الحامِديُّ البَعثَ إلى نَوعَينِ: فالبَعثُ الأوَّلُ هو بَعثُ الصُّورةِ الحاصِلةِ للمُستَفيدِ؛ حَيثُ تُبعَثُ له العُلومُ الإلَهيَّةُ والمَعارِفُ الرَّبَّانيَّةُ. وأمَّا البَعثُ الثَّاني فهو النَّقلةُ إلى حَدٍّ، وبها يَصيرُ في عالَمٍ ثانٍ وبَعثٍ، وذلك عِندَ قيامِ القائِمِ، وذلك هو البَعثُ الحَقيقيُّ [2842] ((زهر بذر الحقائق)) (ص: 177). .
ويُفَسِّرُ الدَّاعي الكرمانيُّ الآياتِ القُرآنيَّةَ التي تَتَحَدَّثُ عن البَعثِ وَفقَ ذلك المُعتَقدِ، فقال في قَولِ اللهِ تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ [الزمر: 68] يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا [النبأ: 18] : (إنَّ فيهما إشارةً إلى صاحِبِ الدَّورِ السَّابِعِ الذي يَحصُلُ في الوُجودِ آخِرَ دَورٍ حينَ يُبعَثُ في عالَمِ الطَّبيعةِ أوَّلًا كما يُبعَثُ أصحابُ الأدوارِ فيُطيعونَه أمَّةً بَعدَ أمَّةٍ، وبه يَتِمُّ الخَلقُ الجَديدُ، فيُنفَخُ أوَّلًا في دارِ الطَّبيعةِ بابُ الجَزاءِ، وفي دارِ الآخِرةِ ثانيًا، وهو النَّفخُ الأوَّلُ، فالبَعثُ يَتِمُّ لأصحابِ الدَّورِ السَّابِعِ) [2843] ((راحة العقل)) (ص: 514، 515). .
وأمَّا مَعادُ أهلِ دَعوَتِهم فسَمَّوه مَعادَ المُؤمِنينَ، وأرادوا به أنَّ كُلَّ مَحدودٍ يَعودُ إلى حَدِّه، وتَكونُ نَقلَتُه إليه إذا أطاعَه فيما رَضيَ اللهُ كان ابتِداؤُه منه، وذلك ما يُلقيه إليه من عُلومِ أولياءِ اللهِ تَعالى أو مَعادِه إليه، وذلك أنَّ النَّفسَ المَحدودةَ الحِسِّيَّةَ تَنصَبِغُ بما يُلقيه الحَدُّ مِنَ العُلومِ الشَّريفةِ، فتَعودُ ناطِقةً كما يَرُدُّ الإكسيرُ الصُّفرَ ذَهَبًا، حَذْوَ الحَذْوِ، فيَعودُ حينَئذٍ إلى ذلك الحَدِّ بذلك المِغناطيسِ الذي ألقاه على المَحدودِ مِنَ العِلمِ النَّبَويِّ، فيَجذِبُه إليه لِما ألقاه إليه، ولم يُسَمَّ المَعادُ مَعادًا إلَّا أنَّه يَعودُ إليهما ألقاه إلى المَحدودِ.
والقِسمُ الثَّاني مِنَ المَعادِ هو مَعادُ أهلِ الظَّاهِرِ، ويُقصَدُ بهم مَن لا يُؤمِنُ بمَذهَبِهم، فلا مَعادَ لهم، وذلك أنَّ مَن كان منهم مُناصِبًا لأهلِ الحَقِّ مُعانِدًا وطاعِنًا فإنَّه عِندَ مَوتِه لا تُفارِقُ نَفسُه جِسمَه البَتَّةَ، بل تَبقى مُعاقَبةً فيه، يَكونُ العَذابُ على الكُلِّ، ولا يُفارِقُ منه شَيءٌ غَيرَ ذلك التَّصَوُّرِ دونَ النَّفسِ، وهذا التَّصَوُّرُ يُريدُ الصُّعودَ فتَركَبُه أشِعَّةُ الكَواكِبِ فيَعودُ إلى البُيوتِ المُظلِمةِ، فإذا ماتَ ذلك الذي مازجه فارقَه حينَئِذٍ، وعادَ إلى مِغناطيسٍ مُظلِمٍ [2844] يُنظر: ((زهر بذر الحقائق)) للحامدي (ص: 173- 175). .
وخُلاصةُ رَأيِهم في المَعادِ أنَّ الإنسانَ بَعدَ مَوتِه يَستَحيلُ عُنصُرُه التُّرابيُّ وجِسمُه إلى ما يُجانِسُه مِنَ التُّرابِ، وتَصعَدُ روحُه إلى المَلَأِ الأعلى، فإذا كان مُؤمِنًا بالإمامِ حُشِر في زُمرةِ الصَّالِحينَ، وأصبَحَ مَلِكًا مُدَبِّرًا كسائِرِ العُقولِ المُدَبِّرة لهذا الكَونِ، وإن كان شِرِّيرًا مُناصِبًا للإِمامِ حُشِر مَعَ الأبالِسةِ والشَّياطينِ، وهم أعداءُ الإمامِ [2845] يُنظر: ((الحركات الباطنية)) لمصطفى غالب (ص: 106)، ((أصول الإسماعيلية)) لسليمان السلومي (2/619). .
وأمَّا الحِسابُ فقد عَرَّفَه الدَّاعي الكَرمانيُّ بأنَّه: فِعلٌ يحدُثُ عنه مِنَ النَّفسِ للنَّفسِ الثَّوابُ، والذي هو المَلَذَّاتُ والمَسَرَّاتُ، والعِقابُ الذي هو الألَمُ والعَذابُ. ويَنقَسِمُ هذا الفِعلُ إلى ما يَكونُ وُجودُه في الدُّنيا، وإلى ما يَكونُ وُجودُه في الآخِرةِ.
فأمَّا ما يَكونُ وُجودُه في الدُّنيا فيَنقَسِمُ إلى قِسمَينِ:
1- ما يَكونُ وُجودُه في الأنفُسِ للأنفُسِ عاجلًا لا في كُلِّ الأوقاتِ، وهو خاصٌّ. وهذا هو الذي يَكونُ من جِهةِ المَبعوثِ المُؤَيَّدِ بروحِ القُدُسِ الذي هو صاحِبُ الدَّورِ السَّابِعِ عِندَ اتِّصالِ القوى الملكوتيَّةِ به، المُعرَبِ عنه بالنَّفخِ الثَّاني في يَومِ القيامةِ.
2- ما يَكونُ وُجودُه في الأنفُسِ للأنفُسِ عاجلًا في كُلِّ الأوقاتِ، وهو عامٌّ. وهذا القِسمُ يَحصُلُ بحَسبِ مَقاصِدِ النَّفسِ في أعمالِها الصَّالِحةِ، فمَثَلًا الذي يَطلُبُ بالصَّلاةِ وجهَ النَّاسِ وثَناءَهم يَقَعُ له ما يُريدُه ويَتَمَنَّاه في نَفسِه عاجلًا، فذلك ثَوابُه.
وأمَّا المُخِلُّ بأوامِرِ اللهِ سُبحانَه وتَعالى وسُنَنِه والإقرارِ بأوليائِه وأنبيائِه ورُسُلِه، فيَشمَلُه بذلك ذُلٌّ وصَغارٌ عاجِلٌ يَحصُلُ له به الغَمُّ والعَذابُ الدَّائِمُ. فذلك عِقابُه عاجلًا دونَ عِقابِه الآجِلِ.
وأمَّا ما يَكونُ وُجودُه في الآخِرةِ فهو من جِهةِ العُقولِ الإبداعيَّةِ والانبِعاثيَّةِ بما يَسري من رُوحِ القُدُسِ في الأنفُسِ الحاصِلةِ من حَضانةِ التَّعليمِ بظُهورِ النَّفسِ الزَّكيَّةِ صاحِبِ الدَّورِ السَّابِعِ في العالَمِ الطَّبيعيِّ، واستِكمالِ أسبابِ السَّعاداتِ له طبيعيًّا ومَلَكوتيًّا قيامًا بحُكمِ العِلمِ بكُلِّ صورةٍ بما لها وما عليها بحَسبِ ما جَرى به الحُكمُ من جِهةِ اللهِ في دارِ حِكمَتِه، مِثلًا بمِثلٍ، فيَسعَدُ السَّعيدُ، ويَشقى الشَّقيُّ [2846] يُنظر: ((راحة العقل)) (ص: 516-519). .
والثَّوابُ في الآخِرةِ على وجهَينِ: ثَوابٌ أدنى، وثَوابٌ أكبَرُ، والعِقابُ على وجهَينِ كذلك: أدنى وأكبَرُ، ولمَّا كان الثَّوابُ والعِقابُ كذلك بزَعمِهم كان ما وصَفَه اللهُ تَعالى مِنَ الأنهارِ الجاريةِ والحُورِ والأطعِمةِ والأشرِبةِ إشارةً في الثَّوابِ الأدنى إلى ما يَحصُلُ للنُّفوسِ مِنَ الفَوائِدِ العِلميَّةِ في الدَّعوةِ التَّأويليَّةِ، فكَأنَّ الأنهارَ أمثالُ ما يَجري مِنَ العُلَماءِ من نَشرِ الفَوائِدِ العِلميَّةِ في مُستَفيديهم. وأمَّا الحُورُ فأمثالُ ما يُصَوِّرونَه لهم مِنَ الصُّوَرِ القُدسيَّةِ التي تَحارُ في حُسنِها الأفكارُ وتَقصُرُ عن وصفِها الألسُنُ، ولا تَكتَنِفُها الحُدودُ والأفكارُ، وهي التي تُزاوَجَ النُّفوسُ وتُشرِفُ عليها وتَرفَعُ قَدرَها في أهلِ عِلِّيِّينَ وتُعليها. والفَوائِدُ التي تَشتَهي الأنفُسُ وتَلَذُّ الأعيُنُ هو ما يُطلِعونا عليه مِنَ الحَقائِقِ الشَّاهِدِ محسوسُها لمَعقولِها ومَثَلُها لمَمثولِها، وتُبَرهِنُ فروعُها على صِحَّةِ أصولِها، وهي ما تَشتَهيه الأنفُسُ التي هي حُدودُ الدِّينِ وتَلَذُّ الأعيُنُ الذين هم أعيُنُ الحَقِّ للنَّاظِرينَ، وكذلك قالتِ الحُدودُ: إنَّ الدَّعوةَ جَنَّةٌ بالقوَّة تُؤَدِّي إلى الجَنَّةِ بالفِعلِ، فأمَّا الثَّوابُ الأكبَرُ فهو ما لا سَبيلَ إلى وصفِه، وتَقصُرُ عُقولُ مَن في عالَمِ الطَّبيعةِ عن تَصَوُّرِه.
وأمَّا العِقابُ الأدنى فهو ما يَدخُلُ على النُّفوسِ المُخالِفةِ للحَقِّ مِنَ الشُّكوكِ والشُّبُهاتِ، وما يَحِلُّ بها مِنَ الألَمِ عِندَ الاستِفهاماتِ والسُّؤالاتِ إذا سَمِعَت آيَ الكِتابِ والتَبَسَ عليها فيه نَهجَ الصَّوابِ ونَظَرَت في مُختَلِفِ آياتِه وتَفاوُتِ عِبارَتِه وعَجائِبِ مَوضوعاتِه، تَلاطَمَت بها أمواجُ الشُّكوكِ. ويَكونُ حُصولُ العِقابِ الأكبَرِ لها عِندَ قيامِ القائِمِ عليه السَّلامُ، وهو ما لا سَبيلَ إلى وصفِه؛ لأنَّ أوَّلَ ذلك وأهوَنَه أنَّهم يُذبَحونَ كما تُذبَحُ الضَّحايا بمِنًى، ويُطرَحونَ على وُجوهِ الصَّحراءِ طرحًا، ثُمَّ يُستَأنَفُ لهم عِقابٌ لا سَبيلَ إلى عِبارَتِه لهَولِه وعَظيمِ خَطَرِه وكَونِه مَحجوبَ أسرارِ أولياءِ اللهِ تَعالى، وإذا كان في هذا القَولِ ما يوجِبُ عقابًا محسوسًا وهو ذَبحُ المُخالِفينَ كان يَجوزُ ويُمكِنُ أنَّ لأهلِ دَورِ الكَشفِ الأخيارِ الذين هم أهلُ دَورِ القائِمِ ثَوابًا في الأرضِ الحِسِّيَّةِ مَحسوسة هو لهم أدنى، به يَصِحُّ قَولُ اللهِ تعالى: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [الزمر: 74] [2847] يُنظر: ((راحة العقل)) للكرماني (ص: 519) وما بعدها. ويُنظر: ((الينابيع)) للسجستاني (ص: 137-139)، ((رسالة الدستور)) للطيبي (ص: 93-96). .
وقد كشَفَ الغَزاليُّ عن تَأويلاتِ الإسماعيليَّةِ في مُعتَقَداتِهم الأخرَويَّةِ وبَيَّنَ ما في هذه التَّأويلاتِ من هَدمٍ للإيمانِ وجَحدٍ لِما أعَدَّه اللهُ للبَشَرِ من ثَوابٍ وعِقابٍ، فقال عن الباطِنيَّة: (قدِ اتَّفَقوا عن آخِرِهم على إنكارِ القيامةِ، وأنَّ هذا النِّظامَ المُشاهَدَ في الدُّنيا من تَعاقُبِ اللَّيلِ والنَّهارِ وحُصولِ الإنسانِ من نُطفةٍ والنُّطفةِ من إنسانٍ، وتوَلُّدِ النَّباتِ، وتوَلُّدِ الحَيَواناتِ: لا يَنصَرِمُ أبَدَ الدَّهرِ، وأنَّ السَّمَواتِ والأرضَ لا يُتَصَوَّرُ انعِدامُ أجسامِها، وأوَّلوا القيامةَ وقالوا: إنَّها رَمزٌ إلى خُروجِ الإمامِ، وقيامِ قائِمِ الزَّمانِ، وهو السَّابِعُ النَّاسِخُ للشَّرعِ، المُغَيِّرُ للأمرِ، ورُبَّما قال بَعضُهم: إنَّ للفَلَكِ أدوارًا كُلِّيَّةً تَتَبَدَّلُ أحوالُ العالَمِ تَبَدُّلًا كُلِّيًّا بطوفانٍ أو سَبَبٍ مِنَ الأسبابِ، وأمَّا المَعادُ فأنكَروا ما ورَدَ به الأنبياءُ، ولم يُثبِتوا الحَشرَ والنَّشرَ للأجسادِ، ولا الجَنَّةَ والنَّارَ، ولَكِن قالوا: مَعنى المَعادِ عَودُ كُلِّ شَيءٍ إلى أصلِه، فالإنسانُ مُرَكَّبٌ مِنَ العالَمِ الرُّوحانيِّ والجُسمانيِّ، أمَّا الجُسمانيُّ منه وهو الجَسَدُ فيَنحَلُّ، ويَعودُ كُلُّ خلطٍ إلى طَبيعَتِه وأصلِه، وذلك هو مَعادُ الجَسَدِ، وأمَّا الرُّوحانيُّ وهو النَّفسُ فإنَّها إن صُفِّيَت بالمواظَبةِ على العِباداتِ وزُكِّيت بمُجانَبةِ الشَّهَواتِ وغُذِّيَت بغِذاءِ العُلومِ والمَعارِفِ المُتَلَقَّاةِ مِنَ الأئِمَّةِ الهُداةِ اتَّحَدَت عِندَ مُفارَقةِ الجِسمِ بالعالَمِ الرُّوحانيِّ الذي منه انفِصالُها، وتسعَدُ بالعَودِ إلى وطَنِها الأصليِّ؛ ولذلك سُمِّيَ رُجوعًا فقيلَ لها: ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً [الفجر: 28] ، وهي الجَنَّةُ، وإليه وقعَ الرَّمزُ في قِصَّةِ آدَمَ، وكَونُه في الجَنَّةِ ثُمَّ انفِصالُه عنها، ونُزولُه إلى العالَمِ السُّفلانيِّ ثُمَّ عَودُه إليها بالآخِرةِ. وأمَّا النُّفوسُ المَنكوسةُ المَغمورةُ في عالَمِ الطَّبيعةِ المُعرِضةُ عن رُشدِها مِنَ الأئِمَّةِ المَعصومينَ، فإنَّها تَبقى أبَدَ الدَّهرِ في النَّارِ، إلى مَعنى أنَّها تَبقى في العالَمِ الجُسمانيِّ تتناسَخُها الأبدانُ، فلا تَزالُ تَتَعَرَّضُ فيها للألَمِ والأسقامِ، فلا تُفارِقُ جَسَدًا إلَّا ويَتَلَقَّاها آخَرُ؛ ولذلك قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ [النساء: 56] ، فهذا مَذهَبُهم في المَعادِ، وهو بعَينِه مَذهَبُ الفَلاسِفةِ) [2848] ((فضائح الباطنية)) (ص: 44- 46). .
ونَقَلَ البَغداديُّ رِسالةَ عُبَيدِ اللهِ المَهديِّ أوَّلِ أئِمَّةِ الإسماعيليَّةِ إلى أحَدِ أتباعِه ودُعاتِه، وهو سُلَيمانُ بنُ الحَسَنِ، وجاءَ في آخِرِها قَولُه: (إنَّ صاحِبَهم -أي مُحَمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- حَرَّم عليهم -أي على المُسلِمينَ- الطَّيِّباتِ، وخَوَّفَهم بغائِبٍ لا يُعقَلُ، وهو الإلهُ الذي يَزعُمونَه، وأخبَرَهم بكَونِ ما لا يَرَونَه أبَدًا مِنَ البَعثِ مِنَ القُبورِ والحِسابِ والجَنَّةِ والنَّارِ حتَّى استَعبَدَهم بذلك عاجِلًا، وجَعَلَهم له في حَياتِه ولذَرِّيَّتِه بَعدَ وفاتِه خَوَلًا [2849] أي: خَدَمًا: سُمُّوا بذلك لأنَّهم يتخوَّلون الأمورَ أي: يُصلِحونَها، ومِنه الخوليُّ لمَن يَقومُ بإصلاحِ البُستانِ. يُنظر: ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (2/ 88)، ((فتح الباري)) لابن حجر (5/ 174). ، واستباحَ بذلك أموالَهم بقَولِه: قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى [الشورى: 23] ، فكان أمرُه مَعَهم نَقدًا، وأمرُهم مَعَه نَسيئةً، وقدِ استَعجَلَ منهم بَذلَ أرواحِهم وأموالِهم على انتِظارِ مَوعودٍ لا يَكونُ، وهل الجَنَّةُ إلَّا هذه الدُّنيا ونَعيمُها؟ وهل النَّارُ وعَذابُها إلَّا ما فيه أصحابُ الشَّرائِعِ مِنَ التَّعَبِ والنَّصبِ والصَّلاةِ والصِّيامِ والجِهادِ والحَجِّ؟!) [2850] ((الفرق بين الفرق)) للبغدادي (ص: 281، 282). .
وعَبَّرَ الشَّهرَستانيُّ عن مُرادِ الإسماعيليَّةِ بالقيامةِ الكُبرى بأنَّه كمالُ النَّفسِ وبُلوغُها إلى دَرَجةِ العَقلِ عن طَريقِ الحَركاتِ الفَلَكيَّةِ، والسُّنَنِ الشَّرعيَّة، وإذا وصَلَتِ النَّفسُ إلى مَرتَبةِ العَقلِ فِعلًا فهذا إيذانٌ بانحِلالِ تَراكيبِ الأفلاكِ والعَناصِرِ والمُرَكَّباتِ، وانشِقاقِ السَّماءِ، وتَناثُرِ الكَواكِبِ وتَبَدُّلِ الأرضِ. وهناك يُحاسَبُ الخَلقُ، ويَتَمَيَّزُ الخَيرُ عن الشَّرِّ، والمُطيعُ عن العاصي، وتَتَّصِلُ جُزئيَّاتُ الحَقِّ بالنَّفسِ الكُلِّيِّ، وجُزئيَّاتُ الباطِلِ بالشَّيطانِ المُضِلِّ المُبطِلِ، فمِن وقتِ الحَركاتِ إلى وقتِ السُّكونِ هو المَبدَأُ، ومِن وقتِ السُّكونِ إلى ما لا نِهايةَ له هو الكَمالُ [2851] يُنظر: ((الملل والنحل)) (1/ 194). .
وقَسَّمَ ابنُ تيميَّةَ المُنكِرينَ للمَعادِ، فقال: (وأمَّا طَوائِفُ مِنَ الكُفَّارِ وغَيرِهم مِنَ الصَّابِئةِ والفَلاسِفةِ ومَن وافَقَهم فيُقِرُّونَ بحَشرِ الأرواحِ فقَط، وأنَّ النَّعيمَ والعَذابَ للأرواحِ فقَط. وطَوائِفُ مِنَ الكُفَّارِ والمُشرِكينَ وغَيرِهم يُنكِرونَ المَعادَ بالكُلِّيَّة، فلا يُقِرُّونَ لا بمَعادِ الأرواحِ ولا الأجسادِ، وقد بَيَّنَ اللهُ تَعالى في كِتابِه على لسانِ رَسولِه أمرَ مَعادِ الأرواحِ والأجسادِ، ورَدَّ على الكافِرينَ والمُنكِرينَ لشَيءٍ من ذلك بَيانًا في غايةِ التَّمامِ والكَمالِ. وأمَّا المُنافِقونَ من هذه الأمَّةِ الذين لا يُقِرُّونَ بألفاظِ القُرآنِ والسُّنَّةِ المَشهورةِ فإنَّهم يُحَرِّفونَ الكَلِمَ عن مَواضِعِه، ويَقولونَ: هذه أمثالٌ ضُرِبَت لنَفهمَ المَعادَ الرُّوحانيَّ، وهؤلاء مِثلُ القَرامِطةِ الباطِنيَّةِ الذين قَولُهم مُؤَلَّفٌ من قَولِ المَجوسِ والصَّابِئةِ، ومِثلُ المُتَفَلسِفةِ الصَّابِئةِ المُنتَسِبينَ إلى الإسلامِ، وطائِفةٍ مِمَّن ضاهَوهم: من كاتِبٍ أو مُتَطَبِّبٍ أو مُتَكَلِّمٍ أو مُتَصَوِّفٍ كأصحابِ رَسائِلِ إخوانِ الصَّفا وغَيرِهم أو مُنافِقٍ، وهؤلاء كُلُّهم كُفَّارٌ يَجِبُ قَتلُهم باتِّفاقِ أهلِ الإيمانِ؛ فإنَّ مُحَمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد بَيَّنَ ذلك بَيانًا شافيًا قاطِعًا للعُذرِ، وتَواتَر ذلك عِندَ أمَّتِه خاصِّها وعامِّها، وقد ناظَرَه بَعضُ اليَهودِ في جِنسِ هذه المَسألةِ، وقال: يا مُحَمَّدُ، أنتَ تَقولُ: إنَّ أهلَ الجَنَّةِ يَأكُلونَ ويَشرَبونَ، ومَن يَأكُلُ ويَشرَبُ لا بُدَّ له من خَلاءٍ. فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((رَشحٌ كرَشحِ المِسكِ)) [2852] أخرجه أحمد (19269)، وابن حبان (7424)، والطبراني (5/178) (5007) من حَديثِ زَيدِ بنِ أرقَمَ رَضيَ اللهُ عنه، باختِلافٍ يَسيرٍ، ولَفظُ أحمَدَ: عن زَيدِ بنِ أرقَمَ قال: (أتى النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رَجُلٌ مِنَ اليَهودِ، فقال: يا أبا القاسِمِ، ألستَ تَزعُمُ أنَّ أهلَ الجَنَّة يَأكُلونَ فيها ويَشرَبونَ؟ وقال لأصحابِه: إن أقَرَّ لي بهذه خَصَمتُه. قال: فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: بَلى والذي نَفسي بيَدِه، إنَّ أحَدَهم ليُعطى قوَّةَ مِائةِ رَجُلٍ في المَطعَمِ والمَشرَبِ والشَّهوةِ والجِماعِ. قال: فقال له اليَهوديُّ: فإنَّ الذي يَأكُلُ ويَشرَبُ تَكونُ له الحاجةُ! قال: فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: حاجةُ أحَدِهم عَرَقٌ يَفيضُ من جُلودِهم مِثلَ ريحِ المِسكِ، فإذا البَطنُ قد ضَمُرَ). صَحَّحَه ابنُ حِبَّانَ، والألبانيُّ في ((صحيح الموارد)) (2230)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (19269)، وصَحَّحَ إسنادَه ابنُ حَزمٍ في ((الأصول والفُروع)) (188)، وابنُ القَيِّمِ على شَرطِ الصَّحيحِ في ((حادي الأرواح)) (169). والحَديثُ أخرَجَه مُسلِم (2835) عن جابِرٍ قال: سَمِعتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((إنَّ أهلَ الجَنَّةِ يَأكُلونَ فيها ويَشرَبونَ، ولا يَتفُلونَ، ولا يَبولونَ، ولا يتغوَّطون، ولا يمتَخِطون)). قالوا: فما بالُ الطَّعامِ؟ قال: ((جُشاءٌ ورَشحٌ كرَشحِ المِسكِ، يُلهَمونَ التَّسبيحَ والتَّحميدَ كما يُلهَمونَ النَّفَسَ)). [2853] ((مجموع الفتاوى)) (4/314، 315). .
وتَحَدَّثَ المَلطيُّ عن مُعتَقدِهم في الأخرَويَّاتِ فقال: (إنَّهم زَعَموا أنَّه لا جَنَّةَ ولا نارَ، ولا بَعثَ ولا نُشورَ، وأنَّ مَن ماتَ بَليَ جَسَدُه، ولحِقَ روحُه بالنُّورِ الذي توَلَّد منه حتَّى يَرجِعَ كما كان. وزَعَموا أنَّ كُلَّ ما ذَكَرَه اللهُ عَزَّ وجَلَّ في كِتابِه من جَنَّةٍ ونارٍ وحِسابٍ وميزانٍ وعَذابٍ ونَعيمٍ فإنَّما هو في الحَياةِ الدُّنيا فقَط مِنَ الأبدانِ الصَّحيحةِ، والألوانِ الحَسَنةِ، والطُّعومِ اللَّذيذةِ، والرَّوائِحِ الطَّيِّبةِ، والأشياءِ المُبهِجة التي تَنعَمُ فيها النُّفوسُ، والعَذابُ هو الأمراضُ والفَقرُ والآلامُ والأنصابُ، وما تَتَأذَّى به النُّفوسُ، وهذا عِندَهم الثَّوابُ والعِقابُ على الأعمالِ) [2854] ((التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع)) (ص: 20، 21). .
فالإسماعيليَّةُ لا يُؤمِنونَ ببَعثٍ ولا جَزاءٍ ولا عِقابٍ، ولا يُثبِتونَ سِوى الدُّنيا دارًا، وقد أوَّلوا جَميعَ ما ورَدَ في القُرآنِ عن الآخِرة، فقالوا: إنَّ مَعنى القيامةِ قيامُ قائِمِ الزَّمانِ، ومَعنى الجَنَّةِ عِندَهم: العُلومُ الجاريةُ من قِبَلِ نُطَقائِهم وأئِمَّتِهم، والتي لا يَحصُلُ عليها إلَّا القَليلُ؛ حَيثُ إنَّ على هذه العُلومِ التي هي الجَنَّةُ عِندَهم موكَّلًا لا يَأذَنُ لكُلٍّ واحِدٍ في الدُّخولِ إليها.
وأمَّا النَّارُ فالمُرادُ منها عِندَهم الشَّرائِعُ التي يَعمَلُ المُسلِمونَ بها، وصورةُ العَذابِ فيها هو مُزاوَلَتُها واستِعمالُها، وإجهادُ البَدَنِ في تَطبيقِها، مَعَ أنَّه لا ثَوابَ ولا عِقابَ عليها.
إنَّ هذه التَّأويلاتِ الباطِنيَّةَ رَدٌّ صَريحٌ وواضِحٌ لنُصوصِ الشَّريعةِ الإسلاميَّةِ، ومِنَ المَجمَعِ عليه بَينَ المُسلِمينَ قاطِبةً أنَّ رَدَّ نَصٍّ واحِدٍ من نُصوصِ القُرآنِ أوِ الأحاديثِ الثَّابِتةِ الصَّحيحةِ كُفرٌ، فكَيفَ بمَن رَدَّ نصوصًا كثيرةً حتَّى ما يَتَعَلَّقُ باليَومِ الآخِرِ كنُصوصِ البَعثِ والمَعادِ والحِسابِ والجَنَّةِ والنَّارِ؟!

انظر أيضا: