موسوعة الفرق

تَمهيدٌ: اعتِمادُ التَّأويلِ الباطِنيِّ


كان التَّأويلُ الباطِنيُّ هو الأداةَ الأساسيَّةَ التي اعتَمَدَها الإسماعيليُّونَ -مَعَ غُلوِّهم في شَأنِ الإمامةِ- في عَدَدٍ من مُعتَقداتِهم الشَّاذَّةِ؛ فالتَّأويلُ الخاطئُ لنُصوصِ القُرآنِ والسُّنَّةِ أدَّى إلى حُصولِ مُعتَقَداتٍ وتَصَوُّراتٍ ضالَّةٍ بلا شَكٍّ.
قال الغَزاليُّ: (أمَّا الباطِنيَّةُ فإنَّما لُقِّبوا بها لدَعواهم أنَّ لظَواهِرِ القُرآنِ والأخبارِ بَواطِنَ تجري في الظَّواهِرِ مَجرى اللُّبِّ مِنَ القِشرِ، وأنَّها بصُوَرِها توهِمُ عِندَ الجُهَّالِ الأغبياءِ صوَرًا جَليَّةً، وهي عِندَ العُقَلاءِ والأذكياءِ رُموزٌ وإشاراتٌ إلى حَقائِقَ مُعيَّنةٍ، وأنَّ مَن تَقاعد عَقلُه عن الغَوصِ على الخَفايا والأسرارِ والبَواطِنِ والأغوارِ وقَنِعَ بظَواهِرِها مُسارِعًا إلى الاغتِرارِ كان تَحتَ الآصارِ والأغلالِ مُعَنًّى بالأوزارِ والأثقالِ) [2764] ((فضائح الباطنية)) (ص: 11، 12). ويُنظر: ((تلبيس إبليس)) لابن الجوزي (ص: 102). .
وقال الشَّهرَستانيُّ: (أشهَرُ ألقابِهم: الباطِنيَّةُ، وإنَّما لَزِمَهم هذا اللَّقَبُ لحُكمِهم بأنَّ لكُلِّ ظاهِرٍ باطِنًا، ولكُلِّ تَنزيلٍ تَأويلًا) [2765] ((الملل والنحل)) (1/ 192). .
وقال الدَّيلَميُّ: (لُقِّبوا بالباطِنيَّةِ؛ لأنَّهم يَنسُبونَ لكُلِّ ظاهِرٍ باطِنًا، ويَقولونَ: إنَّ الظَّاهِرَ بمَنزِلةِ القُشورِ، والباطِنَ بمَنزِلةِ اللُّبِّ المَطلوبِ) [2766] ((بيان مذهب الباطنية وبطلانه)) (ص: 21). .
وقال يَحيى العَلَويُّ: (لُقِّبوا بالباطِنيَّةِ لدَعواهم أنَّ لظَواهِرِ القُرآنِ والأخبارِ بَواطِنَ تجري في الظَّواهِرِ مَجرى اللُّبِّ مِنَ القِشرِ، واعتَقدوا أنَّه مَنِ ارتَقى إلى عِلمِ الباطِنِ انحَطَّ عنه التَّكليفُ واستَراحَ منه، وأنَّ الجُهَّالَ هم المُنكِرونَ للباطِنِ) [2767] ((الإفحام لأفئدة الباطنية الطغام)) (ص: 22). .
وقدِ اعتَقدَ الإسماعيليَّةُ أنَّ كُلَّ شَيءٍ ظاهِرٍ مَحسوسٍ في هذا الكَونِ له مَعنًى آخَرُ خَفيٌّ يُعرَفُ بالمَعنى الباطِنِ؛ فألفاظُ القُرآنِ مَثَلًا لها مَعنًى باطِنٌ غَيرُ المَعنى الحَرفيِّ الظَّاهِرِ، ونَسَبوا إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حَديثينَ [2768] يُنظر: ((أصول الإسماعيلية)) للسلومي (ص: 475) نقلًا عن: ((أعلام النبوة)) لأبي حاتم الرازي الإسماعيليِّ. ويُنظر: ((أساس التأويل)) للقاضي ابن حيون الإسماعيلي (ص: 29، 30). ، فزَعَموا أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((ما نَزَلَت عَلَيَّ آيةٌ مِنَ القُرآنِ إلَّا ولَها ظَهرٌ وبَطنٌ)) [2769] أخرجه البزار (2081)، وابن حبان (75)، والطبراني (10/129) (10107) عن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أُنزِلَ القُرآنُ على سَبعةِ أحرُفٍ، لكُلِّ آيةٍ منها ظَهرٌ وبَطنٌ)). ضَعَّفه الألبانيُّ في ((سلسلة الأحاديث الضعيفة)) (2989). ، وأنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((ما نَزَلَت عَلَيَّ آيةً إلَّا ولَها ظَهرٌ وبَطنٌ، ولكُلِّ حَرفٍ حَدٌّ، ولكُلِّ حَدٍّ مَطلَعٌ)) [2770] أخرجه أبو يعلى (5149)، والطبري في ((التفسير)) (10)، والطحاوي (3095) باختِلافٍ يَسيرٍ. ولَفظُ الطَّحاويِّ: عن عَبدِ اللَّهِ قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أُنزِلَ القُرآنُ على سَبعةِ أحرُفٍ، لكُلِّ آيةٍ منها ظَهرٌ وبَطنٌ، ولكُلِّ حَدٍّ مَطلَعٌ)). ضَعَّفه الألبانيُّ في ((ضعيف الجامع)) (1338)، وذَكَر شُعَيب الأرناؤوط في تَخريج ((شرح السنة)) (1/263) أنَّه رويَ بإسنادين ضَعيفَينِ، الأوَّلُ لجَهالةِ أحَدِ رُواتِه، والثَّاني: فيه إبراهيمُ بنُ مُسلِمٍ الهجريُّ، وهو لَيِّنُ الحَديثِ. والحَديثُ رويَ من طَريقٍ آخَرَ؛ أخرَجَه أبو عُبَيدٍ القاسِمُ بنُ سَلامٍ في ((فضائل القرآن)) (ص97)، ونعيم بن حماد في ((الزهد)) (2/23)، والبغوي في ((شرح السنة)) (122) من حَديثِ الحَسَنِ البَصريِّ، ولَفظُ أبو عُبيدٍ: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ما أنزَلَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ آيةً إلَّا لها ظَهرٌ وبَطنٌ، وكُلُّ حَرفٍ حَدٌّ، وكُلُّ حَدٍّ مَطلَعٌ)). قال ابنُ حَزمٍ في ((الإحكام في أصول الأحكام)) (1/288): مُرسَلٌ لا تَقومُ به حُجَّةٌ، وقال البَغويُّ: مُرسَلٌ، وقال ابنُ تيميَّةَ في ((مجموع الفتاوى)) (13/232): مَوقوفٌ أو مُرسَلٌ، وقال ابنُ حَجَرٍ في ((هداية الرواة)) (1/160): مُرسَلٌ، وقال شُعَيب الأرناؤوط في تَخريج ((شرح السنة)) (122): مُرسَلٌ وإسنادُه ضَعيفٌ. . فقالوا: إنَّه لا بُدَّ لكُلِّ مَحسوسٍ من ظاهِرٍ وباطِنٍ [2771] يُنظر: ((أساس التأويل)) لابن حيون (ص: 28). .
ولأهَمِّيَّةِ التَّأويلِ الباطِنيِّ وتَأصُّلِه عِندَهم قالوا: إنَّ الذي يَقِفُ على ظاهِرِ القُرآنِ ولا يَقِفُ على تَأويلِه الباطِنيِّ مَثَلُه مَثَلُ الحِمارِ الذي يَحمِلُ أسفارًا، كما قال اللهُ تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الجمعة: 5] .
وفَرَّقوا بَينَ الظَّاهِرِ والباطِنِ بقَولِهم: إنَّ الظَّاهِرَ هو الشَّريعةُ، والباطِنَ هو الحَقيقةُ، وصاحِبُ الشَّريعةِ هو الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والدَّعوةُ الباطِنةُ نَصيبُ وَصيِّه [2772] يُنظر: ((الافتخار)) للسجستاني (ص: 71). .
ورَوَوا حَديثًا عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: ((أنا صاحِبُ التَّنزيلِ، وعَليٌّ صاحِبُ التَّأويلِ)) [2773] لم نقف عليه فيما لدينا من كتبٍ مُسنَدةٍ .
نماذِجُ من تأويلِ الإسماعيليَّةِ للآياتِ القُرآنيَّةِ:
أكثَرَ الإسماعيليَّةُ من تَأويلِ الآياتِ القُرآنيَّةِ تَأويلًا باطِنيًّا، يَظهَرُ فيه التَّلاعُبُ بآياتِ اللهِ تَعالى، ولهم تَفاسيرُ خاصَّةٌ بتَأويلِ الآياتِ القُرآنيَّةِ، ككِتابِ الكَشفِ للدَّاعي الإسماعيليِّ جَعفَرِ بنِ مَنصورِ اليَمَنِ.
ومِن ذلك قَولُهم في تَأويلِ قَولِ اللهِ تَعالى: الم في سورةِ البَقَرةِ: (الألِفُ فيها تَدُلُّ على النَّاطِقِ، واللَّامُ على الوَصيِّ، والميمُ على الإمامِ المُتِمِّ)، وبهذا الأسلوبِ أوَّلوا جَميعَ الحُروفِ المُقَطَّعةِ في أوائِلِ السُّوَرِ [2774] يُنظر: ((الإسماعيلية تاريخ وعقائد)) لإحسان ظهير (ص: 539). .
وفي تَأويلِ آيةِ الكُرسيِّ قال أحَدُ دُعاةِ الإسماعيليَّةِ: (قَولُه: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ [البقرة: 255] فكُرسيُّه في العالَمِ الرُّوحانيِّ هو تَأليهُ الذي أقامَه لهِدايةِ أهلِ عالَمِ الإبداعِ، وسِعَهم رَحمةً وإفادةً، وكُرسيُّه في العالَمِ الدِّينيِّ هو كُلُّ مَقامٍ في عَصرِه من نَبيٍّ ووَصيٍّ وإمامٍ، وهو الذي وسِعَ مَن في ضِمنِه من سَمَواتِ الدِّينِ وأرضِه هِدايةً ورَحمةً، وكُرسيُّه في العالَمِ الحِسِّيِّ الطَّبيعيِّ النَّفسُ الفَلَكيَّةُ، والحَياةُ المُحَرِّكةُ لها العِنايةُ الإلَهيَّةُ التي وسِعَت كُلَّ ما في عالَمِ الطَّبيعةِ تَجرِبةً ونَقلًا لكُلِّ شَيءٍ من جُزئيَّاتِها إلى ما يَليقُ به من كونٍ أو فسادٍ) [2775] ((مسائل مجموعة من الحقائق العالية والأسرار السامية)) لمؤلف مجهول (ص: 35، 36). .
وفي تَأويلِ قَولِ اللهِ تعالى: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [البقرة: 189] ، تَهَكَّم المُؤَيدُ الشِّيرازيُّ أحَدُ دُعاةِ الباطِنيَّةِ بتَفسيرِ أهلِ السُّنَّة لهذه الآيةِ، وأخذ يُؤَوِّلُها تَأويلًا باطِنيًّا حَسَبَ مَنهَجِهم في تَأويلِ النُّصوصِ، فقال: (فيا لها من غِشاوةٍ تَمتَدُّ على بَصَرِ مَن لا يَتَدَبَّرُ فحوى هذه الآيةِ حَقَّ التَّدَبُّرُ، ولا يَتَفَكَّرُ في مَعناها واجِبَ التَّفَكُّرِ، مَنِ الذي جَهِلَ فيما مَضى مِنَ الأزمِنةِ وغابِرِها، وغائِبِ الأوقاتِ وحاضِرِها أنَّ الأبوابَ على البُيوتِ من أجلِ الدُّخولِ فيها مَنصوبةٌ، وإليه على عِلَّاتِه مَنسوبةٌ؟ فما وَجهُ تَأديبِ اللهِ سُبحانَه لخَلقِه بشَيءٍ يَتَساوى في عِلمِه العالِمُ والجاهِلُ، والغَنيُّ والفَقيرُ مِنَ البَصيرةِ لَولا أنَّه سُبحانَه عنى بالبَيتِ غَيرَ المَبنيِّ مِنَ الطِّينِ والحِجارةِ، وكَنَّى عن سِواه بهذه الكِنايةِ والإشارةِ؟ ولمَ لا يَكونُ هذا البَيتُ بَيتَ اللهِ الحَيَّ النَّاطِقَ الذي أغاثَ به سُبحانَه الخَلائِقَ، وهو رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في عَصرِه باديًا، وكُلُّ إمامٍ في زَمانِه ثانيًا، بُيوتُ اللهِ المَعمورةُ بالحُكمِ ومَعالِمِ الدِّينِ التي هي مَنجاةُ الأمَمِ؟ ولمَ لا يَكونُ بابُ البَيتِ أميرَ المُؤمِنينَ الذي هو بابُ النَّجاةِ وسَبَبٌ دائِمٌ للحَياةِ؟ فعِندَ ذلك يَخلُصُ مِنَ الآيةِ المَذكورةِ الزُّبدةُ، وتَسقُطُ عنها في النَّقصِ إذا حُمِلَت على جِهةٍ ظاهِرُها العُهدةُ، ويَكونُ كلامُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عليها دَليلًا، وبما تَكَلَّفَت به كفيلًا: «أنا مَدينةُ العِلم وعَليٌّ بابُها، فمَن أرادَ العِلمَ فليَأتِ البابَ» [2776] أخرجه الطبراني (11/65) (11061)، وابن عدي في ((الكامل في الضعفاء)) (3/412) واللفظ له، والحاكم (4637) من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما. قال يحيى بنُ مَعينٍ كما في ((تاريخ بغداد)) للمِزِّي (11/205): كَذِبٌ، ليس له أصلٌ، مُنكَرٌ جِدًّا، وقال الإمامُ أحمد في ((العلل ومعرفة الرجال)) (3/9): ليس له أصلٌ، كَذِبٌ، وقال العقيلي في ((الضعفاء الكبير)) (3/149): لا يصِحُّ في هذا المتنِ حديثٌ، وقال ابن حبان في ((المجروحين)) (2/136): لا أصلَ له. [2777] ((المجالس المؤدية)) (ص: 203). .
ولكَونِ هذه التَّأويلاتِ الباطِنيَّةِ للآياتِ القُرآنيَّةِ غَيرَ مَبنيَّةٍ على حُدودٍ وضَوابِطَ أو قُيودٍ، ونَجِدُ الإسماعيليَّةَ يَتَهَجَّمونَ على عُلَماءِ المُسلِمينَ، ولا سيَّما المُفَسِّرونَ منهم، فيَصِفونَهم بالعامَّةِ حينًا، وبالجَهلِ حينًا آخَرَ، فهذا قاضي الإسماعيليَّةِ النُّعمانُ بنُ حَيُّونَ يَقولُ عِندَ تَأويلِه لإِحدى الآياتِ القُرآنيَّة: (إنَّ العامَّةَ الجاهِلينَ المُسَمَّونَ بالعُلَماءِ قد عَمَّهم الجَهلُ حَيثُ فسَّروا قَولَه تعالى: وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم [الأنعام: 38] ، وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ [النمل: 82] بأنَّ المُرادَ بالدَّوابِّ ذَوو الحَوافِرِ والأظلافِ، واللهُ مُنَزَّهٌ عَمَّا يَقولونَ، ومُبَرَّأٌ من إفكِهم وضَلالَتِهم. إنَّ المُرادَ بالدَّوابِّ هم الدُّعاةُ، والأرضُ في الآيةِ الثَّانيةِ مِثلُ الحُجَّةِ، والدَّابَّةُ الجَناحُ، والطَّائِرُ يَدُلُّ على الدَّاعي؛ لأنَّ هناك جَناحًا أيمَنَ وجَناحًا أيسَرَ، وهو ما تَدُلُّ عليه الآيةُ الأولى: وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ، ومِمَّا يُؤَيِّدُ ذلك قَولُه تَعالى حِكايةً عن عيسى: وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي [المائدة: 110] ، يَعني: أقيمُ لكم داعيًا مِنَ الإمامِ) [2778] يُنظر: مخطوطة ((الرسالة المذهبة)) لابن حيون (ص: 92 -93) باختصارٍ وتصرف. .
وفي تَأويلِ قَولِ اللهِ تعالى: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام: 79] ، قال أحَدُ الباطِنيَّةِ: (مَعناها: إنِّي وجَّهتُ وجهيَ للَّذي فطَرَ الأنبياءَ العِظامَ، وأرسَلَهم بالظَّواهِرِ في الأنامِ، وأرسَلَ حُجَجَهم بتَأويلِ ما أتوا به، وبحَقائِقِه وأسرارِه ودَقائِقِه، وما أنا مِنَ القائِلينَ: إنَّه يَحِلُّ في الأجسامِ، بل هو يَتَجَلَّى في كُلِّ زَمانٍ ومَكانٍ بكُلِّ مَقامٍ، وذلك هو العَقلُ العاشِرُ، والمُدَبِّرُ الظَّاهِرُ) [2779] يُنظر: مخطوطة ((حياة الأحرار)) للمكرمي (ص: 24). .
وفي تَأويلِ قِصَّةِ ابنَي آدَمَ الوارِدة في قَولِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا إلى قولِه: قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ [المائدة: 27-31] ، ذَكَرَ الدَّاعي الباطِنيُّ الكرمانيُّ تَأويلاتٍ باطِنيَّةً فجَّةً لجَميعِ الألفاظِ والأعلامِ الوارِدةِ في تلك الآياتِ الخَمسِ، فابنا آدَمَ هما: الضِّدُّ الذي اعتَقدَ أنَّ العِبادةَ ليست إلَّا بالظَّاهِرِ مِنَ الأعمالِ، والآخَرُ هو الوَليُّ الذي اعتَقدَ أنَّ العِبادةَ بالظَّاهِرِ والباطِنِ، وأنَّ الخَلاصَ بهما جَميعًا، والقُربانُ هو اعتِقادُ كُلٍّ منهما، فتُقُبّلَ من أحَدِهما وهو الوَليُّ، ولم يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ وهو الضِّدُّ، والقَتلُ هو دَفعُ مَن يَستَحِقُّ مَرتَبةً من مَراتِبِ الدَّعوةِ عنها إلى أقَلَّ منها، والغُرابُ عِبارةٌ عن رَجُلٍ من أصحابِ النَّاطِقِ ليوَضِّحَ للضِّدِّ أمرَه ومَنزِلَتَه [2780] يُنظر: ((الرياض)) للكرماني (ص: 182-185). .
قال المُستَشرِقُ جُولدزِيهَر: (آياتُ الكِتابِ سَهلةٌ يَسيرةٌ، ولَكِنَّها على سُهولَتِها تُخفي وراءَ ظاهِرِها مَعنًى خَفيًّا مُستَتِرًا، ويَتَّصِلُ بهذا المَعنى الخَفيِّ مَعنى ثالِثٌ يُحَيِّرُ ذَوي الأفهامِ الثَّاقِبةِ ويُعييها، والمَعنى الرَّابِعُ ما من أحَدٍ يُحيطُ به سِوى اللهِ... وهكذا نَصِلُ إلى مَعانٍ سَبعةٍ الواحِدِ تِلوَ الآخَرِ، ففي كُلِّ مَرحَلةٍ أو دَرَجةٍ أعلى من سابِقَتِها يُصبِحُ المَعنى الباطِنيُّ والرَّمزيُّ المُتَعَلِّقُ بالمَرحَلةِ السَّابِقةِ أساسًا للقيامِ بتَأويلاتٍ أخرى أعظَمَ دِقَّةً والتِواءً إلى أن تَبَخَّرَ تَبَخُّرًا تامًّا مَوضوعُ التَّفسيرِ الإسلاميِّ الذي كان الأساسَ الأوَّلَ مُنذُ البِدايةِ) [2781] ((العقيدة والشريعة)) (ص: 243). .
تأويلُ الإسماعيليَّةِ للتَّكاليفِ الشَّرعيَّةِ:
نَظَرًا لاستيلاءِ فِكرةِ التَّأويلِ الباطِنيِّ على عُقولِ الإسماعيليَّةِ فإنَّها لا تَسري فقَط في أمورِهم الاعتِقاديَّةِ، بل حتَّى في العِباداتِ العَمَليَّةِ كالصَّلاةِ والزَّكاةِ والصَّومِ والحَجِّ والجِهادِ، فقد أوَّلوها كذلك تَأويلًا باطِنيًّا، كما في كِتاب: "تَأويل دَعائِم الإسلامِ" لقاضي الإسماعيليَّةِ ابنِ حَيُّونَ، ومِن ذلك قَولُه عن الصَّلاةِ: (إنَّ مَثَلَها مَثَلُ الدَّعوةِ، والمُؤَذِّنُ الذي يُنادي للصَّلاةِ هو الدَّاعي الذي يَدعو إلى باطِنِ الدَّعوةِ، فظاهِرُ الصَّلاةِ إتمامُ رُكوعِها وسُجودِها وفُروضِها ومسنونِها، وباطِنُها إقامةُ دَعوةِ الحَقِّ في كُلِّ عَصرٍ، إنَّ مَثَلَ الصَّلَواتِ الخَمسِ في عَدَدِها مَثَلُ الدَّعَواتِ الخَمسِ لأولي العَزمِ مِنَ الرُّسُلِ الذين صَبَروا على ما أُمِروا به ودَعَوا إليه، فكُلُّ صَلاةٍ منها مَثَلٌ لدَعوةِ كُلٍّ واحِدٍ من أولي العَزمِ الخَمسةِ؛ فصَلاةُ الظُّهرِ مَثَلٌ لدَعوةِ نُوحِ، والعَصرُ مَثَلٌ لدَعوةِ إبراهيمَ، والمَغرِبُ مَثَلٌ لدَعوةِ موسى، والعِشاءُ الآخِرةُ مَثَلٌ لدَعوةِ عيسى، والفَجرُ وهي الصَّلاةُ الخامِسةُ مَثَلٌ للدَّعوةِ الخامِسةِ، وهي دَعوةُ خامِسِ أولي العَزمِ مِنَ الرُّسُلِ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) [2782] ((تأويل الدعائم)) (1/ 177 – 179). .
وقال عن الزَّكاةِ: (إنَّ المُرادَ منها في الظَّاهِرِ إخراجُ ما يَجِبُ على الأغنياءِ في أموالِهم، ودَفعُ ذلك إلى أئِمَّةِ الدِّينِ، تَعَبَّدَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ النَّاسَ بدَفعِ ذلك إليهم، وأمَّا في الباطِنِ فمَثلُها مَثَلُ الأسُسِ والحُجَجِ الذين يُطَهِّرونَ النَّاسَ ويُصلِحونَ أحوالَهم، ويَنقُلونَهم في دَرَجاتِ الفَضلِ بما يوجِبُه أعمالُهم، فيَكونُ على هذا قَولُه: لا صَلاةَ إلَّا بزكاةٍ، يَعني: أنَّه لا تَقومُ الدَّعوةُ إلَّا بمَعرِفة الأسُسِ الذين هم أوصياءُ النَّبيِّينَ، والحُجَجِ الذين هم أوصياءُ الأئِمَّة). وحينَما تَحَدَّثَ عن وضعِ الزَّكاةِ في غَيرِ مَوضِعِها قال: (تَأويلُ ذلك في الباطِنِ أنَّ طَهارةَ أهلِ كُلِّ عَصرٍ وزَمانٍ إنَّما يَكونُ عِندَ إمامِ زَمانِهم أو عِندَ مَن أقامهم ونَصبَهم لطَهارَتِهم، فما كان من أعمالِهم التي توجِبُ الطَّهارةَ لهم لم يُجزِهم دَفعُها إلَّا إلى مَن يَلي طَهارَتَهم وتَزكيَتَهم) [2783] ((تأويل الدعائم)) (3/ 58، 59). .
وقال عن الصَّومِ: (إنَّ له مَعنَيَينِ: المَعنى الظَّاهِرُ هو المُتَعارَفُ عِندَ عامَّةِ النَّاسِ: الإمساكُ عن الطَّعامِ والشَّرابِ والجِماعِ، وما يجري مَجرى ذلك، وأمَّا المَعنى الباطِنُ للصَّومِ فهو كِتمانُ عِلمِ باطِنِ الشَّريعةِ عن أهلِ الظَّاهِر، والإمساكُ عن المُفاتَحةِ به مِمَّن لم يُؤذَنْ له في ذلك،... إنَّ مَثَلَ أيَّامِ شَهرِ رَمَضانَ التي أمَرَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ بصَومِها ما يُقابِلُها من عَشَرةِ أئِمَّةٍ، وعَشَرةِ حُجَجٍ، وعَشَرةِ أبوابٍ، وذلك في التَّأويلِ كِتمانُ أمرِهم، وما يُلقونَه مِنَ التَّأويلِ إلى مَن عامَلوه إلى أن يَأذَنوا في ذلك لمَن يَرَونَه... إنَّ الأيَّامَ أمثالُها في الباطِنِ أمثالُ النُّطَقاءِ، واللَّيالي أمثالُها أمثالُ الحُجَجِ، فكَما أنَّه لا بُدَّ لكُلِّ يَومٍ من لَيلةٍ فكذلك لا بُدَّ لكُلِّ ناطِقٍ من حُجَّةٍ، فمَثَلُ لَيلةِ القَدْرِ مَثَلُ حُجَّةِ خاتَمِ الأئِمَّةِ، وحُجَّتُه يَقومُ قَبلَه ليُنذِرَ النَّاسَ بقيامِه، ويُبَشِّرُهم به، ويَحُضُّهم على الأعمالِ الصَّالِحةِ قَبلَ ظُهورِه، واغتِنامِ ذلك؛ لأنَّه إذا قامَ انقَطَعَ العَمَلُ، ولم يُقبَلْ ولم يَنفَعْ) [2784] ((تأويل الدعائم)) (3/ 107). .
وقال عن فريضةِ الحَجِّ: (إنَّ للحَجِّ ظاهِرًا وباطِنًا؛ فظاهِرُه الإتيانُ إلى البَيتِ العَتيقِ بمَكَّةَ لقَضاءِ المَناسِكِ عِندَه، وباطِنُه الذي جُعِلَ الظَّاهِرُ دَليلًا عليه إتيانُ إمامِ الزَّمانِ من نَبيٍّ وإمامٍ؛ لأنَّ إمامَ الزَّمانِ مَثَلُه في الباطِنِ مَثَلُ البَيتِ الحَرامِ)، وقال عن الاستِطاعة الوارِدة في قَولِه تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران: 97] : (لها مَعنَيانِ: الظَّاهِرُ وُجودُ الزَّادِ والرَّاحِلةِ، وأمنُ السَّبيلِ، وأمَّا المَعنى الباطِنُ المُرادُ مِنَ الزَّادِ فهو العِلمُ والحِكمةُ اللَّذَانِ بهما حَياةُ الأرواحِ الحَياةَ الدَّائِمةَ، والرَّاحِلةُ مَثَلُها في الباطِنِ أولياءُ اللهِ وأسبابُهم الذين يَحمِلونَ أثقالَ العِبادِ دينًا ودُنيا) [2785] ((تأويل الدعائم)) (3/ 143، 144). .
وقد أوَّلوا الجِهادَ كذلك تَأويلًا باطِنيًّا، فقال ابنُ حَيُّونَ عن المَعنى الباطِنِ للجِهادِ: إنَّه الاستِجابةُ لدَعوَتِهم، ومُجاهَدةُ النَّفسِ على الإيمانِ بها، ورَدعُ مَن يَمتَنِعُ مِنَ القيامِ بنَشرِها. وقال عن تَأويلِ النَّفَقةِ في الجِهادِ: (مَعناها ما يَتَلَقَّاه المُستَفيدونَ مِنَ المُفيدينَ من عِلمِ أولياءِ اللهِ؛ حَيثُ إنَّهم يُفيدونَ نُقَباءَهم من عِلمِ ظاهِرِ الشَّريعةِ وعِلمِ باطِنِها حَسبَما يَنبَغي لهم، ويُفيدُ النُّقَباءُ من ذلك من يَستَفيدُ منهم بقَدرِ قِسطِه، وكذلك يُفيدُ أهلُ كُلِّ طَبَقةٍ من دونِهم مِنَ المُستَفيدينَ، فهم بقَدرِ احتِمالِهم وما توجِبُه حُدودُهم) [2786] ((تأويل الدعائم)) (3/ 270-272). .
قال البَغداديُّ: (إنَّهم تأوَّلوا لكُلِّ رُكنٍ من أركانِ الشَّريعةِ تَأويلًا يورِثُ تَضليلًا؛ فزَعَموا أنَّ مَعنى الصَّلاةِ موالاةُ إمامِهم، والحَجُّ زيارتُه، وإدمانُ خِدمَتِه، والمُرادُ بالصَّومِ الإمساكُ عن إفشاءِ سِرِّ الإمامِ دونَ الإمساكِ عن الطَّعامِ، والزِّنا عِندَهم إفشاءُ سِرِّهم بغَيرِ عَهدٍ وميثاقٍ، وزَعَموا أنَّ من عَرف مَعنى العِبادةِ سَقَطَ عنه فرضُها، وتأوَّلوا في ذلك قَولُه: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر: 99] ، وحَمَلوا اليَقينَ على مَعرِفة التَّأويلِ، وقد قال القَيرَوانيُّ في رِسالَتِه إلى سُلَيمانَ بنِ الحَسَنِ: إنِّي أوصيك بتَشكيكِ النَّاسِ في القُرآنِ والتَّوراةِ والزَّبورِ والإنجيلِ، وبدَعوَتِهم إلى إبطالِ الشَّرائِعِ، وإلى إبطالِ المَعادِ والنُّشورِ مِنَ القُبورِ، وإبطالِ المَلائِكةِ في السَّماءِ، وإبطالِ الجِنِّ في الأرضِ، وأوصيك بأن تَدعوَهم إلى القَولِ بأنَّه قد كان قَبلَ آدَمَ بشرٌ كثيرٌ؛ فإنَّ ذلك عَونٌ لك على القَولِ بقِدَمِ العالَمِ، وفي هذا تَحقيقُ دَعوانا على الباطِنيَّةِ أنَّهم دَهريَّةٌ يَقولونَ بقِدَمِ العالَمِ، ويَجحَدونَ الصَّانِعَ) [2787] ((الفرق بين الفرق)) (ص: 280). .
وقال البَغداديُّ أيضًا: (غَرَضُ الباطِنيَّةِ القَولُ بمَذاهِبِ الدَّهريَّةِ، واستِباحةُ المُحرَّماتِ، وتَركُ العِباداتِ) [2788] ((الفرق بين الفرق)) (ص: 282). .
ونَقَلَ رِسالةً مُتَبادَلةً بَينَ باطِنيِّينَ ومِمَّا جاءَ فيها: (وهل الجَنَّة إلَّا هذه الدُّنيا ونَعيمُها؟ وهل النَّارُ وعَذابُها إلَّا ما فيه أصحابُ الشَّرائِعِ مِنَ التَّعَبِ والنَّصَبِ في الصَّلاةِ والصِّيامِ والجِهادِ والحَجِّ؟!) [2789] ((الفرق بين الفرق)) (ص: 282). .
وقال الحَمَّاديُّ اليَمانيُّ -وهو مِمَّن دَخَلَ مَذهَبَهم واطَّلَعَ على أسرارِهم-: (إنَّهم في أوَّلِ الدَّعوةِ يُلبِّسون على المَدعوِّ فيَحُضُّونَه على شَرائِعِ الإسلامِ، لكِنَّهم يَخدَعونَه برِواياتٍ مُحَرَّفةٍ، وأقوالٍ مُزَخرَفةٍ، ويَتلونَ عليه القُرآنَ على غَيرِ وجهِه، ويُحَرِّفونَ الكَلِمَ عن مَواضِعِه، فإذا رَأوا منه قَبولًا وانقيادًا قالوا له: لا تَقنَعْ لنَفسِك بما قَنِعَ به العَوامُّ مِنَ الظَّواهِرِ، وتَدَبَّرِ القُرآنَ ورُموزَه، واعرِفْ مَثَلَه ومَمثولَه، واعرِفْ مَعانيَ الصَّلاةِ والطَّهارةِ والزَّكاةِ والصَّومِ والحَجِّ؛ فإنَّ لهذه مَمثولاتٍ مَحجوبةً وهو باطِنُها؛ فالصَّلاةُ صَلاتانِ، والزَّكاةُ زَكاتانِ، وكذلك الحَجُّ والصَّومُ، وما خَلق اللهُ سُبحانَه من ظاهِرِ الأدِلَّةِ باطِنٌ، فالظَّاهِرُ ما تَساوى به النَّاسُ وعَرَفه الخاصُّ والعامُّ، وأمَّا الباطِنُ فقَصَرَ عِلمُ النَّاسِ عن العِلمِ به فلا يَعرِفُه إلَّا القَليلُ، فلا يَزالُ الدَّاعي يَنقُلُ مدعوَّه من دَرَجةٍ إلى أخرى حتَّى يَحُطَّ عنه جَميعَ التَّكاليفِ الشَّرعيَّةِ، ويَقَعُ ذلك المُستَجيبُ مَوقِعَ الاتِّفاقِ والموافَقةِ؛ لأنَّه مَذهَبُ الرَّاحةِ والإباحةِ يُريحُهم مِمَّا تُلزِمُهم الشَّرائِعُ من طاعةِ اللهِ، ويُبيحُ لهم ما حُظِرَ عليهم من مَحارِمِ اللهِ) [2790] ((كشف أسرار الباطنية)) (ص: 11، 12). .
وقال الغَزاليُّ عن مُعتَقَدِهم الباطِنيِّ في زَعمِهم: (إنَّ مَنِ ارتَقى إلى عِلم الباطِن انحَطَّ عنه التَّكليفُ واستَراحَ من أعبائِه، وهم المُرادونَ بقَولِه تعالى: وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ [الأعراف: 157] )... إنَّ مُعتَقدَ الباطِنيَّةِ في التَّكاليفِ الشَّرعيَّةِ الإباحةُ المُطلَقةُ ورَفعُ الحِجابِ واستِباحةُ المَحظوراتِ واستِحلالُها، وإنكارُ الشَّرائِعِ، وبناءً على هذا المُعتَقَدِ صَنَّفوا الخَلقَ صِنفَينِ:
الصِّنفُ الأوَّلُ: المُستَجيبونَ لدَعوَتِهم، وهؤلاء في نَظَرِهم أحاطوا من جِهةِ الإمامِ بحَقائِقِ الأمورِ، واطَّلَعوا على بَواطِنِ الظَّواهِرِ، حتَّى وصَلوا إلى رُتبةِ الكَمالِ في العُلومِ، وعِندَئذٍ تَنحَطُّ عنهم التَّكاليفُ العِلميَّةُ، وتُحَلُّ عنه قُيودُها؛ لأنَّ المَقصودَ من أعمالِ الجَوارِحِ تَنبيهُ القَلبِ ليَنهَضَ لطَلَبِ العِلمِ، فإذا نالَه استَعَدَّ للسَّعادةِ القُصوى، وسَقَطَ عنه تَكليفُ الجَوارِحِ.
الصِّنفُ الثَّاني: الجُهَّالُ والأغبياءُ -أيِ المُسلِمونَ في زَعمِهم- الذين يَجهَلونَ بَواطِنَ الأمورِ وتَأويلاتِها، فهؤلاء لا يُمكِنُ رياضةُ نُفوسِهم إلَّا بالأعمالِ الشَّاقَّةِ؛ ولذا يُكَلَّفونَ بتَأديةِ العِباداتِ وأعمالِ الجَوارِحِ عُقوبةً ونَكالًا لهم... وهذا فنٌّ مِنَ الإغواءِ شَديدٌ على الأذكياءِ، والغَرَضُ منه هَدمُ قَوانينِ الشَّرعِ) [2791] ((فضائح الباطنية)) (ص: 12، 46، 47). .
وقال ابنُ تيميَّةَ عن الإسماعيليَّةِ: (يُنكِرونَ حَقائِقَ ما أخبَرَ اللهُ به عن نَفسِه وعن اليَومِ الآخِرِ، ثُمَّ إنَّ كثيرًا منهم يَجعَلونَ الأمرَ والنَّهيَ من هذا البابِ؛ فيَجعَلونَ الشَّرائِعَ المَأمورَ بها والمَحظوراتِ المَنهيَّ عنها لها تَأويلاتٌ باطِنةٌ تُخالِفُ ما يَعرِفُه المُسلِمونَ منها، كما يتأوَّلون مِنَ الصَّلَواتِ الخَمسِ وصيامِ شَهرِ رَمَضانَ وحَجِّ البَيتِ، فيَقولونَ: إنَّ الصَّلَواتِ الخَمسَ مَعرِفةُ أسرارِهم، وإنَّ صيامَ رَمَضانَ كِتمانُ أسرارِهم، وإنَّ حَجَّ البَيتِ السَّفَرُ إلى شُيوخِهم، ونَحوُ ذلك مِنَ التَّأويلاتِ التي يُعلَمُ بالاضطِرارِ أنَّها كذِبٌ وافتِراءٌ على الرُّسُلِ صَلَواتُ اللهِ عليهم، وتَحريفٌ لكَلامِ اللَّهِ ورَسولِه عن مَواضِعِه، وإلحادٌ في آياتِ اللهِ) [2792] ((مجموع الفتاوى)) (3/ 29). .
وقال ابنُ تيميَّةَ عن أهلِ الكَلامِ: (لمَّا فتَحوا بابَ القياسِ الفاسِدِ في العَقليَّاتِ والتَّأويلِ الفاسِدِ في السَّمعيَّاتِ؛ صارَ ذلك دِهليزًا للزَّنادِقةِ المُلحِدينَ إلى ما هو أعظَمُ من ذلك مِنَ السَّفسَطةِ في العَقليَّاتِ والقَرْمَطةِ في السَّمعيَّاتِ، وصارَ كُلُّ من زادَ في ذلك شَيئًا دَعاه إلى ما هو شَرٌّ منه؛ حتَّى انتَهى الأمرُ بالقَرامِطةِ إلى إبطالِ الشَّرائِعِ المَعلومةِ كُلِّها، كما قال لهم رَئيسُهم بالشَّامِ: قد أسقَطْنا عنكُمُ العِباداتِ، فلا صَومَ ولا صَلاةَ ولا حَجَّ ولا زَكاةَ) [2793] ((مجموع الفتاوى)) (5/ 552). .
وقال أيضًا: (أمَّا مَن جَعَلَ كمالَ التَّحقيقِ الخُروجَ مِنَ التَّكليفِ فهذا مَذهَبُ المَلاحِدةِ مِنَ القَرامِطةِ والباطِنيَّةِ ومَن شابَهَهم مِنَ المَلاحِدةِ المُنتَسِبينَ إلى عِلمٍ أو زُهدٍ أو تَصَوُّفٍ أو تَزهُّدٍ، يَقولُ أحَدُهم: إنَّ العَبدَ يَعمَلُ حتَّى تَحصُلَ له المَعرِفةُ، فإذا حَصَلَت زالَ عنه التَّكليفُ، ومَن قال هذا فإنَّه كافِرٌ مُرتَدٌّ باتِّفاقِ أئِمَّةِ الإسلامِ؛ فإنَّهم مُتَّفِقونَ على أنَّ الأمرَ والنَّهيَ جارٍ على كُلِّ بالِغٍ عاقِلٍ إلى أن يَموتَ، قال تَعالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر: 99] ، قال الحَسَنُ البَصريُّ: لم يَجعَلِ اللهُ لعَمَلِ المُؤمِنِ غايةً دونَ المَوتِ، وقَرَأ هذه الآيةَ. واليَقينُ هُنا ما بَعدَ المَوتِ، كما قال تَعالى في الآيةِ الأخرى: وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ [المدثر: 46- 47] ، ومنه قَولُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الحَديثِ الصَّحيحِ لمَّا ماتَ عُثمانُ بنُ مَظعونٍ: ((أمَّا عُثمانُ فإنَّه أتاه اليَقينُ من رَبِّه)) [2794] أخرجه البخاري (3929) من حديثِ أمِّ العلاءِ عَمَّةِ حزامِ بنِ حَكيمٍ رَضِيَ اللهُ عنها، بلفظ: ((أمَّا هو فقد جاءَه واللهِ اليقينُ)). ) [2795] ((مجموع الفتاوى)) (11/ 539، 540). .
وكُتُبُ الباطِنيَّةِ ظاهِرٌ فيها التَّحَلُّلُ مِنَ الشَّرائِعِ، وإسقاطُ العَمَلِ بالشَّريعةِ الإسلاميَّةِ، فمِن أدعيةِ المُعِزِّ العُبَيديِّ دُعاءٌ أسمَوه (دُعاء يَومِ السَّبتِ)، ومِمَّا جاء فيه قَولُه: (وعَلى القائِمِ بالحَقِّ، النَّاطِقِ بالصِّدقِ، التَّاسِعِ من جَدِّه، الثَّامِنِ من أبيه، الكَوثَرِ السَّابِعِ من آبائِه الأئِمَّةِ، سابِعِ الرُّسُلِ من آدَمَ، وسابِعِ الأوصياءِ مِن شِيثَ، وسابِعِ الأئِمَّةِ مِنَ البَرَرةِ... الذي شَرَّفتُه وعَظَّمتُه وكَرَّمتُه، وختمَتُ به عالَمَ الطَّبيعةِ، وعَطَّلتُ بقيامِه ظاهِرَ شَريعةِ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، كُلُّ ذلك بالقوَّةِ لا بالفِعلِ) [2796] ((الحقائق الخفية)) للداعي طاهر الحارثي (ص: 129، 130). .
وقال أحَدُ دُعاةِ الباطِنيَّةِ الإسماعيليَّةِ: (مَن عَرَفَ هذا الباطِنَ سَقَطَ عنه عَمَلُ الظَّاهِرِ، وإنَّما وُضِعَتِ الأصفادُ والأغلالُ على المُقَصِّرينَ، أمَّا مَن بَلَغَ وعَرَفَ هذه الدَّرَجاتِ التي قَرَأتُها عَلَيك فقد أعتَقتُه مِنَ الرِّقِّ، ورَفَعتُ عنه الأغلالَ والأصفادَ وإقامةَ الظَّاهِرِ) [2797] ((الهفت الشريف)) رواية المفضل الجعفي (ص: 65). .
وقال داعيهم الباطِنيُّ سِنان راشِد الدِّين: (إنَّ الإنسانَ مَتى عَرَفَ الصُّورةَ الدِّينيَّةَ فقد عَرَفَ حُكمَ الكِتابِ، ورُفِعَ عنه الحِسابُ، وسَقَطَ عنه التَّكليفُ وسائِرُ الأسبابِ) [2798] ((شيخ الجبل الثالث)) لغالب (ص: 141). .
فتلك نُصوصُ القَومِ ناطِقةً بنَفسِها على الإقرارِ والاعتِرافِ على غَرَضِهم مِنَ التَّأويلِ الباطِنيِّ، وهو إسقاطُ الجانِبِ العَمَليِّ من دينِ الإسلامِ بتَأويلاتٍ ساقِطةٍ، ولهم مَعَ ذلك أغراضٌ أخرى هي في الجُملةِ ثَلاثةُ أمورٍ:
الأمرُ الأوَّلُ: التَّشكيكُ في المَصادِرِ الأصليَّةِ للمُسلِمينَ، وهما كِتابُ اللهِ عَزَّ وجَلَّ وسُنَّةُ نَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ومِن وصايا أحَدِ أئِمَّتِهم إلى داعٍ من دُعاتِه قَولُه: (وأوصيك بتَشكيكِ النَّاسِ في القُرآنِ والتَّوراةِ والزَّبورِ والإنجيلِ، وبدَعوَتِهم إلى إبطالِ الشَّرائِعِ وإبطالِ المَعادِ) [2799] يُنظر: ((الفرق بين الفرق)) للبغدادي (ص: 277). .
الأمرُ الثَّاني: تَقريرُ الإمامةِ التي هي أصلٌ من أصولِهم، ومِن طَريقِها يُشَرِّعُ أئِمَّتُهم بأهوائِهم ما يُريدونَ، بدَعوى أنَّهم أصحابُ التَّأويلِ الذين يَعرِفونَ بَواطِنَ النُّصوصِ والأدِلَّةَ دونَ غَيرِهم مِنَ النَّاسِ.
الأمرُ الثَّالثُ: الدُّخولُ إلى النَّاسِ من عِدَّةِ وُجوهٍ للدَّعوةِ إلى مَذهَبِهم؛ فمَن كان مائِلًا إلى التَّحَلُّلِ مِنَ العِباداتِ والتَّكاليفِ أوَّلوا له النُّصوصَ على الوَجهِ الذي يَستَطيعونَ به جَذبَه إليهم، ومَن كان مائِلًا إلى الشَّهَواتِ فتَحوا له بابَ الانغِماسِ فيها، ومَن كان مائِلًا إلى الزُّهدِ حَمَلوه على العِباداتِ، وهكذا يُعتَبَرُ التَّأويلُ الباطِنيُّ أصلًا من أصولِ الباطِنيَّةِ على تَعَدُّدِ فِرَقِها وتَشَعُّبِ سُبُلِها؛ لأنَّها تُؤَدِّي إلى هذه الأهدافِ والغاياتِ التي يَسعى إليها زَنادِقةُ الباطِنيَّةِ هَدمًا وتَخريبًا للدِّينِ.
وفي استِدلالِهم بالآياتِ القُرآنيَّةِ وما صَحَّ مِنَ الأحاديثِ القَليلةِ جِدًّا يُحَقِّقونَ أمورًا هي:
1- دَعمُ حَركَتِهم وعَقائِدِهم الباطِنيَّةِ وتَعزيزُها.
2- عَدَمُ رَفضِ القُرآنِ في الظَّاهِرِ ككِتابٍ دينيٍّ مُقدَّسٍ لَدى المُسلِمينَ.
3- التَّخَلِّي في الحَقيقةِ عن أحكامِ القُرآنِ من خِلالِ تَأويلِ آياتِه تَأويلًا باطِنيًّا.
وفي نَفيِهم أو تَجاوُزِهم المَعانيَ الظَّاهِريَّةَ للقُرآنِ يَبرُزُ الفَراغُ الفِكريُّ الذي تَملَؤُه تلك المَعاني الصَّحيحةُ التي جَعَلَها اللهُ بزَعمِهم هِدايةً لعِبادِه، فيَخوضون بأهوائِهم وآرائِهم في تَشريعِ ما لم يُنزِلِ اللهُ به سُلطانًا، وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [القصص: 50] [2800] يُنظر: ((الحركات الباطنية في العالم الإسلامي)) للخطيب (ص: 113). .
قال أبو حامِدٍ الغَزاليُّ: (إنَّ هذه الدَّعوةَ لم يَفتَتِحْها مُنتَسِبٌ إلى مِلَّةٍ ولا مُعتَقِدٌ لنِحلةٍ مُعتَضِدٌ بنُبوَّةٍ، فإنَّ مَساقَها يَنقادُ إلى الانسِلالِ مِنَ الدِّينِ كانسِلالِ الشَّعرةِ مِنَ العَجينِ) [2801] ((فضائح الباطنية)) (ص: 18). .
وقال الشَّاطِبيُّ: (إنَّهم -فيما ذَكَرَه العُلَماءُ- قَومٌ أرادوا إبطالَ الشَّريعةِ جُملةً وتَفصيلًا، وإلقاءَ ذلك فيما بَينَ النَّاسِ؛ ليَنحَلَّ الدِّينُ في أيديهم، فلم يُمكِنْهم إلقاءُ ذلك صُراحًا؛ فيُرَدَّ ذلك في وُجوهِهم وتَمتَدَّ إليهم أيدي الحُكَّامِ، فصَرَفوا أعناقَهم إلى التَّحَيُّلِ على ما قَصَدوا بأنواعٍ مِنَ الحيَلِ، من جُملَتِها صَرفُ الهِمَمِ عن الظَّواهِرِ؛ إحالةً على أنَّ لها بَواطِنَ هي المَقصودةُ، وأنَّ الظَّواهِرَ غَيرُ مُرادةٍ) [2802] ((الاعتصام)) (1/ 321، 322). .
وقد رَدَّ أهلُ العِلمِ عليهم تَأويلاتِهم الباطِلةَ؛ فقال ابنُ حَزمٍ: (إنَّ القائِلينَ بالظَّاهِرِ والباطِنِ لا تَعَلُّقَ لهم بحُجَّةٍ أصلًا، وليس بأيديهم إلَّا دَعوى الإلهامِ والقِحةُ والمُجاهَرةُ بالكَذِبِ... وكُلُّ مَنِ ادَّعى للدِّيانةِ سِرًّا وباطِنًا فهي دَعاوى ومخارِقُ، واعلَموا أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يَكتُمْ مِنَ الشَّريعةِ كلِمةً فما فوقَها، ولا أطلَعَ أخَصَّ النَّاسِ به من زَوجةٍ أوِ ابنةٍ أو عَمٍّ أوِ ابنِ عَمٍّ أو صاحِبٍ على شَيءٍ مِنَ الشَّريعةِ كتَمَه عن الأحمَرِ والأسوَدِ ورُعاةِ الغَنَمِ، ولا كان عِندَه عليه السَّلامُ سِرٌّ ولا رَمزٌ ولا باطِنٌ غَيرُ ما دَعا النَّاسَ كُلَّهم إليه، ولو كتَمَهم شَيئًا لما بَلَّغَ كما أُمِر) [2803] ((الفصل)) (4/ 114 - 116). .
وقال ابنُ تيميَّةَ: (إنَّ تَأويلاتِ الباطِنيَّةِ وتَفسيراتِها مِمَّا يُعلَمُ بُطلانُها، فكُلُّ مُؤمِنٍ بل كُلُّ يَهوديٍّ ونَصرانيٍّ يَعلَمُ عِلمًا ضَروريًّا أنَّها مُخالِفةٌ لِما جاءَت به الرُّسُلُ، كموسى وعيسى ومُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليهم وسَلَّمَ أجمَعينَ، فكَلامُ هؤلاء عن الباطِنِ ومَعانيه مُخالِفٌ لأصولِ الدِّينِ؛ حَيثُ إنَّ المَعانيَ الباطِنيَّةَ التي تَفَوَّهوا بها باطِلةٌ، وما كان في نَفسِه باطِلًا فلا يَكونُ الدَّليلُ عليه إلَّا باطِلًا؛ لأنَّ الباطِلَ لا يَكونُ عليه دَليلٌ يَقتَضي أنَّه حَقٌّ) [2804] ((رسالة الظاهر والباطن)) (ص: 235). .
وقد تَتَبَّعَ ابنُ تيميَّةَ الدَّعوى الباطِنيَّةَ وفَنَّدَها، وذَكَرَ أنَّ مَذهَبَهم في الباطِنِ يَهدِمُ بَعضُه بَعضًا، وذلك من وُجوهٍ؛ منها:
أنَّ مُخالَفةَ الباطِنِ للظَّاهِرِ أمرٌ ليس له حَدٌّ مَحدودٌ، بل إذا عَلِمَه هذا عَلِمَه هذا وذاك، فيَشيعُ حتَّى يُصبِحَ ظاهِرًا يَعرِفُه كُلُّ أحَدٍ، وهذا يُخالِفُ مَبدَأَهم من أنَّ عِلمَ الباطِنِ خاصٌّ بالأئِمَّةِ، فمَعَ انتِشارِ ذلك يَنتَقِضُ على مَذهَبِهم جَميعُ ما خاطَبوا النَّاسَ به من أسرارٍ مَزعومةٍ.
ومنها أنَّه ما من خِطابٍ يُخاطِبُ به الباطِنيُّ أتباعَه إلَّا ويُجَوِّزونَ أن يَكونَ أرادَ غَيرَ ما أظهَره لهم، فلا يَثِقونَ بأخبارِه وأوامِرِه، فيَختَلُّ عليه الأمرُ كُلُّه، ويعودُ ذلك بالفَسادِ عليه، بل كُلُّ مَن وافَقَه لا بُدَّ أن يُظهِرَ خِلافَ ما أبطنَ؛ ولذا لا نَجِدُ أحَدًا من موافَقيهم إلَّا ولا بُدَّ أن يُبَيِّنَ أنَّ ظاهِرَه خِلافُ باطِنِه [2805] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (13/ 250، 251). ويُنظر: ((نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام)) للنشار (2/ 420، 421). .

انظر أيضا: