موسوعة الفرق

المبحَثُ الأوَّلُ: اتِّهامُ الشِّيعةِ للأئِمَّةِ الأربعةِ بإحداثِ مَذاهِبَ مخالِفةٍ للكِتابِ والسُّنَّةِ


من افتراءاتِ الشِّيعةِ أنَّهم يتَّهِمون الأئِمَّةَ الأربعةَ بإحداثِ مذاهِبَ فقهيَّةٍ مخالِفةٍ للقرآنِ والسُّنَّةِ.
قال البياضيُّ عن أئِمَّةِ المذاهِبِ الأربعةِ وأتباعِهم: (المخالِفُ أخذ دينَه عن القياسِ والاستِحسانِ، ونحن أخَذْناه عن أئِمَّةِ الأزمانِ، الذين أخذوا التَّحريمَ والتَّحليلَ عن جدِّهم النَّبيلِ عن جِبرائيلَ عن الرَّبِّ الجليلِ) [814] ((الصراط المستقيم)) (3/207). .
وقال أيضًا: (فهذه قَطرةٌ من بحارِ اختِلافِهم، خالفوا فيها كتابَ ربِّهم وسنَّةَ نبيِّهم، ولهم أقوالٌ أُخَرُ شنيعةٌ في أحكامِ الشَّريعةِ) [815] ((الصراط المستقيم)) (3/205). ويُنظر فيه أيضًا: (3/195). .
وقال ابنُ المُطهَّرِ الحليُّ: (ذهب الجميعُ منهم إلى القولِ بالقياسِ، والأخذِ بالرَّأيِ، فأدخلوا في دينِ اللَّهِ ما ليس منه... وأهملوا أقاويلَ الصَّحابةِ) [816] ((منهاج الكرامة)) (ص: 93). .
وقال مُحمَّد باقِر المجلِسيُّ: (لا أحَدَ من الفُقَهاءِ إلَّا وقد خالف أميرَ المُؤمِنين في بعضِ أحكامِه ورَغِبَ عنها إلى غيرِها) [817] ((بحار الأنوار)) (10/444-445). .
وقال أيضًا: (ليس في فُقَهاءِ الأمصارِ سِوى الشَّافعيِّ إلَّا وقد شارك الشَّافعيَّ في الطَّعنِ على أميرِ المُؤمِنين، وتزييفِ كثيرٍ من قَولِه، والرَّدِّ عليه في أحكامِه... وهذا ما لا يذهَبُ إليه من وُجد في صَدرِه جزءٌ من مودَّتِه وحقِّه الواجِبِ له) [818] ((بحار الأنوار)) (10/444-445). وينظر فيه أيضًا: (2/286، 288 – 289، 298) و (10/230). .
الجوابُ عن تلك الاتِّهاماتِ:
أولًا: إنَّ دعوى اتِّفاقِ الأئِمَّةِ الأربعةِ أو تواطُئِهم على مخالَفةِ الكتابِ والسُّنَّةِ: دعوى لا دليلَ عليها.
وأمَّا بالنِّسبةِ لأقوالِ الصَّحابةِ رَضِيَ اللَّهُ عنهم فالفُقَهاءُ يأخُذون بأقوالِهم إذا اتَّفَقوا، ويأخُذون بأقوالِ بعضِهم إذا اختَلَفوا، وهم يُعَظِّمونهم جميعًا، ويترَضَّون عنهم، بخلافِ الرَّوافِضِ الذين يُكَفِّرون أكثَرَهم أو يُفَسِّقونهم ويُضَلِّلونَهم.
قال ابنُ تَيميَّة: (متى كان مخالفةُ الصَّحابةِ والعدولُ عن أقاويلِهم مُنكَرًا عِندَ الإماميَّةِ؟! هؤلاء متَّفِقون على محبَّةِ الصَّحابةِ ومُوالاتِهم وتفضيلِهم على سائِرِ القرونِ، وعلى أنَّ إجماعَهم حُجَّةٌ... فكيف يَطعَنُ عليهم بمخالَفةِ الصَّحابةِ من يقولُ: إنَّ إجماعَ الصَّحابةِ ليس بحجَّةٍ، وينسُبُهم إلى الكُفرِ والظُّلمِ؟) [819] ((منهاج السنة النبوية)) (3/405-406). .
ثانيًا: إنَّ الإماميَّةَ الاثنَي عَشْريَّةَ في طعنِهم هذا على الأئِمَّةِ متناقِضون؛ فتارةً يرمونَهم بمخالَفةِ الصَّحابةِ رَضِيَ اللَّهُ عنهم، ويعتَبِرون ذلك جُرمًا عظيمًا لا يُغفَرُ، ثمَّ لا يَلبَثون أن يُقِرُّوا بأنَّ عُلومَ هؤلاء الأئِمَّةِ ومعارفَهم كُلَّها راجعةٌ إلى علومِ الصَّحابةِ تارةً أُخرى.
قال ابنُ المطَهَّرِ الحليُّ: (مالِكٌ قرأ على ربيعةَ، وربيعةُ على عِكرِمةَ، وعِكرِمةُ على ابنِ عبَّاسٍ، وابنُ عبَّاسٍ تلميذُ عليٍّ) [820] ((منهاج الكرامة)) (ص: 179). قال ابنُ تيمية: (قولُه: ابنُ عبَّاسٍ تلميذُ عليٍّ كلامٌ باطلٌ؛ فإنَّ روايةَ ابنِ عبَّاسٍ عن عليٍّ قليلةٌ، وغالِبُ أخْذِه عن عُمرَ وزيدِ بنِ ثابتٍ وأبي هُرَيرةَ وغيرِهم من الصَّحابةِ). ((منهاج السنة النبوية)) (7/536) بتصرف يسير. .
وقال أيضًا: (الفُقَهاءُ كلُّهم يرجِعون إلى عليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه) [821] ((منهاج الكرامة)) (ص: 178). .
والحقيقةُ أنَّ عِلمَ الفُقَهاءِ الأربعةِ وغيرِهم من أئِمَّةِ الإسلامِ يرجِعُ إلى عِلمِ وفِقهِ الصَّحابةِ رَضِيَ اللَّهُ عنهم؛ فأبو حنيفةَ قد أخذ جُلَّ عِلمِه وفِقهِه عن شيخِه حمَّادِ بنِ أبي سُلَيمانَ واختصَّ به، وحمَّادٌ تلميذُ إبراهيمَ النَّخَعيِّ، والنَّخَعيُّ تلميذُ عَلقمةَ بنِ قيسٍ النَّخَعيِّ، والأسوَدِ النَّخَعيِّ، ومسروقٍ الوادعيِّ، وعَبيدةَ السَّلمانيِّ، وأبي عبدِ الرَّحمنِ السُّلَميِّ، وهؤلاء أخَذوا العِلمَ عن عبدِ اللَّهِ بنِ مسعودٍ وعَليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهما.
وأمَّا مالِكٌ فمعروفٌ أنَّ عِلمَه عن أهلِ المدينةِ الذين أخذوا عن الفُقَهاءِ السَّبعةِ [822] وهم: سعيدُ بنُ المسيِّبِ، وعُروةُ بنُ الزُّبَيرِ، وخارجةُ بنُ زيدٍ، والقاسِمُ بنُ محمَّدٍ، وأبو بكرِ بنُ عبدِ الرَّحمنِ، وسليمانُ بنُ يسارٍ، وعبيدُ اللهِ بنُ عبدِ اللهِ بنِ عتبةَ بنِ مَسعودٍ. يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (1/23). ، وهم تلاميذُ أعلامِ الصَّحابةِ، كزيدِ بنِ ثابتٍ، وعبدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ، وعائشةَ، وأبي هُرَيرةَ، ونحوِهم رَضِيَ اللَّهُ عنهم.
والشَّافِعيُّ تفقَّه على المكيِّين الذين أخَذوا عن تلاميذِ أصحابِ عبدِ اللَّهِ بنِ عبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما، ثمَّ أخذ بعد ذلك عن مالِكٍ، ثمَّ رحَل إلى العراقِ ثمَّ استقَرَّ في آخِرِ عُمُرِه في مِصرَ، وسمِعَ في العراقِ ومِصرَ من العِلمِ ما لم يكُنْ عِندَه في الحِجازِ.
وأمَّا أحمدُ بنُ حنبَلٍ فمن شُيوخِه: سُفيانُ بنُ عُيَينةَ الذي أخذ عن عَمرِو بنِ دينارٍ عن ابنِ عبَّاسٍ، وابنِ عُمَرَ، وجابِرِ بنِ عبدِ اللَّهِ، وغيرِهم رَضِيَ اللَّهُ عنهم [823] يُنظر: ((منهاج السنة)) لابن تيمية (7/529، 530)، ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (1/23). .
فهل يُعقَلُ أن يُتَّهَمَ هؤلاء بمخالَفةِ الصَّحابةِ أو معارَضتِهم؟!
ثالثًا: زَعمُهم مُخالَفةَ الأئِمَّةِ الأربعةِ لعليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه في بعضِ فتاويه وأحكامِه، فيُقالُ: إنَّ مُخالَفةَ واحدٍ من الصَّحابةِ رَضِيَ اللَّهُ عنهم مع موافقةِ جمهورِ الصَّحابةِ في حُكمٍ من الأحكامِ ليس بقادحٍ، لا سِيَّما إذا انبَنَت هذه المُخالَفةُ على أسُسٍ صحيحةٍ من كتابِ اللَّهِ وسنَّةِ نبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فقولُ الصَّحابيِّ ليس بحُجَّةٍ إذا خالفه غيرُه من الصَّحابةِ، كما هو مقَرَّرٌ في عِلمِ الأصولِ [824] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (1/283، 284)، ((مراقي الصعود إلى مراقي السعود)) لمحمد الأمين الجكني (ص: 401)، ((مذكرة في أصول الفقه)) للشنقيطي (ص: 164). .

انظر أيضا: