هو خفاجة بن سفيان أمير صقلية، وكان من الشُّجَعان الغُزاة المدَبِّرين، تولَّى إمرة صقلية عام 248هـ وكانت عاصمته بلرم، اغتاله رجلٌ من عَسكَرِه وهو عائِدٌ مِن غَزوِ سرقوسه قاصدًا بلرم، فطعنه طعنةً فقتله، ثم هرب القاتِلُ إلى سرقوسة، وحُمِل خفاجة إلى بلرم، فدُفِنَ بها وولَّى الناسُ عليهم بعدَه ابنه محمدًا، وكتبوا بذلك إلى الأميرِ محمد بن أحمد، أمير إفريقية، فأقَرَّه على الولاية، وسيَّرَ له العهدَ والخلع.
في آخر هذا الشهر ارتفعت أسعار الغلال، وسببه خِسَّة الزرع بالجيزية والوجه البحري؛ لعدم المطر، وتوالي هبوب الرياح المريسية زيادة على ثلاثين يومًا، فلم تَسِرْ فيها المراكب. وأهلَّ شهر ربيع الآخر والناس على تخوُّف من سوء حال الزرع، وانكشاف ساحل النيل من الغلال وقلة وجود القمح, وبعد أيام قَدِمَت الأخبار بكثرة أمراض أهل الشام، وكثرة موت الخيول بدمشق وحماة!
حدثت وقعةٌ مشهورة بين السلطانِ عامر بن عبد الوهاب والأمير محمد بن الحسين البهَّال صاحب صعدة على باب صنعا، وانهزم فيها البهال وعساكره هزيمةً عظيمة ما سُمِع بمثلها قط، وأُسِرَ فيها إمام الزيدية محمد بن علي الوشلي إمام أهل البدعة ورئيسهم، وقُتل منهم جمعٌ لا يحصى، ونهبهم الناسُ، وكانوا يأتون بهم وبخيلِهم واحدًا واثنين وأخذ السلطان عامر مدينة صنعا.
لَمَّا فَرَغ صلاحُ الدين مِن أمر عَسقلان وما جاورها من البلاد، أرسل إلى مِصرَ؛ لطَلَبِ الأسطول الذي بها في جمَع ٍمن المُقاتِلة، ومُقَدَّمُهم حسامُ الدين لؤلؤ الحاجب، فأقاموا في البَحرِ يقطعون الطريقَ على الفرنجِ، كُلَّما رأوا لهم مركبًا غَنِموه، وشانيًا أخَذوه، فحين وصلَ الأسطول وخلا سِرُّه من تلك الناحية سار عن عسقلان إلى بيت المقدس، وكان به البُطرُك المعظَّم عندهم، وهو أعظَمُ شأنًا من مَلِكِهم، وبه أيضًا باليان بن بيرزان، صاحِبُ الرملة، وكانت مرتبتُه عندهم تقارِبُ مرتبة الملك، وبه أيضًا مَن خَلَص من فُرسانِهم مِن حِطِّين، وقد جمعوا وحشدوا، واجتمع أهل تلك النواحي- عسقلان وغيرها- فاجتمع به كثيرٌ مِن الخلق، وحَصَّنوه ونَصَبوا المجانيقَ على أسواره، ولَمَّا قرب صلاحُ الدين وساروا حتى نزلوا على القُدسِ مُنتصَفَ رجب، فلما نَزَلوا عليه رأى المُسلِمون على سُورِه من الرجال ما هالهم، وسَمِعوا لأهله من الجَلَبةِ والضَّجيجِ مِن وسط المدينة ما استدَلُّوا به على كثرة الجمع، وبقي صلاحُ الدين خمسةَ أيام يطوف حولَ المدينة لينظُرَ مِن أين يقاتلُه؛ لأنَّه في غاية الحَصانةِ والامتناعِ، فلم يجِدْ عليه موضِعَ قتالٍ إلَّا من جهة الشَّمالِ نحو باب عمودا، وكنيسة صهيون، فانتقل إلى هذه الناحيةِ في العشرين من رجب ونزلها، ونصَبَ تلك الليلة المجانيقَ، فأصبح من الغَدِ وقد فُرِغَ مِن نصبها، ورمى بها، ونَصَب الفرنجُ على سور البلد مجانيقَ ورَمَوا بها، وقوتلوا أشَدَّ قتال رآه أحَدٌ مِن الناس، وكان خيَّالة الفرنج كلَّ يوم يخرجون إلى ظاهِرِ البلد يقاتِلونَ ويُبارِزونَ، فيُقتَلُ من الفريقين، ثم وصل المسلمون إلى الخندق، فجاوزوه والتصقوا بالسور فنَقَبوه، وزحف الرماةُ يحمونَهم، والمجانيقُ تُوالي الرميَّ لتكشِفَ الفرنجَ عن الأسوار ليتمَكَّنَ المسلمون من النَّقبِ، فلمَّا نقَبوه حَشَوه بما جرت به العادةُ، فلما رأى الفرنج شِدَّةَ قتال المسلمين، وتحكُّمَ المجانيق بالرمي المتدارِك، وتمكُّن النقَّابين من النَّقبِ، وأنهم قد أشرَفوا على الهلاكِ- اجتَمعَ مُقَدَّموهم يتشاورون فيما يأتونَ ويَذَرونَ، فاتَّفَق رأيُهم على طَلَبِ الأمان، وتسليم ِبيتِ المَقدِسِ إلى صلاحِ الدين، فأرسلوا جماعةً مِن كُبَرائِهم وأعيانِهم في طلب الأمان، فلمَّا ذكروا ذلك للسلطان امتنَعَ من إجابتِهم، وقال: لا أفعَلُ بكم إلَّا كما فعلتُم بأهلِه حين ملَكْتُموه سنة 491؛ مِن القَتلِ والسَّبيِ وجزاءُ السِّيِّئةِ بمِثلِها. فلما رجع الرسُلُ خائبين محرومين، أرسل باليان بن بيرزان وطلَبَ الأمان لنَفسِه ليَحضُرَ عند صلاح الدين في هذا الأمرِ وتحريره، فأُجيبَ إلى ذلك، وحضر عنده، ورَغِبَ في الأمان، وسأل فيه، فلم يُجِبْه إلى ذلك، واستعطَفَه فلم يَعطِفْ عليه، واسترَحَمه فلم يرحَمْه، فلمَّا أيِسَ مِن ذلك هدَّد بقَتلِ أنفُسِهم وتخريبِ المسجِدِ والصَّخرةِ وكُلِّ شَيءٍ، فاستشار صلاحُ الدين أصحابَه، فأجمعوا على إجابتِهم إلى الأمان، وألَّا يُخرَجوا ويُحمَلوا على ركوبِ ما لا يُدرى عاقبةُ الأمر فيه عن أيِّ شَيءٍ تنجلي، ونحسَبُ أنَّهم أسارى بأيدينا، فنبيعُهم نفوسَهم بما يستقِرُّ بيننا وبينهم، فأجاب صلاحُ الدين حينئذ إلى بذلِ الأمان للفرنج، فاستقَرَّ أن يَزِنَ الرجُلُ عشرةَ دنانير يستوي فيه الغنيُّ والفقير، ويَزِن الطفلُ من الذكور والبنات دينارين، وتَزِن المرأة خمسة دنانير، فمن أدَّى ذلك إلى أربعين يومًا فقد نجا، ومن انقَضَت الأربعونَ يومًا عنه ولم يؤَدِّ ما عليه فقد صار مملوكًا، فبذل باليان بن بيرزان عن الفُقَراء ثلاثين ألف دينار، فأُجيبَ إلى ذلك، وسُلِّمَت المدينةُ يوم الجمعة السابع والعشرين من رجَبٍ، وكان يومًا مشهودًا، ورَفَّت الأعلامُ الإسلاميَّةُ على أسوارِها، وكان على رأسِ قُبَّة الصخرةِ صَليبٌ كبيرٌ مُذهَبٌ. فلما دخل المسلمونَ البلد يومَ الجمعة تسَلَّقَ جماعةٌ منهم إلى أعلى القبة ليقلَعوا الصليبَ، فلمَّا فعلوا وسقط صاح النَّاسُ كُلُّهم صوتًا واحدًا من البَلَدِ ومِن ظاهِرِه، المُسلِمونَ والفرنج: أمَّا المسلمون فكَبَّرُوا فرحًا، وأمَّا الفرنجُ فصاحوا تفجُّعًا وتوجُّعًا، فلما ملك البلد وفارقه الكُفَّارُ، أمر صلاح الدين بإعادة الأبنيةِ إلى حالها القديمِ، وأمر بتطهيرِ المسجِدِ والصخرةِ مِن الأقذارِ والأنجاسِ، ففُعِلَ ذلك أجمَعُ، ولما كان الجمعة الأخرى، رابع شعبان، صلى المسلمونَ فيه الجمعة، ومعهم صلاحُ الدين، وصلَّى في قبة صلاح الدين خَطيبًا وإمامًا برَسمِ الصَّلواتِ الخمس، وأمَرَ أن يُعمَلَ له مِنبَرٌ، فقيل له: إنَّ نور الدين محمودًا كان قد عَمِلَ بحَلَبٍ مِنبَرًا أمَرَ الصُّناعَ بالمبالغة في تحسينِه وإتقانه، وقال: هذا قد عَمِلْناه ليُنصَب ببيتِ المَقدِسِ! فعَمِلَه النجَّارون في عِدَّةِ سنين لم يُعمَلْ في الإسلام مثله، فأمر بإحضارِه، فحُمِلَ من حَلَب ونُصِبَ بالقدس، وكان بين عَمَلِ المنبر وحَملِه ما يزيد على عشرينَ سنة، وكان هذا من كراماتِ نور الدين وحُسنِ مقاصِدِه! رحمه الله، ولَمَّا فرغ صلاح الدين من صلاة الجمعةِ تقَدَّمَ بعِمارةِ المسجد الأقصى واستنفاد الوُسعِ في تحسينِه وترصيفِه، وتدقيقِ نُقوشِه، فأحضَروا من الرُّخامِ الذي لا يُوجَدُ مِثلُه، ومِن الفص المُذهَب القسطنطيني وغير ذلك مما يحتاجون إليه، قد ادخر على طول السنين، فشَرَعوا في عمارته، ومحَوا ما كان في تلك الأبنية من الصُّورِ، فعاد الإسلامُ هناك غضًّا طريًّا، وهذه المَكرُمةُ مِن فتح بيتِ المَقدِسِ لم يفعَلْها بعدَ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ- رضي الله عنه- غيرُ صلاحِ الدين- رحمه الله- وكَفَاه ذلك فَخرًا وشَرَفًا!
بعد أن انتهى تيمورلنك من سيواس توجه إلى جهة حلب فوصل إلى عينتاب، ووصل إلى بهنسا وأخذها بعد أن حصرها، ثم نزل على بزاعة ظاهر حلب، فبرز نائب طرابلس بسبعمائة فارس إلى جيش تيمورلنك وهم نحو ثلاثة آلاف، وترامى الجمعان بالنشاب، ثم اقتتلوا، وأُخِذ من التتار أربعة، وعاد كل من الفريقين إلى موضعه فوسط الأربعة على أبواب مدينة حلب، وأما دمشق فإن أهلها بدؤوا يتجهزون والقضاة تحرِّضُ الناس على الجهاد ضدَّ تيمورلنك، وأما عساكر مصر فبدأت كذلك بالتجهز، قال تقي الدين المقريزي: "لما نزل تيمورلنك على عينتاب بعث إلى دمرداش نائب حلب يعده باستمراره في نيابة حلب، ويأمره بمسك الأمير سودن نائب الشام، فلما قدم عليه الرسول بذلك أحضره إلى نواب ممالك الشام، وقد حضروا إلى حلب وهم: سودن نائب دمشق، وشيخ المحمودي نائب طرابلس، ودقماق نائب حماة، وألطنبغا العثماني نائب صفد، وعمر بن الطحان نائب غزة بعساكرها، فاجتمع منهم بحلب نحو ثلاثة آلاف فارس منهم عسكر دمشق ثمانمائة فارس، إلا أن الأهواء مختلفة، والآراء مفلولة، والعزائم محلولة، والأمر مدبَّر، فبلغ رسول تيمورلنك الرسالة دمرداش، فأنكر مَسْكَ سودن نائب دمشق، فقال له الرسول: إن الأمير - يعني تيمورلنك- لم يأت إلا بمكاتبتك إليه، وأنت تستدعيه أن ينزل على حلب، وأعلمته أن البلاد ليس بها أحد يدفع عنها، فحنق منه دمرداش وقام إليه وضربه، ثم أمر به فضُرِبَت رقبته، ويقال: إن كلام هذا الرسول كان من تنميق تيمورلنك ومَكْرِه، ليفَرِّقَ بذلك بين العساكر" ونزل تيمورلنك على جبلان خارج حلب يوم الخميس تاسع ربيع الأول، وزحف يوم الجمعة، وأحاط بسور حلب، وكانت بين الحلبيين وبينه في هذين اليومين حروب، فلما أشرقت الشمس يوم السبت الحادي عشر خرج نواب الشام بالعساكر وعامة أهل حلب إلى ظاهر المدينة وعبُّوا للقتال، ووقف سودن نائب دمشق في الميمنة، ودمرداش في الميسرة، وبقية النواب في القلب، وقدموا أمامهم عامة أهل حلب، فزحف تيمورلنك بجيوش قد سدَّت الفضاء، فثبت الأمير شيخ المحمودي نائب طرابلس، وقاتل -هو وسودن نائب دمشق- قتالًا عظيمًا، وبرز الأمير عز الدين أزدمر أخو أينال اليوسفي، وولده يشبك ابن أزدمر في عدة من الفرسان، وأبلوا بلاء عظيمًا، وظهر عن أزدمر وولده من الإقدام ما تعجَّب منه كل أحد، وقاتلا قتالًا عظيمًا، فقُتل أزدمر وفُقد خبره، وثخنت جراحات يشبك، وصار في رأسه فقط زيادة على ثلاثين ضربة بالسيف سوى ما في بدنه، فسقط بين القتلى، ثم أُخِذ وحمل إلى تيمورلنك ولم يمضِ غير ساعة حتى ولَّت العساكر تريد المدينة، وركب أصحاب تيمورلنك أقفيتَهم، فهلك تحت حوافر الخيل من الناس عدد لا يدخل تحت حصر؛ فإن أهل حلب خرجوا حتى النساء والصبيان، وازدحم الناسُ مع ذلك في دخولهم من أبواب المدينة، وداس بعضُهم بعضًا، حتى صارت الرمم طول قامة، والناس تمشي من فوقها، وتعلَّق نواب المماليك بقلعة حلب، ودخل معهم كثيرٌ من الناس، وكانوا قبل ذلك قد نَقَلوا إلى القلعة سائر أموال الناس بحلب، واقتحمت عساكر تيمورلنك المدينةَ وأشعلوا بها النيران، وجالوا بها ينهبون ويأسرون ويقتلون، واجتمع بالجامع وبقية المساجد نساءُ البلد، فمال أصحاب تيمورلنك عليهنَّ وربطوهن بالحبال، ووضعوا السيف في الأطفال فقتلوهم بأجمعِهم، وأتت النار على عامة المدينة فأحرقتها، وصارت الأبكار تُفتَضَّ من غير تستُّرٍ ولا احتشام! بل يأخذ الواحد الواحدة ويعلوها في المسجد والجامع، بحضرة الجم الغفير من أصحابه، ومن أهل حلب، فيراها أبوها وأخوها ولا يقدِرُ أن يدفع عنها؛ لِشُغلِه بنفسِه، وفَحُش القتل، وامتلأ الجامع والطرقات برمم القتلى، واستمر هذا الخطب من صحوة نهار السبت إلى يوم الثلاثاء، والقلعة قد نقب عليها من عدة أماكن، ورُدِم خندقها، ولم يبقَ إلا أن تؤخذ، فطلب النواب الأمان، ونزل دمرداش إلى تيمورلنك فخلع عليه ودفع إليه أمانًا، وخِلَعًا للنواب، وبعث معه عدَّةً وافرة إلى النواب، فأخرجوهم ممن معهم، وجعلوا كل اثنين في قيد وأحضروا إليه، فقرعهم ووبَّخهم، ودفع كل واحد منهم إلى من يحتفظ به، وسيقت إليه نساء حلب سبايا، وأُحضرت إليه الأموال ففرَّقها على أمرائه، واستمرَّ بحلب شهرًا، والنهب في القرى لا يبطل، مع قطع الأشجار وهدم البيوت، وجافت حلب وظواهرها من القتلى، بحيث صارت الأرض منهم فراشًا، لا يجِدُ أحد مكانًا يمشي عليه إلا وتحت رجليه رمةُ قتيل، وعُمِل من الرؤوس منابر عدة مرتفعة في السماء نحو عشرة أذرع في دور عشرين ذراعًا، حُرِز ما فيها من رؤوس بني آدم، فكان زيادة على عشرين ألف رأس! وجعلت الوجوه بارزة يراها من يمرُّ بها، ثم رحل تيمورلنك عنها، وهي خاوية على عروشها، خالية من ساكنها وأنيسها، قد تعطلت من الأذان، وإقامة الصلوات، وأصبحت مُظلِمةً بالحريق، مُوحِشةٌ قَفراءُ مُغبرة، لا يأويها إلا الرخم، ثم بعد أن رحل الجيش عنها سائرًا إلى جهة دمشق ورد الخبر أن أحمد بن رمضان التركماني، وابن صاحب الباز، وأولاد شهري، ساروا وأخذوا حلب، وقتلوا من بها من أصحاب تيمورلنك وهم زيادة على ثلاثة آلاف فارس.
لمَّا مات الحَجَّاجُ بن يُوسُف كان محمَّد بن القاسِم بالمُلْتان، فأتاهُ خَبَرُ وَفاتِه، فرَجَع إلى الرُّور والبَغْرور، وكان قد فَتَحَهُما، فأَعْطَى النَّاسَ، ووَجَّهَ إلى البَيْلَمان جَيْشًا فلم يُقاتِلوا وأَعطوا الطَّاعَةَ، وسَألَه أَهلُ سُرَشْت، وهي مَغْزَى أَهلِ البَصْرَة، وأَهلُها يَقطَعون في البَحرِ، ثمَّ أَتَى محمَّدٌ الكَيْرَجَ فخَرَج إليه دَوْهَر فقاتَلَه فانْهَزَم دَوْهَر وهَرَب، وقِيلَ: بل قُتِلَ. ونَزَل أَهلُ المَدينَة على حُكْم محمَّدٍ فقَتَل وسَبَى.
كان الرَّشيدُ قد عقد الخلافةَ لابنه الأمينِ ثمَّ للمأمونِ لِمَكانةِ زبيدة والدةِ الأمينِ، وإلَّا فالمأمونُ أكبَرُ منه، فبويع الأمينُ بالخلافة في عسكرِ الرشيد، صبيحةَ الليلة التي توفِّيَ فيها، وكان المأمونُ حينئذ بمرو، فكتب حمويه مولى المهديِّ، صاحبُ البريدِ، إلى نائبِه ببغداد- وهو سلام بن مسلم- يُعلِمُه بوفاةِ الرشيد، فدخل أبو مسلمٍ على الأمينِ فعَزَّاه وهنَّأه بالخلافة، فانتقل مِن قصرِه بالخُلد إلى قصرِ الخلافةِ، وبايعه الناسُ.
هو السلطان الملك الظاهر سيف الدين أبو سعيد جقمق العلائي الظاهري الشركسي، السلطان الرابع والثلاثون من ملوك الترك، والعاشر من الجراكسة، ويذكر في أصله أنه أخذ من بلاده صغيرًا فاشتراه خواجا كزلك وجلبه إلى الديار المصرية، فابتاعه منه الأتابك إينال اليوسفي، وقيل: ولده أمير علي بن إينال وهو الأصح، وربَّاه عنده، فطلبه الملك الظاهر منه في سرحة سرياقوس، وأخذه وأعطاه لأخيه جاركس، وقد اختلفت الأقوال في أمر عتقه؛ فمن الناس من قال: إن أمير علي كان أعتقه قبل أن يطلُبَه الملك الظاهر منه، فلما طلبه الملك الظاهر سكت أمير علي عن عتقه لتنال جقمق السعادة بأن يكون من جملة مشتريات الملك الظاهر. تسلطن يوم خُلِعَ الملك العزيز يوسف، وهو يوم الأربعاء التاسع عشر من ربيع الأول سنة 842. كان قد خرج عن طاعة الظاهر جقمق الأمير قرقماس، فواقعه الملك الظاهر، فانهزم قرقماس واختفى، ثم ظُفِرَ به وضُرِبَ عنقه. ثم خرج عن طاعته تغرى برمش نائب حلب، ثم أينال الجكمي نائب الشام؛ فجهز إليهما العساكر، فقاتلوهما واحدًا بعد الآخر، فظَفِرَ بهما وقتلهما. وبعد قتل هؤلاء صفا الوقت للملك الظاهر، وأخذ وأعطى، وقرب أقوامًا وأبعد آخرين. ولم يزل في ملكه والأقدارُ تساعدُه، إلى أن بدأ المرض به في آخر السنة الماضية وما زال يزداد به حتى قويَ عليه جدًّا في أواخر شهر محرم من هذه السنة، ثم لما كان يوم الأربعاء العشرون من المحرم، تكلم السلطان مع بعض خواصِّه في خلع نفسه من السلطنة، وسلطنة ولده المقام الفخري عثمان في حياته، فروجِعَ في ذلك فلم يقبَلْ، ورسم بإحضار الخليفة والقضاة والأمراء من الغد بالدهيشة، فلما كان الغد، وهو يوم الخميس الحادي والعشرين محرم حضر الخليفة والقضاة وجميع الأمراء، وفي ظنِّ الناس أنه يعهد لولده عثمان بالملك من بعده كما هي عادة الملوك، فلما حضر الخليفة والقضاة عنده بعد صلاة الصبح، خلع نفسَه من السلطنة، وقال للخليفة والقضاة: الأمر لكم، انظروا فيمن تُسلطِنوه، أو معنى ذلك؛ لعِلمِه أنهم لا يعدلون عن ولده عثمان؛ فإنَّه كان أهلا للسلطنة بلا مدافعة، فلما سمع الخليفةُ كلام السلطان، لم يعدِلْ عن المقام الفخري عثمان، لِما كان اشتمل عليه عثمان من العلم والفضل، وإدراكِه سِنَّ الشبيبة، وبايعه بالسَّلطنة، وتسلطن في يوم الخميس ولقِّبَ بالملك المنصور، وعمره يومئذ نحو الثماني عشرة سنة تخمينًا، واستمرَّ الملك الظاهر مريضًا ملازمًا للفراش، وابنه الملك المنصور يأخذ ويعطي في مملكتِه، ويعزِلُ ويولي، والملك الظاهر في شُغلٍ بمرضه، وما به من الألم في زيادة، إلى أن مات في قاعة الدهيشة الجوانية بين المغرب والعشاء من ليلة الثلاثاء ثالث صفر وقرئ حوله القرآن العزيز، إلى أن أصبح وجُهِّزَ وغُسِّلَ وكُفِّن من غير عجلة ولا اضطراب، حتى انتهى أمرُه وحُمِل على نعشه، وأُخرِج به، وأمام نعشه ولده السلطان الملك المنصور عثمان ماشيًا وجميع أعيان المملكة إلى أن صلِّيَ عليه بمصلاة باب القلعة من قلعة الجبل، وصلى عليه الخليفة القائم بأمر الله أبو البقاء حمزة، وخلفه السلطان المنصور عثمان والقضاة وجميع الأمراء والعساكر، ثم حمل بعد انقضاء الصلاة عليه وأُنزِلَ من القلعة، حتى دفِنَ بتربة أخيه الأمير جاركس القاسمي المصارع، ولم يشهد ولده الملك المنصور دفنَه، وكانت مدة سلطنته أربع عشرة سنة وعشرة شهور ويومين.
بعد أن تمَّ القضاءُ على ثورةِ الزنج، بدأ بالظهورِ دَعوةٌ جديدة كان رائِدَها حمدانُ بن الأشعث المعروف بقَرمَط، جاء من خوزستان إلى الكوفةِ واستقَرَّ بمكانٍ يُسمَّى (النهرين)، وكان يُظهِرُ الزهدَ والتقشُّفَ ويسفُ الخُوصَ ويأكُلُ مِن كَسْبِ يَدِه، ويُكثِرُ الصلاة، فأقام على ذلك مدَّةً، فكان إذا قعد إليه رجلٌ ذاكَرَه في أمر الدينِ وزَهَّدَه في الدنيا وأعلَمَه أنَّ الصلاة المفروضةَ على الناسِ خمسونَ صلاةً في كلِّ يومٍ وليلة، حتى فشا ذلك عنه بموضِعِه، ثمَّ أعلَمَهم أنَّه يدعو إلى إمامٍ مِن آل بيتِ الرَّسولِ، فلم يزَلْ على ذلك حتى استجاب له جمعٌ كثيرٌ، وكان تأثَّرَ أصلًا بالحسين الأهوازي صاحب الإسماعيليِّين، واستلمَ الزَّعامة حمدانُ بعد موت الحسين، فابتنى دارًا لأتباعِه بالكوفة، وفرَضَ على أتباعه مبلغًا يدفعونَه ويَصرِفُه هو في الدَّعوة، كما جعل من أصحابِه اثني عشر نقيبًا، واشترى السلاحَ وأخافَ النَّاسَ فلَحِقَ به بعضُهم خوفًا، وكان القرامِطةُ دُعاةً للإسماعيليَّة في البداية، ثم انحرفوا عنهم بعد أن انحرَفَت الدعوة في السلميَّة- مقر الدَّعوة الإسماعيلية- ولم تعد لأولاد محمَّد بن إسماعيل بل لأولاد عبدالله بن ميمون القدَّاح- ابن مؤسِّس الدعوة- فبدأ بالدعوة بطريقٍ آخَرَ مخالِفًا عن الإسماعيليين؛ مما ولَّد الشقاق بينهم، وأصبحت كلُّ دعوةٍ مُستقلَّةً بنَفسِها، ومن المعروفِ أن هذه الدعوةَ فيها إسقاطٌ للفروضِ مِن الصلاةِ والصَّومِ والحَجِّ وغيرها من التعاليم.
في هذه السنة عمَّ البلاء وعظُمَ العزاء بجنكيزخان المسمى بتموجين وقيل (تمرجين) لعنه الله تعالى، ومن معه من التتر قبَّحهم الله أجمعين، واستفحل أمرُهم واشتد إفسادُهم من أقصى بلاد الصين إلى أن وصلوا بلاد العراق وما حولها حتى انتهوا إلى إربل وأعمالها، فمَلَكوا في سنة واحدة وهي هذه السنة سائر الممالك المشرق، وقهروا جميع الطوائفِ التي بتلك النواحي الخوارزمية والقفجاق والكرج واللان والخزر وغيرهم، وقتلوا في هذه السنة من طوائف المسلمين وغيرهم في بلدان متعددة ما لا يحَدُّ ولا يُوصَفُ، وبالجملة فلم يدخُلوا بلدًا إلا قتلوا جميعَ من فيه من المقاتلة والرجال، وكثيرًا من النساء والأطفال، وأتلفوا ما فيه بالنَّهبِ إن احتاجوا إليه، وبالحريق إن لم يحتاجوا إليه، حتى إنهم كانوا يجمعون الحريرَ الكثير الذي يعجزون عن حمله فيطلقون فيه النار وهم ينظرون إليه، ويخربون المنازل، وما عَجَزوا عن تخريبه يحرقونه، وأكثر ما يحرقون المساجد والجوامع، وكانوا يأخذون الأسارى من المسلمين فيقاتِلون بهم ويحاصِرون بهم، وإن لم ينصحوا في القتال قَتَلوهم. وقد بسط ابن الأثير في كامله خبرهم في هذه السنة بسطًا حسنًا مفصلًا، فقال: "لقد بقيت عدة سنين معرضًا عن ذكر هذه الحادثة استعظامًا لها، كارهًا لذكرها، فأنا أقدم إليه رجلًا وأؤخر أخرى، فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين؟ ومن الذي يهونُ عليه ذكرُ ذلك؟ فيا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني مت قبل حدوثها وكنت نسيًا منسيًّا، إلا أنني حثني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها وأنا متوقف، ثم رأيتُ أنَّ تَرْك ذلك لا يجدي نفعًا، فنقول: هذا فصلٌ يتضمن ذكر الحادثة العظمى والمصيبة الكبرى التي عقمت الليالي والأيام عن مثلِها، عمت الخلائقَ وخَصَّت المسلمين، فلو قال قائل: إن العالمَ منذ خلق الله آدمَ وإلى الآن، لم يُبتَلوا بمثلها لكان صادقًا، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا يدانيها، ومن أعظم ما يذكرون من الحوادثِ ما فعل بختنصر ببني إسرائيل من القتل، وتخريب بيت المقدس، وما بيتُ المقدس بالنسبة إلى ما خرَّب هؤلاء الملاعين من البلاد؟ ولعلَّ الخلائق لا يرون مثل هذه الحادثة إلى أن ينقَرِضَ العالم، وتفنى الدنيا إلا يأجوج ومأجوج، وأما الدجَّال فإنه يبقي على من اتَّبَعه، ويهلك من خالفه، وهؤلاء لم يُبقُوا على أحد، بل قتلوا الرجال والنساء والأطفال، وشَقُّوا بطون الحوامل، وقتلوا الأجنَّة، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم لهذه الحادثة التي استطار شررها، وعم ضررها، وسارت في البلاد كالسحاب استدبرته الريح، فإنَّ قومًا خرجوا من أطراف الصين، فقصدوا بلاد تركستان مثل كاشغر وبلاساغون، ثم منها إلى بلاد ما وراء النهر مثل سمرقند وبخارى وغيرهما، فيملكونها، ويفعلون بأهلها الأفاعيل، ثم تعبر طائفة منهم إلى خراسان فيفرغون منها ملكًا، وتخريبًا وقتلًا ونهبًا، ثم يجاوزونَها إلى الري وهمذان وبلد الجبل وما فيه من البلاد إلى حد العراق، ثم يقصِدون بلاد أذربيجان وأرانية ويخربونه، ويقتلون أكثَرَ أهلها ولم ينجُ منهم إلا الشريد النادر في أقل من سنة، هذا ما لم يسمع بمثله، ثم ساروا إلى دربند شروان فملكوا مدنَه، ولم يسلَمْ غير قلعته التي بها مُلكُهم، وعبَروا عندها إلى بلد اللان، واللكز ومن في ذلك الصقع من الأمم المختلفة، فأوسعوهم قتلًا ونهبًا وتخريبًا، ثم قصدوا بلاد قفجاق، وهم من أكثر الترك عددًا، فقتلوا كل من وقف لهم وهرب الباقون إلى الغياض وملكوا عليهم بلادهم، وسارت طائفة أخرى إلى غزنة وأعمالها، وما يجاورها من بلاد الهند وسجستان وكرمان، ففعلوا فيها مثل أفعال هؤلاء وأشد، هذا ما لم يطرق الأسماعَ مثلُه، فإن الإسكندر الذي اتفق المؤرخون على أنه ملك الدنيا لم يملِكْها في سنة واحدة، إنما ملَكَها في نحو عشر سنين، ولم يقتل أحدًا، بل رضي من الناس بالطاعة، وهؤلاء قد ملكوا أكثر المعمور من الأرض وأطيبه وأحسنه عمارة، وأكثره أهلًا وأعدلهم أخلاقًا وسيرة في نحو سنة، ولم يتَّفِق لأحد من أهل البلاد التي لم يطرقوها بقاء إلا وهو خائف مترقِّب وصولهم إليه. ثم إنهم لا يحتاجون إلى ميرة ومدد يأتيهم، فإنهم معهم الأغنام، والبقر، والخيل، وغير ذلك من الدواب، يأكلون لحومَها لا غير، وأما دوابهم التي يركبونها فإنها تحفِرُ الأرض بحوافرها، وتأكل عروقَ النبات لا تعرفُ الشعير، فهم إذا نزلوا منزلًا لا يحتاجون إلى شيءٍ مِن خارجه. وأمَّا ديانتهم، فإنهم يسجدون للشمسِ عند طلوعها، ولا يحرمون شيئًا، فإنهم يأكلون جميعَ الدواب، حتى الكلاب، والخنازير، وغيرها، ولا يعرفون نكاحًا بل المرأة يأتيها غيرُ واحد من الرجال، فإذا جاء الولدُ لا يَعرِف أباه. وإنما استقام لهم هذا الأمرُ لعدم المانع؛ لأن السلطان خوارزم شاه محمدًا كان قد قتل الملوك من سائر الممالك، واستقَرَّ في الأمور، فلما انهزم من التتر في العام الماضي وضَعُف عنهم وساقوا وراءه فهرب فلا يدرى أين ذهب، وهلك في بعض جزائر البحر، خلت البلادُ ولم يبق لها من يحميها؛ {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} [الأنفال: 44] وإلى الله تُرجَع الأمور."
تعاظم أمرُ النَّصارى بمصر, فتباهَوا بالملابِسِ الفاخرة، وبَنَوا الأملاكَ الجليلة في مصرَ والقاهرة، واقتَنَوا الجواريَ الجميلةَ مِن الأتراك والمولَّدات، واستولَوا على دواوينِ السلطان والأمراء، وزادوا في الحُمقِ والرَّقاعة، وتعَدَّوا طَورَهم في الترفُّع والتعاظم، وأكثروا من أذى المسلمينَ وإهانتهم، وتحرَّكت الناسُ في أمر النصارى وماجوا، وانتَدَب عِدَّةٌ من أهل الخير لذلك، وصاروا إلى الأمير طاز الشريف أبى العباس الصفراوي، وبلَّغوه ما عليه النصارى مما يوجِبُه نَقضُ عَهدِهم، وانتَدَبوه لنصرة الإسلام والمسلمين، فانتفَضَ الأمير طاز لذلك، وحَدَّثَ الأميرين شيخو وصرغتمش وبقية الأمراء في ذلك بين يدي السلطانِ، فوافقوه جميعًا، وكان لهم يومئذٍ بالإسلامِ وأهلِه عِنايةٌ، ورَتَّبوا قِصَّةً على لسان المسلمين، قُرِئَت بدار العَدلِ على السلطانِ بحَضرةِ الأمراء والقُضاة وعامة أهل الدولة، فرَسَمَ بعَقدِ مَجلِسٍ للنَّظَرِ في هذا الأمر؛ لِيُحمَلَ النصارى واليهود على العهدِ الذي تقَرَّرَ في خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وطُلِبَ بطرك النصارى ورئيس اليهود، وحَضَرت قضاة القضاة وعلماء الشريعة، وأمراءُ الدولة، وجيء بالبطرك والرئيس، فوقفا على أرجُلِهما وقرأ العلائيُّ علي بن فضل الله كاتِبُ السر نسخةَ العهد الذي بين المسلمين وبين أهل الذمة، بعد ما أُلزِموا بإحضاره، وهو ألَّا يُحدِثوا في البلاد الإسلامية وأعمالها دِيرًا ولا كنيسةً ولا صومعةً، ولا يجَدِّدوا منها ما خَرِبَ، ولا يَمنَعوا من كنائِسِهم التي عاهدوا عليها أن يَنزِلَ بها أحدٌ مِن المسلمين ثلاثَ ليالٍ يُطعِمونَه، ولا يكتموا غشًّا للمسلمين، ولا يعَلِّموا أولادَهم القرآنَ، ولا يمنعوهم من الإسلامِ إن أرادوا، وإن أسلم أحدُهم لا يردُّوه، ولا يتشَبَّهوا بشيءٍ مِن ملابِسِ المسلمين ويلبَسُ النصرانيُّ منهم العمامةَ الزرقاءَ عَشرَ أذرُعٍ فما دونَها، واليهوديُّ العِمامةَ الصفراء كذلك، ويُمنَع نساؤُهم من التشبُّه بنساء المسلمين، ولا يتسَمَّوا بأسماءِ المُسلِمين، ولا يكتَنُوا بكُناهم، ولا يتلقَّبوا بألقابهم، ولا يركبوا على سَرجٍ، ولا يتقَلَّدوا سيفًا، ولا يركبوا الخيلَ والبِغالَ، ويركبون الحميرَ عَرضًا بالكَفِّ مِن غيرِ تزيينٍ ولا قيمةٍ عظيمة لها، ولا ينقُشوا خواتمهم بالعربيَّة، وأن يَجُزُّوا مقادِمَ رُؤوسهم، والمرأةُ من النصارى تلبَسُ الإزارَ المصبوغ أزرق، والمرأةُ مِن اليهود تلبَسُ الإزار المصبوغ بالأصفر، ولا يدخل أحَدٌ منهم الحمامِ إلَّا بعلامة ممَيِّزة عن المسلم في عُنُقِه، من نحاسٍ أو حديد أو رصاصٍ أو غير ذلك، ولا يستخدموا مُسلِمًا في أعمالهم، وتلبَسُ المرأة السائرةُ خُفَّين أحدهما أسود والآخر أبيض، ولا يجاوروا المسلمينَ بموتاهم، ولا يرفَعوا بناءَ قُبورهم، ولا يعلُوا على المسلمين في بناءٍ، ولا يضربوا بالنَّاقوسِ إلَّا ضربًا خفيفًا، ولا يرفَعوا أصواتَهم في كنائِسِهم، ولا يشتَرُوا من الرقيقِ مُسلمًا ولا مُسلِمةً، ولا ما جَرَت عليه سهامُ المسلمين، ولا يمشُوا وسَطَ الطريق توسِعةً للمُسلمين، ولا يَفتِنوا مُسلِمًا عن دينه، ولا يدُلُّوا على عوراتِ المسلمين، ومن زنى بمُسلمةٍ قُتِل، ومن خالف ذلك فقد حَلَّ منه ما يحِلُّ مِن أهل المعانَدةِ والشِّقاقِ، وكلُّ من مات من اليهود والنصارى والسامرة، ذكرًا كان أو أنثى، يَحتاطُ عليه ديوانُ المواريثِ الحَشريَّة، بالديارِ المصريَّة وأعمالِها وسائِرِ الممالك الإسلامية، إلى أن يُثبِتَ ورَثَتُه ما يستحقُّونه بمقتضى الشرع الشريف، فإذا استحَقَّ يعطونه بمقتضاه، وتُحمَلُ البقيَّةُ لبيت مال المسلمين، ومن مات منهم ولا وارِثَ له يُحمَلُ موجوده لبيتِ المال، ويُجرى على موتاهم الحوطةُ من ديوان المواريث ووكلاء بيت المال مجرى من يموتُ من المسلمين، إلى أن تُبَيَّن مواريثهم، وكان هذا العهدُ قد كتب في رجب سنة 700 في الأيام الناصريَّة محمد بن قلاوون، فلمَّا انتهى العلائي علي بن فضل الله كاتِبُ السرِّ مِن قراءته، تقلد بطركُ النصارى وديان اليهود حُكمَ ذلك، والتَزَما بما فيه، وأجابا بالسَّمع والطاعة، ثم جال الحديثُ في أمر اليهود والنصارى وإعادةِ وقائِعِهم الماضية، وأنهم بعد التزامِهم أحكام العهد يعودونَ إلى ما نُهُوا عنه، فاستقَرَّ الحال على أنهم يُمنَعونَ مِن الخِدَم في جميع الأعمال، ولا يُستخدَمُ نصراني ولا يهودي في ديوانِ السلطان، ولا في شيءٍ مِن دواوين الأمراء، ولو تلفَّظ بالإسلامِ، على أنَّ أحدًا منهم لا يُكرَهُ على الإسلام، فإن أسلم برِضاه، لا يدخُلُ مَنزِلَه، ولا يجتَمِعُ بأهله إلَّا إن اتَّبَعوه في الإسلام، ويُلزَمُ أحدُهم إذا أسلم بملازمة المساجد والجوامع، وكُتِبَ بذلك كُلِّه مراسيم سلطانية سار بها البريدُ إلى البلاد الإسلامية، فكان تاريخُها ثاني عشر جمادى الآخرة، وقُرئ منها مرسومٌ بمجلس السلطان في يوم الخميس خامس عشر، وركب من الغد يوم الجمعة سادس عشر الأميرُ سيف الدين قشتمر الحاجب، ومعه الشريف شهاب الدين المنشئ بالمراسيم السلطانيَّة إلى البلاد الإسلامية، وقُرئ مرسومٌ بجامع عمرو بن العاص من مدينة مصر، وآخَرُ بجامع الأزهر من القاهرة، فكان يومًا عظيمًا هاجت فيه حفائِظُ المسلمين، وتحَرَّكت سواكِنُهم؛ لِما في صدورهم من الحَنَق على النصارى، ونهضوا من ذلك المجلس بعد صلاة الجمعة، وثاروا باليهودِ والنصارى، وأمسكوهم من الطرقات، وتتَبَّعوهم في المواضِعِ وتناولوهم بالضرب، ومَزَّقوا ما عليهم من الثياب، وأكرهوهم على الإسلام، فيَضطرُّهم كثرةُ الضرب والإهانة إلى التلفظ بالشهادتينِ خوفَ الهلاك، فإنَّهم زادوا في الأمر حتى أضرموا النيران، وحملوا اليهود والنصارى، وألقَوهم فيها، فاختَفَوا في بيوتهم، حتى لم يوجَدْ منهم أحد في طريق ولا ممر، وشربوا مياه الآبار لامتناعِ السقَّائين مِن حَمل ِالماء من النيل إليهم، فلما شنع الأمر نُودِيَ في القاهرة ومصر ألا يُعارَضَ أحدٌ مِن النصارى أو اليهود، فلم يرجِعوا عنهم، وحَلَّ بهم من ذلك بلاءٌ شديد، كان أعظَمَه نكايةً لهم أنَّهم منعوا مِن الخِدَم بعد إسلامِهم، فإنهم كانوا فيما مضى من وقائِعِهم إذا مُنِعوا من ذلك كادوا المُسلمين بإظهارِ الإسلام، ثمَّ بالغوا في إيصال الأذى لهم بكلِّ طريق، بحيث لم يبقَ مانع يمنَعُهم لأنه صار الواحِدُ منهم فيما يظهَرُ مُسلِمًا ويَدُه مبسوطةٌ في الأعمال، وأمْرُه نافذٌ، وقولُه مُمتَثَل، فبطل ما كانوا يعملونَ، وتعطَّلوا عن الخِدَم في الديوان، وامتنع اليهودُ والنصارى من تعاطي صناعة الطب، وبذل الأقباط جُهدَهم في إبطال ذلك، فلم يجابُوا إليه، ثمَّ لم يكْفِ الناس من النصارى ما مَرَّ بهم حتى تسَلَّطوا على كنائسهم ومساكِنِهم الجليلة التي رفعوها على أبنيةِ المسلمين، فهدموها، فازداد النصارى واليهودُ خوفًا على خوفهم، وبالغوا في الاختفاءِ، حتى لم يظهَرْ منهم أحدٌ في سوق ولا في غيره، ثم وقعت قِصَصٌ على لسان المسلمين بدار العدل تتضَمَّنُ أنَّ النصارى استَجَدُّوا في كنائِسِهم عُمالًا، ووسعوا بناءها، وتجَمَّع من الناس عدد لا ينحصر، واستغاثوا بالسلطانِ في نصرة الإسلام، وذلك في يوم الاثنين رابع عشر رجب، فرسم لهم أن يَهدِموا الكنائِسَ المُستَجَدَّة، فنزلوا يدًا واحِدةً وهم يضِجُّون، وركب الأميرُ علاء الدين علي بن الكوراني والي القاهرة ليكشِفَ عن صحة ما ذكروه، فلم يتمَهَّلوا بل هجموا على كنيسةٍ بجوار قناطر السباع، وكنيسة للأسرى في طريق مصر، ونهبوهما وأخذوا ما فيهما من الأخشاب والرخام وغير ذلك، ووقع النهبُ في دير بناحية بولاق الدكرور، وهَجَموا على كنائس مصر والقاهرة، وأخربوا كنيسةً بحارة الفهادين من الجوانية بالقاهرة، وتجمعوا لتخريب كنيسة بالبندقانيين من القاهرة، فركب والي القاهرة وما زال حتى ردَّهم عنها، وتمادى هذا الحالُ حتى عجَزَت الحكَّامُ عن كفهم، وكثُرَت الأخبار من الوجه القبلي والوجه البحري بدخولِ النصارى في الإسلامِ، ومُواظبتِهم المساجِدَ، وحِفظِهم للقرآن، حتى إنَّ منهم من ثبتت عدالتُه وجلس مع الشهودِ، فإنه لم يبقَ في جميع أعمال مصر كُلِّها قِبليِّها وبحريِّها كنيسةٌ حتى هُدِمت، وبُني مواضِعَ كثيرٍ منها مساجد، فلما عَظُم البلاء على النصارى، وقَلَّت أرزاقهم، رأوا أن يدخلوا في الإسلام، ففشا الإسلامُ في عامَّة نصارى أرض مصر، حتى إنه أسلم من مدينة قليوب خاصة في يوم واحد أربعمائة وخمسون نفرًا! وممَّن أسلم في هذه الحادثة الشمس المقسي، جدُّ بني المقسي الذي منهم التاج ناظر الخواصِّ، والهيصم جدُّ بني الهيصم الوزراء, وحمَلَ كثيرٌ من الناس فِعْلَهم هذا على أنه من جملةِ مَكْرِهم؛ لكثرةِ ما شنَّعَ العامة في أمرهم، فكانت هذه الواقعةُ أيضًا من حوادث مصر العظيمة، ومن حينئذ اختلطت الأنسابُ بأرض مصر، فنكح هؤلاء الذين أظهروا الإسلامَ بالأرياف المُسلِماتِ، واستولدوهنَّ، ثمَّ قَدِمَ أولادُهم إلى القاهرة، وصار منهم قضاةٌ وشهود وعلماء، ومَن عَرَف سيرتَهم في أنفُسِهم، وفيما وَلُوه من أمور المسلمين، تفطَّنَ لِما لا يمكِنُ التصريحُ به.
هو السُّلطانُ مُعِزُّ الدِّينِ أبو الحارِثِ سنجر بن ملكشاه بن ألب أرسلان بن جغريبك بن ميكائيل بن سلجوق بن دقاق؛ الغُزِّيُّ، التُّركيُّ، السَّلجوقيُّ سُلطانُ خراسان وغُزنَة وما وَراءَ النَّهرِ. كانت وِلادَتُه يومَ الجُمعةِ لِخَمسٍ بَقِينَ من رجب سَنةَ 479هـ بظاهِرِ مَدينةِ سنجار، ولذلك سُمِّيَ بسنجر. نَشأَ ببلادِ الخَزَر، ثم سَكنَ خراسان. كان مِن أَعظمِ المُلوكِ هِمَّةً، وأَكثرِهم عَطاءً، ذُكِرَ عنه أنه اصطَبَحَ خَمسةَ أيامٍ مُتوالِيَة ذَهَبَ في الجُودِ بها كلَّ مَذهَبٍ، فبَلَغَ ما وَهَبَهُ مِن العَينِ سبعمائة ألف دينار، غيرَ ما أَنعمَ من الخَيلِ والخِلَعِ والأَثاثِ وغيرِ ذلك. وَلِيَ نِيابةً عن أَخيهِ السُّلطانِ بركياروق سَنةَ 490هـ، ثم استَقَلَّ بالمُلْكِ في سَنةِ 512هـ. كان في أَيامِ أَخيهِ يُلَقَّب بالمَلِكِ المُظَفَّر إلى أن تُوفِّيَ أَخوهُ محمدٌ بالعِراقِ، آخرَ سَنةِ 511هـ، فتَسَلْطَنَ، وَرِثَ المُلْكَ عن آبائهِ، وزادَ عليهم، ومَلَكَ البِلادَ، وقَهَرَ العِبادَ، وكان وَقورًا حَيِيًّا، كَريمًا سَخِيًّا، مُشفِقًا، ناصِحًا لِرَعِيَّتِه، كَثيرَ الصَّفْحِ، جَلَسَ على سَريرِ المُلْكِ قَريبًا من سِتِّين سَنةً, وضُرِبَت السِّكَّةُ باسمِه في الخافِقَينِ. كان قد خُوطِبَ سنجر بالسُّلطانِ بعدَ وَفاةِ أَخيهِ محمدٍ، فاستَقامَ أَمرُه، وأَطاعَهُ السَّلاطينُ، وخُطِبَ له على أَكثرِ مَنابرِ الإسلامِ بالسَّلطَنَةِ نحوَ أربعين سَنَةً، وكان قَبلَها يُخاطَب بالمَلِكِ عِشرينَ سَنةً, ولم يَزَل أَمرُهُ عالِيًا وَجَدُّهُ مُتراقِيًا إلى أن أَسَرَهُ الغُزُّ الأَتراكُ التُّركمان، ثم إنه خُلِّصَ مِن الأَسْرِ بعدَ مُدَّةٍ وجَمَعَ إليه أَطرافَهُ بمَرو، وكاد يعودُ إليه مُلْكُه، لولا أنه أَدرَكَهُ أَجَلُه، فقد أَصابَهُ قولنج، ثم إسهال، فماتَ منه، ولمَّا مات دُفِنَ في قُبَّةٍ بَناها لِنَفسِه سَمَّاها دارَ الآخِرَةِ؛ ولمَّا وَصَلَ خَبرُ مَوتِه إلى بغداد قُطِعَت خُطبتُه، ولم يُجلَس له في الدِّيوانِ للعَزاءِ، وانقَطَع بمَوتِه استِبدادُ المُلوكِ السَّلجوقيَّة بخراسان، واستَولَى على أَكثرِ مَملَكتِه خوارزم شاه أتسز بن محمد بن أنوشتكين، وهو جَدُّ السُّلطانِ محمدِ بن تكش خوارزم شاه، فسُبحان مَن لا يَزولُ مُلْكُه. كان السُّلطانُ سنجر لمَّا حَضَرَهُ المَوتُ استَخلَفَ على خراسان المَلِكَ محمودَ بنَ محمدِ بنِ بغراجان، وهو ابنُ أُختِ السُّلطانِ سنجر، فأَقامَ بها خائِفًا من الغُزِّ، فقَصَدَ جرجان يَستَظهِر بها، وعاد الغُزُّ إلى مَرو وخراسان، واجتَمَعَ طائفةٌ من عَساكرِ خراسان على أي أبه المؤيد -أحد مماليك سنجر السلجوقي- فاستَولَى على طَرفٍ من خراسان. وبَقِيَت خراسان على هذا الاختِلالِ إلى سَنةِ أربعٍ وخمسين.
لما عاد صلاحُ الدين إلى مصرَ بلَغَه أنَّ باليمن إنسانًا يسمَّى عبدَ النبي بن مهدي صاحِبَ زبيد يزعُمُ أنه ينتشر ملكُه حتى يملِكَ الأرضَ كُلَّها، وكان قد ملك كثيرًا من بلادِ اليمَنِ, واستولى على حصونِها وخطب لنَفسِه، وقطع الخطبةَ للخليفةِ العباسي, وكان السُّلطانُ قد ثبتت قواعِدُه وقَوِيَ عسكرُه، فاستأذن السلطان نور الدين محمود في أن يسيرَ إلى اليمن لقصدِ عبد النبي، فأذِنَ له في ذلك، فجهَّز أخاه شمس الدولة توران شاه بجيش اختاره، وتوجَّه إليها من الديار المصرية في مستهَلِّ رجب، فوصل إلى مكَّةَ، ومنها إلى زبيد، وفيها صاحِبُها المتغَلِّبُ عليها المعروفُ بعبد النبي، فلما قرُبَ منها رآه أهلُها، فاستقَلُّوا من معه، فقاتلهم شمس الدولة ومن معه، فلم يثبُت أهلُ زبيد وانهزموا، ووصل المصريونَ إلى سور زبيد، فلم يجدوا عليه من يمنَعُهم، فنصبوا السلالم، وصَعَدوا السور، فملكوا البلدَ عَنوةً ونَهَبوه وأكثروا النَّهبَ، وأخذوا عبد النبيِّ أسيرًا وزوجتَه المدعوة بالحُرَّة، وسَلَّمَ شمسُ الدولة عبد النبي إلى أحد أمرائه، يقال له سيف الدولة مبارك بن كامل من بني منقذ، أصحاب شيزر، وأمره أن يستخرجَ منه الأموالَ، وبذلك انتهت الدولة المهديَّة باليمن، ولَمَّا ملكوا زبيدَ واستقَرَّ الأمر لهم بها ودان أهلُها، وأقيمت فيها الخُطبةُ العباسيَّة، أصلحوا حالها، وساروا إلى عدن، وصاحِبُها ياسرُ بنُ بلال، فسار إليهم وقاتَلَهم، فانهزم ياسِرٌ ومن معه، وسبقهم بعضُ عسكر شمس الدولة، فدخلوا البلدَ قبل أهله، فملكوه، وأخذوا صاحِبَه ياسرًا أسيرًا، وأرادوا نهبَ البلد، فمنعهم شمسُ الدولة، وقال: ما جئنا لنخربَ البلاد، وإنما جئنا لنَملِكَها ونُعَمِّرَها وننتفع بدخلها؛ فلم ينهب منها أحدٌ شيئًا، فبقيت على حالها وثبَت مُلكُه واستقَرَّ أمرُه، وبذلك انتهت دولة بني زريع في اليمن، وآل الزريع هم أهل عدن، وهم شيعةٌ إسماعيليَّةٌ من همذان بن جشم، ولَمَّا فرغ شمس الدولة مِن أمْرِ عدن عاد إلى زبيد، وملك أيضًا قلعة التعكر والجند وغيرها من المعاقل والحصون، واستناب بعدن عزَّ الدين عثمان بن الزنجيلي، وبزبيد سيفَ الدولة مبارك بن منقذ، وجعَلَ في كل قلعةٍ نائبًا من أصحابه، وألقى مُلكُهم باليمن جِرانَه ودام، وأحسَنَ شمسُ الدولة إلى أهالي البلاد، واستصفى طاعتَهم بالعدل والإحسان، وعادت زبيد إلى أحسنِ أحوالها من العمارة والأمن.
هي رضية الدين بنت السلطان شمس الدين ألتمش المؤسس الحقيقي لدولة المماليك بالهند، وقد اشتهر ألتمش بالعدل وتحقيق الأمن في دولته. وكان ألتمش يحب ابنته ويقدمها على إخوانها الذكور لما يتوسم فيها من النجابة والهمة العالية, كما أنها كانت غاية في الحسن والجمال وعذوبة المنطق؛ لذا كان يسند إليها بعض المهام، حتى إنه فكَّر في أن يجعلها وليَّة للعهد دون إخوانها الذكور الذين انشغلوا باللهو والملذات، فلما مات ألتمش خلفه ابنه ركن الدين فيروز، غير أنه كان منشغلًا عن مسئولية الحكم وتبعاته باللهو واللعب، تاركًا تصريف أمور دولته إلى أمِّه التي استبدَّت بالأمر وهو ما جعل الأحوال تزداد سوءًا، وتشتعل المعارضة ضده، وانتهت الأزمة بأن بايع كثير من الأمراء رضية الدين بنت ألتمش، وأجلسوها على عرش السلطنة. وقد تحقق ما كان يراه أبوها ولا يراه سواه ممن كانوا يعترضون عليه إيثاره لها. جلست رضية الدين على عرش سلطنة دلهي نحو أربع سنوات 634-637 (1236-1369م) بذلت ما في وسعها من طاقة لتنهض بالبلاد التي خوت خزائنها من المال لإسراف أخيها، وسارت على خطا أبيها في سياسته الحكيمة العادلة في بداية الأمر، لكنها اصطدمت بالعلماء وكبار أمراء الملوك الذين يشكلون جماعة الأربعين، ويستأثرون بالسلطة والنفوذ، وحاولت الملكة جاهدة أن تسوسهم، وتحتال على تفريق كلمتهم، وتعقُّب المتمردين والثائرين عليها، وكانت تظهر بمظهر الرجال، وتجلس على العرش والعباءة عليها، والقلنسوة على رأسها وتقود جيشها وهي تمتطي ظهر فيلِها. ولما استقرت أحوال مملكتها انصرفت إلى تنظيم شؤونها، فعينت وزيرًا جديدًا للبلاد، وفوَّضت أمر الجيش إلى واحد من أكفأ قادتها هو سيف الدين أيبك، ونجحت جيوشها في مهاجمة قلعة رنتهبور وإنقاذ المسلمين المحاصرين بها، وكان الهنود يحاصرون القلعة بعد وفاة أبيها السلطان التمش. غير أن هذه السياسة لم تلق ترحيبًا من مماليك سلطنتها الذين أنِفوا أن تحكمهم امرأة، وزاد من بغضهم لهذا الأمر أن السلطانة رضية أخذت تتمرد على قيم الدين الإسلامي وحاربت الناصحين لها خاصة من العلماء. كما قرَّبت إليها رجلًا حبشيًّا مملوكا يُدعى جمال الدين ياقوت، كان يشغل منصب قائد الفرسان، ولم تستطع السلطانة أن تُسكت حركات التمرد التي تقوم ضدها، كما كانت تفعل في كل مرة، فاجتمع عليها المماليك وأشعلوا الثورة ضدها، وحاولت أن تقمعها بكل شجاعة، لكنها هُزمت، وانتهى الأمر بقتلها في 25 ربيع الأول 637 (25 أكتوبر 1239م) وتولِّي أخيها السلطان معز الدين عرش البلاد.
تواترت الأخبارُ بأنَّ الأميرين شيخًا ونوروزًا قد اتفقا على الخروج عن طاعة السلطان، وعزما على أخذ حماة، فوقع الشروع في عمارة قلعة دمشق، وكُتِبَ تقدير المصروف على ذلك مبلغ ثلاثين ألف دينار، وفيه وقع الاهتمام في بلاد الشام بتجهيز الإقامات للسلطان، وفي شهر رجب قدم الخبر بأن الأمير نوروزًا نائب طرابلس توجَّه منها إلى حصن الأكراد وحاصرها، وأن الأمير شيخًا كتب إليه أنه اتفق مع جماعة من قلعة حلب على أن يسلِّموها له، وأشار عليه أن يرجع إلى طرابلس يحصل قلعة حلب بيده، وأن الاتفاق وقع بينهما على أن يجهزا سودن الجلب على ثلاثمائة فارس ليأخُذَ حماة، وأن الأمير شيخًا أرسل إلى ناصر الدين محمد بن دلغادر يعرض عليه نيابة عينتاب فلم يقبل ذلك، وأنه خرج من حلب يريد العمق، فنزله آخر جمادى الآخرة، وجمع عليه طائفة التركمان البياضية وابن سقل سيز، ابن صاحب الباز، وغيرهم من التركمان والعرب، وأنه أوقع بعمر بن كندر في ثالث رجب، ثم قاتل التركمان في سابعه، فكسرهم، وأسر منهم جماعة، وأنه بعث أحمد الجنكي أحد ندمائه بهدية إلى قرا يوسف، وأن نوروزًا بعث إليه بهدية أخرى صحبة بهلوان من أصحابه، وفي شهر رمضان تأكد عند السلطان خروج الأميرين شيخ ونوروز عن طاعته، وأنهما عزما على أخذ دمشق، وأن سودن الجلب ويشبك بن أزدمر سعيا في ذلك، وأن الأمير نوروزًا قتل أقسنقر الحاجب، ثم في شهر ذي الحجة خرج السلطان بجيشه من مصر يريد الشام وأن يأخذ الأمير شيخًا ونوروزًا، ثم جاء الخبر بأن الأمراء الذين تقدموه قد خرجوا عن الطاعة، فلم يَثبُت، وسار السلطان من غزة مجدًّا في طلبهم، وقد نفرت منه القلوب، وتمالأت على بُغضِه؛ لقبح سيرتِه، وسوء سريرتِه، وفي السادس والعشرين ذي الحجة نزل الأمراء الذين تقدموا بقبة يلبغا خارج دمشق، وركبوا إلى الأمير تغري بردي نائب الشام، فعادُوه وقد اشتد به مرضُه، وأعلنوا بما هم عليه من الخلاف للسلطان، والخروج عن طاعته، ثم رحلوا عن قبة يلبغا في التاسع والعشرين، ونزلوا على برزة يريدون اللحاق بالأميرين شيخ ونوروز على حمص، فلم يوافقهم على ذلك الأمير شاهين الزردكاش، فقبضوا عليه ومضوا، ونزل السلطان الكسوة في بكرة يوم الثلاثاء آخره، وقد فتَّ في عَضُدِه مخالفة الأمراء عليه، ولاحت أمارات الخذلان عليه، وظهرت كآبة الزوال والإدبار، فألبس من معه من العسكر السلاح، ورتَّبهم بنفسه، ثم ساق بهم، وقصد دمشق.