لَمَّا توقَّفَ الحجُّ مِن العِراقِ عِدَّةَ سَنَواتٍ مُتَتالياتٍ خَوفًا مِن الأعرابِ قُطَّاعِ الطُّرُقِ، قَصَد النَّاسُ يَمينَ الدَّولةِ محمودَ بنَ سبكتكين وقالوا له: أنت سُلطانُ الإسلامِ وأعظَمُ مُلوكِ الأرض، وفي كلِّ سَنةٍ تَفتَحُ مِن بلادِ الكُفرِ ما تُحِبُّه، والثَّوابُ في فَتحِ طَريقِ الحَجِّ أعظَمُ، وقد كان الأميرُ بَدرُ بنُ حسنويه، وما في أمرائِك إلَّا مَن هو أكبَرُ منه شأنًا، يُسَيِّرُ الحاجَّ بمالِه وتدبيرِه عشرينَ سَنةً، فتقَدَّمَ ابنُ سبكتكين إلى قاضيه أبي مُحمَّدٍ الناصحي بالتأهُّبِ للحَجِّ، ونادى في أعمالِ خُراسان بالحَجِّ، وأطلق للعَرَبِ ثلاثينَ ألفَ دينارٍ سَلَّمَها إلى النَّاصحيِّ المذكورِ غيرَ ما للصَّدَقاتِ، فحَجَّ بالنَّاسِ أبو الحَسَن ِالأقساسي، فلمَّا بلغوا فيدَ حاصَرَتْهم العرَبُ، فبذل لهم القاضي النَّاصحي خمسةَ آلافِ دينارٍ، فلم يَقنَعوا وصَمَّموا على أخذِ الحافي، فرَكِبَ رأسَهم جَمَّازُ بنُ عديٍّ، وقد انضم عليه ألفا رجُلٍ مِن بني نبهان، وأخذ بِيَدِه رمحًا وجال حولَ الحاجِّ، وكان في السَّمَرْقنديِّينَ غُلامٌ يُعرَفُ بابنِ عَفَّان، فرماه بسَهمٍ فسَقَط منه مَيِّتًا وهَرَب جَمعُه، وعاد الحاجُّ في سلامةٍ.
سأل جلالُ الدَّولةِ البويهيُّ الشيعيُّ الخليفةَ القائمَ بأمرِ الله ليخاطَبَ بشاهِنشاه أي: ملك الملوك، فامتنع، ثمَّ أجاب إليه؛ إذ أفتى الفقهاءُ بجَوازِه، فكتب فتوى إلى الفُقَهاءِ في ذلك، فأفتى القاضي أبو الطيِّب الطبري، والقاضي أبو عبد الله الصيمري، والقاضي ابن البيضاوي، وأبو القاسم الكرخي بجوازِه، وامتنع منه قاضي القضاة أبو الحَسَن الماوردي، وجرى بينه وبين من أفتى بجوازه مراجعاتٌ، وخُطِبَ لجلالِ الدَّولة بمَلِك الملوك، وكان الماورديُّ مِن أخَصِّ الناسِ بجلال الدَّولة، وكان يتردَّدُ إلى دار المملكة كلَّ يوم، فلما أفتى بهذه الفُتيا انقطَعَ ولَزِمَ بيته خائِفًا، وأقام منقطعًا مِن شَهرِ رمضان إلى يوم عيدِ النحر، فاستدعاه جلالُ الدَّولة، فحضر خائفًا، فأدخله وَحْدَه وقال له: قد عَلِمَ كُلُّ أحد أنَّك من أكثَرِ الفقهاءِ مالًا وجاهًا وقربًا منا، وقد خالفْتَهم فيما خالفَ هوايَ، ولم تفعلْ ذلك إلَّا لعدمِ المحاباةِ منك، واتِّباعِ الحَقِّ، وقد بان لي مَوضِعُك من الدِّين، ومكانُك من العلمِ، وجعلتُ جزاءَ ذلك إكرامَك بأن أدخلتُك إليَّ، وجعلْتُ أذن الحاضرين إليك؛ ليتحَقَّقوا عودي إلى ما تحِبُّ، فشكره ودعا له.
هو الصاحبُ، الوَزيرُ، العَلَّامَةُ، أبو الوَليدِ أحمدُ بن عبدِ الله بن أحمدَ بن غالبِ بن زَيدونَ المَخزُومِيُّ، القُرشيُّ، الأندَلُسيُّ، القُرطُبيُّ، الشاعرُ الماهرُ، حاملُ لِواءِ الشِّعْرِ في عَصرِه. اتَّصلَ بالأَميرِ المُعتَمِدِ بن عبَّادٍ، صاحبِ إشبيلية، فحَظِيَ عنده وصار مُشاوِرًا في مَنزِلَةِ الوَزيرِ، كان بارِعًا أَديبًا شاعرًا مُجيدًا، كان يُشعِر لِنَفسِه لا للتَّكَسُّبِ، أُفْعِمَ بِحُبِّ وَلَّادَة بِنتِ المُستَكْفِي المرواني أَميرِ الأندَلُس، سُجِنَ بِتُهمَةِ مَيْلِه لِبَني أُمَيَّةَ، قال ابنُ بَسَّام: " كان أبو الوَليدِ غايةَ مَنثورٍ ومَنظومٍ، وخاتِمةَ شُعراءِ بني مَخزومٍ، أَحدُ مَن جَرَّ الأيامَ جَرًّا، وفاتَ الأنامَ طُرًّا، وصَرَّفَ السُّلطانَ نَفْعًا وضُرًّا، ووَسَّعَ البيانَ نَظْمًا ونَثْرًا؛ إلى أَدبٍ ليس للبَحرِ تَدَفُّقُهُ، ولا للبَدرِ تَأَلُّقُهُ، وشِعْرٍ ليس للسِّحْرِ بَيانُه، وللنُّجومِ الزُّهْرِ اقتِرانُه. وحَظٍّ مِن النَّثْرِ غَريبِ المَباني، شِعريِّ الألفاظِ والمعاني", وكان من أَبناءِ وُجوهِ الفُقَهاءِ بقُرطُبة، فانتَقلَ منها إلى عند صاحبِ إشبيلية المُعتَضِدِ بن عبَّادٍ، بعد الأربعين وأربع مائة، فجَعَلَهُ مِن خَواصِّه، وبَقِيَ معه في صُورةِ وَزيرٍ. تُوفِّي في إشبيلية ثم نُقِلَ إلى قُرطُبة ودُفِنَ فيها.
هو الأَميرُ الكَبيرُ، ناصِرُ الدَّولةِ، حُسينُ بنُ الأَميرِ ناصِرِ الدَّولةِ وسَيفِها حَسنِ بنِ الحُسينِ ابنِ صاحِبِ المَوصِل ناصِرِ الدَّولةِ، أبي مُحمدٍ الحَسنِ بنِ عبدِ الله بن حمدان، التَّغلبيُّ. كان أَبوهُ حَسنٌ قد عَمِلَ نِيابةَ دِمشقَ لصاحِبِ مصر المُستَنصِر، ونَشأَ ناصرُ الدَّولةِ، فكان أَحَدَ الأَبطالِ، شَهْمًا شُجاعًا، مِقدامًا مَهِيبًا، وافِرَ الحِشمَةِ، تَمَكَّنَ بمِصرَ، وتَقدَّم على أُمَرائِها، وجَرَت له حُروبٌ وخُطوبٌ وعَجائِبُ، وأَظهرَ بمصر السُّنَّةَ، وكان عازِمًا على إِقامَةِ الدَّعوةِ لِبَنِي العبَّاسِ، فإنَّه تَهَيَّأَت له الأَسبابُ، وقَهَرَ المُستَنصِرَ بالله العُبيديَّ، قال الذهبيُّ: "كان عَمَّالًا على إِقامَةِ الدَّولةِ لِبَنِي العبَّاسِ، وقَهْرِ العُبيديَّة، وتَهَيَّأَت له الأَسبابُ، وتَرَكَ المُستَنصِر على بَرْدِ الدِّيارِ، وأَبادَ الكِبارَ، إلى أن وَثَبَ عليه أَتراكٌ، فقَتَلوهُ" وكان قد وَلِيَ إِمْرَةَ دِمشقَ أيضًا، وكان قد رَاسلَ ناصِرُ الدَّولةِ السُّلطانَ ألب أرسلان لِيَنجِدَهُ بعَسكرٍ للقَضاءِ على العُبيديِّين فأَجابَه. فلمَّا خَشِيَ الأُمراءُ على أَنفُسِهم منه انتَدَبوا لاغتِيالِه وللفَتْكِ به إلدكزَ التُّركيَّ في جَماعةٍ من الأُمراءِ، فقَتَلوهُ وقَتَلوا أَخويهِ تاجَ المعالي وفَخْرَ العَربِ، وانتهى ذِكْرُ بني حمدان في مصر.
كان أَوَّلَهم محمدُ خوارزم شاه بن أنوشتكين، وكان أنوش تكين مَملوكًا لِرَجلٍ من غرشتان ولذلك قِيلَ له: أنوش تكين غرشه، فاشتَراهُ منه أَميرٌ من السَّلجوقيَّة اسمُه بلكابل، وكان أنوشتكين حَسَنَ الطَّريقةِ فكَبُرَ وعَلَا مَحِلُّهُ، وصار أنوشتكين مُقَدَّمًا مَرجُوعًا إليه، ووُلِدَ له محمد خوارزم شاه المذكور، فرَبَّاهُ والِدُه أنوشتكين وأَحسَنَ تَأدِيبَه، فانتَشَأ محمدٌ عارِفًا أَدِيبًا، وتَقدَّم بالعِنايَةِ الأَزَلِيَّةِ، واشتُهِرَ بالكِفايَةِ وحُسْنِ التَّدبيرِ، فلمَّا قَدِمَ الأَميرُ داذا الحبشيُّ إلى خُراسان وهو مِن أُمراءِ بركيارق؛ كان قد أَرسلَهُ بركيارق لِتَهدِئَةِ أَمرِ خُراسان؛ بسَببِ فِتنَةٍ كانت قد وَقعَت فيها من الأَتراكِ، قُتِلَ فيها النائِبُ علي خوارزم، فوَصلَ داذا وأَصلحَ أَمرَ خوارزم، واستَعملَ على خوارزم في هذه السَّنَةِ محمدَ بن أنوشتكين المذكورَ، ولَقَّبَهُ خوارزم فقَصَرَ محمدٌ أَوقاتَهُ على مَعْدَلَةٍ يَنشُرُها ومَكْرَمَةٍ يَفعلُها، وقَرَّبَ أَهلَ العِلمِ والدِّينِ، فَعَلَا مَحِلُّهُ وعَظُمَ ذِكرُه، ثم أَقَرَّهُ السُّلطانُ سنجر على وِلايَةِ خوارزم، وعَظُمَت مَنزِلَةُ محمد خوارزم شاه المذكور عند السُّلطانِ سنجر، ولمَّا تُوفِّي خوارزم شاه محمد، وَلِيَ بعدَه ابنُه أطسز فمَدَّ غِلالَ الأَمنِ وأَفاضَ العَدلَ.
لَمَّا قُتِلَ المَلِكُ الأشرَفُ صلاحُ الدين خليلُ بن قلاوون بالقُربِ مِن تروجة، وعدى الأميرُ زين الدين كتبغا والأمراء، اجتمَعَ بهم الأميرُ علم الدين سنجر الشجاعي ومن كان بالقاهرةِ والقلعة من الأمراء الصالحيَّة والمنصورية، وقرَّروا سلطنةَ الناصر محمد بن قلاوون وأحضروه وعُمُرُه تسعُ سنين سوى أشهر في يومِ السبت سادس عشر المحرم وأجلَسوه على سريرِ السلطنة، ورتَّبوا الأمير زين الدين كتبغا نائب السلطنة عِوَضًا عن بيدرا، والأميرَ علم الدين سنجر الشجاعي وزيرًا ومدبرًا عِوَضًا عن ابن السلعوس، والأميرَ حُسام الدين لاجين الرومي الأستادار أطابكَ العساكر، والأميرَ رُكنَ الدين بيبرس الجاشنكير أستادارا، والأميرَ ركن الدين بيبرس الدوادار دوادارًا، وأعطِيَ إمرةَ مائة فارس وتقدمة ألف، وجعل إليه أمر ديوان الإنشاء في المكاتَباتِ والأجوبة والبريد، وأنفق في العسكرِ وحَلَفوا فصار كتبغا هو القائِمَ بجميع أمورِ الدولة، وليس للمَلِكِ الناصِرِ مِن السلطنة إلا اسمُ المَلِك من غيرِ زيادةٍ على ذلك، وسكن كتبغا بدارِ النيابة من القلعةِ، وجعل الخوانَ يُمَدُّ بين يديه.
استدعى السلطانُ حسام الدين لاجين قاضيَ القضاة زينَ الدين علي بن مخلوف المالكي، وصِيَّ المَلِك الناصرِ محمد بن قلاوون، وقال له: الملِكُ الناصر ابنُ أستاذي، وأنا قائِمٌ في السلطنة كالنائِبِ عنه إلى أن يُحسِنَ القيامَ بأمرها، والرأيُ أن يتوجَّهَ إلى الكرك وأمَرَه بتجهيزِه، ثم قال السلطانُ للملك الناصر محمد بن قلاوون: لو عَلِمتُ أنَّهم يخلونَك سلطانًا واللهِ ترَكْتُ المُلكَ لك، لكِنَّهم لا يخلونه لك وأنا مملوكُك ومملوكُ والدِك، أحفَظُ لك المُلكَ، وأنت الآن تروح إلى الكرك إلى أن تترعرعَ وترتجِلَ وتتحَرَّج وتجرِّبَ الأمور وتعود إلى مُلكِك، بشرط أنك تعطيني دمشقَ وأكونَ بها مثل صاحِبِ حماة فيها، فقال له الناصر: فاحلِفْ لي أن تبقيَ على نفسي وأنا أروحُ، فحَلَفَ كلٌّ منهما على ما أراده الآخَرُ، فخرج الناصِرُ في أواخر صفر، ومعه الأميرُ سيف الدين سلار أمير مجلس، والأمير سيف الدين بهادر الحموي، والأمير أرغون الدوادار، وطيدمر جوباش رأس نوبة الجمدارية، فوصل إلى الكرك في رابع ربيع الأول، فقام لخدمته الأميرُ جمال الدين أقوش الأشرف نائب الكرك.
هو إسماعيلُ بن فرج بن إسماعيل بن يوسف بن نصر بن الأحمر، أبو الوليد، السلطانُ الغالِبُ بالله أميرُ المؤمنينَ، خامِسُ ملوك دولة بني نصر بن الأحمر بغرناطة في الأندلس، كانت لأبيه ولايةُ مالقة وسبتة، فتولَّاهما من بعده. وكان الملك بغرناطة أبو الجيوش نصرُ بن محمد الفقيه، وهو موصوف بالضَّعفِ، فثار عليه إسماعيلُ وزحف من مالقة إلى غرناطة سنة 713 فبويع فيها، وخرج نصرٌ إلى وادي آش. وأراد بطرس الأوَّلُ بن ألفونس الحادي عشر أحد ملوك الإسبان أن يستفيدَ مِن فرصة الفتنة في غرناطة فاقتحم الحصونَ يُريدُها، فكانت بين جيشِه وجَيشِ إسماعيل وقائعُ هائلة انتهت سنة 717 بمَقتَلِ بطرس. وفي سنة 724 تحَرَّك إسماعيل للجِهادِ، فامتَلَك بعضَ الحصون، وعاد إلى غرناطة ظافِرًا. وكان حازمًا مِقدامًا جميل الطلعةِ جهيرَ الصوت كثيرَ الحياء بعيدًا عن الصبوة، تميز عهده بالاستقرارِ وحُسنِ السياسةِ وإحياء فريضة الجهاد، ومحاربةِ الفَسادِ والبِدَع. اغتاله ابنُ عَمٍّ له اسمه محمد بن إسماعيل بطعنة خنجر في غرناطة في 26 رجب من هذه السنةِ.
في شهر ذي القعدة في ثالثه قَدِمَ الخبر بأن الأمير جكم الجركسي الظاهري لما أخذ حلب سار إلى الأمير فارس بن صاحب الباز التركماني المتغلب على إنطاكية، وقاتله وكسره أقبح كسرة وقتله وأخذ له أموالًا جزيلة، فقوي جكم بذلك، وكان قبل ذلك جاءه الخبر بمسير الأمير نعير بن حيار أمير الملا إليه، فلقيه عند قنسرين في النصف من شوال وقاتله، فوقع نعير في قبضته، وسَجَنه بقلعة حلب، وولي ابنه العجل بن نعير إمرة آل فضل عوضًا عنه، فسار العجل إلى سلمية وعاد جكم إلى حلب، ثم بدا له في العجل رأي، فاستدعاه فأخذ يعتذر بأعذار فقبلها، وسار إلى إنطاكية، فأرسل إليه التركمان بالطاعة، وأن يمكِّنَهم من الخروج إلى الجبال لينزلوا من أماكنهم القديمة، وهم آمنون، ويسلموا إليه ما بيدهم من القلاع، فأجابهم إلى ذلك، وعاد إلى حلب، ثم سار منها يريد دمشق، منزل شيزر، وواقع أولاد صاحب الباز وكسرهم كسرةً فاحشة وأسَرَ منهم جماعة، قتلهم صبرًا، وقتل الأمير نعير أيضًا، وبعث برأسه إلى السلطان، وذلك كله في شوال، ثم واقع جكم التركمان في ذي القعدة وبدَّد شملَهم.
هو السلطان أبو عبد الله الصغير محمد الثاني عشر بن الحسن بن سعد بن علي بن يوسف بن محمد: آخر حكام بني نصر ابن الأحمر، المنحدرة من قبيلة الخزرج القحطانية في غرناطة، وكان قد تولى الرياسةَ بعد منازعاته مع عمه أبي عبد الله الزغل محمد بن سعد، وكانت دولة بني الأحمر في هذه المدة متماسكةً، والفتنة بين أفرادها متشابكة، والعدو فيما بين ذلك يخادعُهم عمَّا بأيديهم، جاهد أبو عبد الله الصغير النصارى كثيرًا ووصل الأمر إلى أنهم عرضوا عليه التنازل عن غرناطة مقابل أموال جزيلة أسوةً بعمِّه أبي عبد الله الزغل محمد بن سعد صاحب وادي آش، فرفض أبو عبد الله الصغير وواصل جهاده إلى أن شدُّوا عليه الحصار فتنازل كسابقِه، وبعد فترة سافر إلى فاس فاستوطنها تحت كنف السلطان محمد الشيخ الوطاسي؛ حيث عاش فيها حياة لم يعرف أحد عنها شيئًا حتى مات عن عمر يناهز الخمسة والسبعين عامًا متهمًا بالعار والخيانة والتفريط في بلاد المسلمين في الأندلس, وقد دُفن بإزاء المصلَّى خارج باب الشريعة، وخلَّف ذريةً مِن بعده.
بعد وفاة المطهر بن شرف الدين زعيم الجبهة الزيدية وقائد المقاومة عام 980هـ, انتهى دور آل شرف الدين لتعقبهم فترة تدهور للمقاومة ضد الأتراك، واستمر الوضع ربع قرن حتى ظهر الإمام القاسم بن محمد، قائدًا لثورة عارمة ضد العثمانيين، وأسس جيلًا جديدًا من الأئمة الزيدية واستمروا في حكم اليمن بين مد وجزر حتى زمن الثورة الجمهورية عام 1962م، وقد تميَّز تاريخ الفترة اللاحقة بالنضال الدؤوب من قبل اليمنيين جميعًا بزعامة الأئمة من بيت الإمام القاسم بن محمد الذي تمكن من فرض صلح مع الوالي العثماني محمد باشا يحق للإمام بمقتضاه من حكم المناطق الشمالية لصنعاء على المذهب الزيدي المخالف لمذهب العثمانيين السُّني الحنفي، وبعد وفاة الإمام القاسم عام 1029هـ / 1620م, خلفه ابنه محمد الملقب بالمؤيد، وهو الذي تمكن بعد انتقاض الصلح بين الطرفين من مقارعة الأتراك، وتم طردهم نهائيًّا من اليمن عام 1045هـ / 1635م, وصارت بذلك اليمن أول ولاية عربية تخرجُ عن فلك الدولة العثمانية، ولكنَّها عادت إلى اليمن ثانية عام 1266هـ / 1848م أي بعد أكثر من قرنين من الزمان.
جرت الوقعةُ المشهورة بوقعة الحاير- وهو مكان يُعرَف بحاير سبيع، بين الرياض والخرج- وكانت هذه الوقعة ابتلاءً لأهل التوحيد أتباع الدرعية, وكان سببُ هذه الوقعة أن العجمان بعد أن هزمهم عبد العزيز بن محمد في قذلة عام 1177هـ وقتل منهم فريقًا وأسر فريقًا آخر، استنجدوا برئيس نجران وقبائل يام، فاستجاب صاحبُ نجران الحسنُ بن هبة الله المكرمي لشكواهم، وأعدَّ العدة لذلك، وأبلغ صاحِبَ الأحساء عريعر بن دجين عدو ابن سعود بعزمِه على السير لقتال الدرعية، وعقد معه اتفاقًا للتعاون والاشتراك بقتالها، وضرب له موعدًا للقاء عند الحاير، فلما وصل المكرمي الحاير بقي أيامًا يحارب أهلَها حتى وصل جيش الدرعية الذي قيل إنه كان معتدًّا بنفسه ومُعجبًا بقوَّتِه وكثرة عددِه، فلمَّا وصَلوا قرية الحاير التقى الجيشان واشتَدَّ القتال بينهما حتى انهزمت قوات الدرعية، وقُتِلَ منها 400 وأُسر 300، وتم الاتفاق على تبادُلِ الأسرى وانسحاب جيش نجران, ثم أرسل دهام بن دواس أمير الرياض هدايا يستميلُه لمحاربة بقية أتباع الدرعية، ويَعِدُه بكثيرٍ من الأموال والفوز وفتحِ البلدانِ وحُكمِها.
هو الشيخُ القاضي محمد بن مقرن بن سند بن علي بن عبد الله بن فطاي بن سابق بن حسن الودعاني الدوسري، وهو من أعلامِ الحنابلة في القرن الثالث عشر الهجري، قال عنه ابن بشر: "كان -رحمه الله- فطِنًا متيقظًا له عقلٌ راجِحٌ ورأيٌ صائبٌ ووجهٌ سامحٌ صابحٌ، إذا قال رأيتَ قولَه مُسكتًا عن الجواب، وإذا أشار بالرأي يلوحُ من رأيه الصواب" استعمله الإمام سعود بن عبد العزيز قاضيًا في بلدان المحمل، وأرسله قاضيًا في عُمان، فنفع الله به وأصلح الله عمان على يده، ثم أرسله إلى عبد الوهاب أبو نقطة في ناحية عسير، ولما كانت ولايةُ تركي بن عبد الله أثبته على عمله في القضاء لأهل المحمل، ولَمَّا وصل خورشيد باشا الرياضَ وطاعت له نجدٌ أرسل إليه فلما قَدِمَ عليه أكرمه وألزمه القضاءَ عنده، ثمَّ إنَّه تعلَّل بأعذار فأذِنَ له فرجع إلى وطنه. وفي ولاية عبد الله بن ثنيان لا يسلُكُ جهةً إلا هو معه، وفي عهد الإمام فيصل أرسله قاضيًا للأحساء في وقت الموسم، فأصابته حمى فلم يزل محمومًا سقيمَ البدن حتى توفِّيَ.
يرجِعُ تأسيسُ إمارة آل رشيد في جبل شمر إلى عبد الله بن علي بن رشيد، الذي كان صديقًا حميمًا لفيصل بن تركي؛ حيث قام بدورٍ كبير في استعادة فيصل للحُكمِ بعد مقتَلِ والده تركي، فكافأه بأن عيَّنَه عام 1251 ه أميرًا على حائل وجبل شمر، على أن يكون الحُكمُ فيها وراثيًّا في أسرته من بَعدِه، مستقلًّا إداريًّا تحت حكم آل سعود. حكم عبد الله بن رشيد 12 سنة، واستمر حكمُ أسرته لجبل شمر 90 سنة، وقد قام آل رشيد بدورٍ خطير في أحداث نجد خلالَ فترة الحرب بين أبناء فيصل بن تركي، خاصة أثناء حكم محمد بن عبد الله بن رشيد، الذي حكم 25 سنة، وهو من أشهَرِ أمراءِ حائل من آل رشيد، وتوسعت إمارةُ ابن رشيد في عهده فشَمِلَت الجوفَ، وتدخَّلَ في شؤون القصيم مستغلًّا الخلاف بين أمرائها من جهةٍ، وتدخُّل عبد الله بن فيصل من جهةٍ أخرى، لصالحه، حتى تمكن من السيطرة على القصيمِ والمجمعة وسدير، وأخيرًا دخل الرياض واحتلَّها بحجة مساعدة الإمام الشرعي عبد الله بن فيصل زوجِ أختِه.
بعد سُقوطِ الدَّولةِ السعودية الثانية في نجدٍ، تنقَّل عبد العزيز وهو في العاشرةِ مِن عُمُرِه مع أسرة أبيه من الرياضِ إلى شمالِ الربع الخالي حول يبرين، ثم البحرين، ومنها إلى الكويت، فقد وصلها مع نساءِ أُسرتِهم قبلَ وصول والِدِه، ونزلوا في دارٍ مؤلَّفٍ مِن ثلاث غرف أعدَّها لهم مبارك الصباح، وشهد عبد العزيز مع حداثةِ سِنِّه حادثةَ اغتيال مبارك الصباح -بمشاركة أحد أبنائه له- شيخ الكويت وأميرها أخوه الأكبر محمد الصباح، وكذلك قُتِل الأخ الأصغر جراح، ليستولي مبارك على إمارة الكويت وذلك عام 1313ه. فكانت الكويت مدرسَتَه التي تلقَّى فيها فنَّ السياسة العملية، وكانت أيامَ الشيخ مبارك الصباح المليئة بالمناوراتِ والمحاوراتِ تنطَبِعُ مقَدِّماتُها ونتائِجُها في ذهنه، وحين آنَسَ فيه مبارك صفاتِ الألمعي اللَّبِق، قَرَّبه منه، وفسح له المجالَ لحُضورِ مجالسه والاستمتاع إلى أحاديثِه مع ممثِّلي الحكومات الإنجليزية والروسية والألمانية والتركية، وظَلَّ عبد العزيز في الكويت تراوِدُه أحلام عودة أمجاد آبائه وأجداده في نجدٍ، حتى تحقَّق حِلمُه عندما تمكَّنَ مِن استعادة الرياض مِن ابن رشيد سنة 1319ه.