بَعثَ اللهُ تَعالى الأنبياءَ والرُّسُلَ لدَعوةِ النَّاسِ لتَوحيدِ اللهِ تَعالى وتَرْكِ عِبادةِ الأصنامِ والأوثانِ، فقال تَعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}
[النحل: 36] ، فبَلَّغَ رُسُلُ اللهِ تَعالى ما أُمِرُوا به، وكان أعظَمَهم بَلاغًا ونُصحًا لأُمَّتِه نَبيُّنا مُحَمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم، وقد خَصَّ اللهُ تعالى نَبيَّنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بخَصائِصَ لَيسَت لغَيرِه مِنَ الأنبياءِ، وقد سَألَ الصَّحابةُ رَضيَ اللهُ عنهمُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقالوا له: أخبِرْنا عَن نَفسِك، أي: بدايةِ أمرِك، كَيف كان؟ فقال رَسولُ اللهِ: نَعَم، أنا دَعوةُ أبي إبراهيمَ عليه السَّلامُ، أي: أنَّ اللَّهَ تعالى بَعَثَني للنَّاسِ استِجابةً لدُعاءِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ؛ حَيثُ قال إبراهيمُ عِندَما انتَهى مِن بناءِ الكَعبةِ: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
[البقرة: 129] . وبُشرى عيسى، أي: أنَّ عيسى عليه السَّلامُ قد بَشَّرَ بي؛ فالنَّبيُّ مَوجودٌ صِفتُه في الكُتُبِ السَّابقةِ، وأنَّه سيُبعَثُ في آخِرِ الزَّمانِ، كما قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ}
[الصف: 6] ، ورُؤيا أُمِّي، رَأت حينَ ولَدَتْني كَأنَّها خَرَجَ مِنها نورٌ أضاءَت له قُصورُ الشَّامِ. والقَصرُ: هو بَيتٌ رَفيعٌ، وذلك أنَّ أُمَّ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم آمِنةَ بِنتَ وهبٍ حينَ وَلدَتِ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رَأت أثناءَ وِلادَتِها -وهيَ رُؤيةٌ بالعَينِ في اليَقَظةِ- كَأنَّ نورًا خَرَجَ مِنها أضاءَ قُصورَ الشَّامِ! وقد كان هذا النُّورُ الذي ظَهَرَ وقتَ وِلادَتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قدِ اشتَهَرَ في قُرَيشٍ وكَثُرَ ذِكرُه فيهم. وذلك النُّورُ عِبارةٌ عَن نُبوَّتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وإشارةٌ إلى ما فتَحَ اللهُ عليه مِن تلك البلادِ واهتِداءِ أهلِها وزَوالِ ظُلمةِ الشِّركِ مِنها. واستُرضِعتُ، أي: ذَهَبَ بي أهلي وأرضَعوني في بَني سَعدِ بنِ بَكرٍ، وكانت مُرضِعَتُه اسمُها حَليمةُ السَّعديَّةُ، فبَينا أنا في بُهمٍ، وهيَ جَمعُ بُهمةٍ، وهيَ ولَدُ الضَّأنِ الذَّكَرُ والأُنثى. والمُرادُ أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يَرعى الغَنَمَ مَعَ أخٍ له مِنَ الرَّضاعِ كما في الرِّوايةِ الأُخرى، أتاني رَجُلانِ وهَما جِبريلُ وميكائيلُ، كما في رِوايةٍ أُخرى، عليهما ثيابٌ بِيضٌ مَعَهما طَستٌ، أي: إناءٌ مِن ذَهَبٍ مَملوءٌ ثَلجًا، وهو ما يَنزِلُ مِنَ السَّماءِ يَنعَقِدُ على وَجهِ الأرضِ، فأضجَعاني، أي: وضَعا جَنْبَه على الأرضِ، فشَقَّا بَطني ثُمَّ استَخرَجا قَلبي فشَقَّاه فأخرَجا مِنه عَلَقةً سَوداءَ فألقَياها! وهيَ حَظُّ الشَّيطانِ مِنه كما في الرِّوايةِ الأُخرى، ثُمَّ غَسَلا قَلبي وبَطني بذلك الثَّلجِ حَتَّى إذا أنقَياه رَدَّاه كما كان، ثُمَّ قال أحَدُهما لصاحِبِه: زِنْه -أي: النَّبيَّ- بعَشَرةٍ مِن أُمَّتِه، فوزَنَني بعَشَرةٍ فوزَنتُهم، أي: رَجَحتُ عليهم، ثُمَّ قال: زِنْه بمِائةٍ مِن أُمَّتِه، فوزَنَني بمِائةٍ فوزَنتُهم ثُمَّ قال: زِنْه بألفٍ مِن أُمَّتِه، فوزَنَني بألفٍ فوزَنتُهم، فقال: دَعْه عَنك. أي خَلِّه واترُكه؛ فلَو وزَنتَه بأُمَّتِه لوَزَنَهم!
وفي الحَديثِ حُسنُ عِشرةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لأصحابِه حَيثُ أخبَرَهم عَن مَبدَأِ حَياتِه.
وفيه استِجابةُ اللَّهِ لدَعوةِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ في بَعثِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
وفيه تَبشيرُ عيسى عليه السَّلامُ بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
وفيه مُعجِزةٌ مِن مُعجِزاتِه بفتحِ بلادِ الشَّامِ.
وفيه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رَضَع في بَني سَعدٍ.
وفيه أنَّ المَلائِكةَ تَتَمَثَّلُ بصورةِ بَني آدَمَ.
وفيه إثباتُ حادِثةِ شَقِّ صَدرِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو صَغيرٌ.
وفيه عِنايةُ اللَّهِ تعالى بنَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَبلَ النُّبوةِ وتَطهيرُه له.
وفيه فَضلُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على أُمَّتِه كُلِّهم.
وفيه تَطهيرُ جَسَدِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِنَ السُّوءِ .