الموسوعة الحديثية


- أتى رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أعرابيٌّ فقال يا رسولَ اللهِ جهدتِ الأنفسُ وضاعتِ العيالُ ونهكتِ الأموالُ وهلكتِ الأنعامُ فاستسقِ اللهَ لنا فإنا نستشفعُ بك على اللهِ ونستشفعُ باللهِ عليك قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ويحك أتدري ما تقولُ وسبَّح رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فما زال يُسبِّحُ حتى عرف ذلك في وجوه أصحابِه ثم قال ويحك إنه لا يستشفعُ باللهِ على أحدٍ من خلقِه شأنُ اللهِ أعظمُ من ذلك ويحك أتدري ما اللهُ إنَّ عرشَه على سماواتِه لهكذا وقال بأصابعِه مثلُ القُبَّةِ عليه وإنه لَيَئِطُّ به أطيطَ الرَّحلِ بالراكبِ
الراوي : جبير بن مطعم | المحدث : أبو داود | المصدر : سنن أبي داود | الصفحة أو الرقم : 4726 | خلاصة حكم المحدث : بإسناد أحمد بن سعيد هو الصحيح | التخريج : أخرجه أبو داود (4726)
عَلَّمَنا النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ صِفاتِ اللهِ العَظيمةَ، وأنَّه سُبحانَه أعظَمُ مِن كُلِّ خَلقِه، ولا يَصِحُّ أنْ يُوصَفَ بأمْرٍ مِمَّا يَجري على الخَلقِ، بلْ له مِنَ الجَلالةِ والعَظَمةِ ما لا يَحُدُّه وَصفٌ، ولا تَكييفٌ، ولا تَشبيهٌ.وفي هذا الحَديثِ تَعليمٌ حَكيمٌ مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لِمَن غَفَلَ عن هذه المَعاني؛ فيَروي جُبَيرُ بْنُ مُطعِمٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه جاءَ إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أعرابيٌّ، ويُطلَقُ لَفظُ الأعرابيِّ على العَرَبِ الذين يَسكُنونَ الصَّحراءَ، يَستَغيثُ بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِمَّا أصابَ قَومَه مِنَ البَلاءِ والفَقرِ والجَدبِ، فقال: "جُهِدَتِ الأنفُسُ"، أي: عَجَزتْ عنِ التَّحمُّلِ بَعدَ بَذلِ كُلِّ طاقَتِها على التَّحَمُّلِ، "وضاعَتِ العِيالُ" بسَبَبِ الجُوعِ والفَقرِ، والمَقصودُ بالعيالِ هنا كُلُّ مَن يَتحَمَّلُ الأعرابيُّ مَسؤوليَّتَه؛ مِنَ الزَّوجةِ والأولادِ والعَبيدِ والإماءِ، "ونُهِكتِ الأموالُ"، أي: تَلَفتْ وأصابَها النَّقصُ، "وهَلَكتِ الأنعامُ"، أي: ماتَتِ الحَيَواناتُ، مِثلَ الإبِلِ والبَقَرِ والغَنَمِ؛ بسَبَبِ القَحطِ، ونَقصِ الثِّمارِ والزُّروعِ، وما بَقيَ أصبَحَ نَحيفًا هَزيلًا ضَعيفًا، "فاستَسْقِ اللهَ لنا" والاستِسقاءُ: الصَّلاةُ والدُّعاءُ والتَّضرُّعُ إلى اللهِ؛ طَلَبًا لِنُزولِ المَطَرِ، وكان الناسُ يَقصِدونَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في عَهدِه طَلَبًا لِنُزولِ الماءِ، أمَا وقد وَلَّى عَهدُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فإنَّه يُقصَدُ لِصَلاةِ الاستِسقاءِ الصَّالِحونَ والعُبَّادُ، "فإنَّا نَستَشفِعُ بكَ على اللهِ، ونَستَشفِعُ باللهِ عليكَ"، والمَعنى: نَطلُبُ منكَ أنْ تَتَوسَّطَ لنا عِندَ اللهِ أنْ يُزيلَ ما بنا مِنَ القَحطِ والفَقرِ؛ لَعَلَّ اللهَ أنْ يَقبَلَ شَفاعَتَكَ ووَساطَتَكَ، ولكِنَّهم -لِجَهلِهم- جَعَلوا اللهَ عَزَّ وجَلَّ شَفيعًا عِندَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لِيَقبَلَ أنْ يَدعُوَ لهم، أي: نَجعَلُكَ شَفيعًا على اللهِ سُبحانَه؛ لِيُجيبَ دُعاءَنا، ونَجعَلُه تَعالى شَفيعًا عليكَ؛ لِيَحصُلَ مَقصودُنا بأنْ تَستَسْقيَ لنا مِنَ اللهِ سُبحانَه، فجَعَلَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَقولُ: "سُبحانَ اللهِ!" أي: تَنزيهًا له عَمَّا نُسِبَ إليه تَعالى مِنَ الاستِشفاعِ به على أحَدٍ، وتَكرارُه ذلك لِعِظَمِ ما وَقَعوا فيه وخُطورَتِه، وما تَعَدَّوْا به عن جَهلٍ في ذاتِ اللهِ سُبحانَه وتَعالى، حتى ظَهَرَ التَّغَيُّرُ في وُجوهِ أصحابِه رَضِيَ اللهُ عنهم؛ لِأنَّهم فَهِموا مِن تكرار تَسبيحِه أنَّه صَلَّى اللهُ تَعالى عليه وسَلَّمَ غَضِبَ مِن ذلك، فخافوا مِن غَضَبِه، فتَغيَّرتْ وُجوهُهم؛ خَوفًا مِنَ اللهِ تَعالى، فلَمَّا أثَّرَ فيهمُ الحُزنُ رَقَّ لهم، وقَطَعَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ التَّسبيحَ، وبَيَّنَ عَظَمةَ الرَّبِّ، حتى نُزِّهَ أنْ يُجعَلَ أحدٌ مِنَ الخَلقِ وَسيلةً إليه؛ فإنَّه أعظَمُ مِن ذلك، وقال لِلأعرابيِّ: "وَيحَكَ! أتَدري ما تَقولُ؟" والوَيحُ: كَلِمةُ تَرحُّمٍ وتَوجُّعٍ، تُقالُ لِمَنْ وَقَعَ في مَهلَكةٍ لا يَستَحِقُّها، والمَعنى: وهل تَعلَمُ ما كُنهُ عَظَمَتِه سُبحانَه؟ ثمَّ أوضَحَ له صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عَظَمةَ اللهِ سُبحانَه وتَعالى، فقال: "أتَدري ما اللهُ؟ إنَّ عَرشَه على سَمَواتِه لَهَكَذا. وقال بأصابِعِه مِثلَ القُبَّةِ عليه"، مُحيطٌ بها مِن فَوقِها، وهذا بَيانٌ لِعِظَمِ خَلقِ اللهِ وجَلالِه.وقَولُه: "وإنَّه لَيَئِطُّ به أَطيطَ الرَّحلِ بالراكِبِ"، والرَّحلُ: هو الخَشَبُ الذي يُجعَلُ على البَعيرِ ويَركَبُ عليه الراكِبُ، وإذا كان الراكِبُ ثَقيلًا فإنَّه يَصيرُ له صَوتٌ مِن ثِقَلِ الراكِبِ عليه، وإذْ كان مَعلومًا أنَّ أطيطَ الرَّحلِ بالراكِبِ إنَّما يَكونُ لِقُوَّةِ ما فَوقَه، ولِعَجزِه عنِ احتِمالِه، فكَذلك العَرشُ يَئِطُّ باللهِ عَزَّ وجَلَّ مع قُوَّةِ هذا العَرشِ وعَظَمتِه؛ فقَرَّرَ بهذا مَعنى عَظَمةِ اللهِ وجَلالِه، وارتِفاعِ عَرشِه؛ لِيُعلَمَ أنَّ المَوصوفَ بعُلُوِّ الشَّأنِ وجَلالةِ القَدْرِ وفَخامةِ الذِّكرِ، لا يُجعَلُ شَفيعًا إلى مَن هو دُونَه في القَدْرِ، وأسفَلَ منه في الدَّرَجةِ، وتَعالى اللهُ أنْ يَكونَ مُشَبَّهًا بشَيءٍ، أو مُتكَيِّفًا بصُورةِ خَلقٍ، أو مُدرَكًا بحَدٍّ؛ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، وأنَّ مَن يَكونُ في العَظَمةِ كذلك لا يُجعَلُ شَفيعًا إلى مَن هو دُونَه.
تم نسخ الصورة