- يَجْمَعُ اللهُ الأَوَّلِينَ والآخِرِينَ لمِيقاتِ يومٍ معلومٍ، قِيامًا أربعين سَنَةً، شاخِصَةً أبصارُهُم، يَنتَظرون فصْلَ القضاءِ... فذَكَر الحديثَ إلى أنْ قال: ثُمَّ يَقولُ- يعني: الرَّبَّ تبارَك وتعالى-: ارْفَعوا رُؤُوسَكُم، فيَرْفَعون رُؤُوسَهُم، فيُعطيهِم نورَهُم على قَدْرِ أعمالِهِم، فمِنهُم مَن يُعْطَى نُورَهُ مِثْلَ الجبلِ العظيمِ يَسْعَى بيْن يَدَيْهِ، ومِنهُم مَن يُعْطَى نورَهُ أَصْغَرَ مِن ذلكَ، ومِنهُم مَن يُعْطَى مِثْلَ النَّخلةِ بيمينِهِ، ومِنهُم مَن يُعْطَى (نورًا) أَصْغَرَ مِن ذلكَ، حتَّى يَكونَ آخِرُهُمْ رَجُلًا يُعْطَى نورَهُ على إبهامِ قَدَمِهِ، يُضِيءُ مَرَّةً ويُطْفِئُ مَرَّةً، فإذا أَضاءَ قَدَّمَ قَدَمَهُ (فمَشَى)، وإذا أُطفِئَ قام.(قال: والرَّبُّ عزَّ وجلَّ أمامَهُم، حتَّى يَمُرَّ في النَّارِ، فيَبْقَى أَثَرُهُ كحَدِّ السَّيْفِ؛ دَحْضٌ مَزَلَّةٌ. قال: ويَقولُ: مُرُّوا، فيَمُرُّون على قَدْرِ نورِهِم، مِنهُم مَن يَمُرُّ كطَرْفةِ العَيْنِ، ومِنهُم مَن يَمُرُّ كالبَرْقِ، ومِنهُم مَن يَمُرُّ كالسَّحابِ، ومِنهُم مَن يَمُرُّ كانقِضاضِ الكوكبِ، ومِنهُم مَن يَمُرُّ كالرِّيحِ، ومِنهُم مَن يَمُرُّ كشَدِّ الفَرَسِ، ومِنهُم مَن يَمُرُّ كشَدِّ الرَّجُلِ، حتَّى يَمُرَّ الَّذي يُعطَى نورَهُ على إبهامِ قَدَمِهِ يَحْبُو على وجْهِهِ ويَدَيْهِ ورِجْلَيْهِ، تَخِرُّ يَدٌ وتَعْلَقُ يَدٌ، وتَخِرُّ رِجْلٌ وتَعْلَقُ رِجْلٌ، وتُصِيبُ جَوانِبَهُ النَّارُ، فلا يَزالُ كذلكَ حتَّى يَخْلُصَ، فإذا خَلَصَ وَقَفَ عليها، فقال: الحمدُ للهِ الَّذي أَعطاني ما لم يُعْطِ أَحَدًا؛ إذْ نَجَّاني منها بعد إذْ رأيْتُها. قال: فيُنطَلَقُ به إلى غَدِيرٍ عندَ بابِ الجَنَّةِ فيَغتَسِلُ، فيَعُودُ إليهِ رِيحُ أهْلِ الجَنَّةِ وألوانُهُم، فيَرَى ما في الجَنَّةِ مِن خِلالِ البابِ، فيَقولُ: ربِّ أَدْخِلْني الجَنَّةَ. فيَقولُ (اللهُ) لهُ: أَتسألُ الجَنَّةَ وقد نَجَّيْتُكَ مِنَ النَّارِ؟ فيَقولُ: ربِّ اجعَلْ بيْني وبيْنها حِجابًا؛ لا أَسمَعُ حَسِيسَها. قال: فيَدخُلُ الجَنَّةَ، ويَرَى- أو: يُرْفَعُ له مَنزِلٌ- أمامَ ذلكَ، كأنَّ ما هو فيهِ إليهِ حُلْمٌ، فيَقولُ: ربِّ أَعطِني ذلكَ المَنزلَ. فيَقولُ لهُ: لعلَّكَ إنْ أَعطَيْتُكَهُ تَسألُ غَيْرَهُ؟ فيَقولُ: لا وعِزَّتِكَ، لا أَسأَلُكَ غَيْرَهُ، أنَّى مَنزِلٌ أَحسَنُ مِنهُ؟! فيُعطاهُ، فيَنْزِلُهُ، ويَرَى أمامَ ذلكَ مَنزِلًا كأنَّ ما هو فيهِ بالنِّسبةِ إليهِ حُلْمٌ، قال: ربِّ أَعطِني ذلكَ المَنزِلَ! فيَقولُ اللهُ- تبارَكَ وتعالى- لهُ: فلعلَّكَ إنْ أَعْطَيْتُكَهُ تَسألُ غَيْرَهُ؟ فيَقولُ: لا وعِزَّتِكَ، لا أَسأَلُكَ غَيْرَهُ، أنَّى مَنزِلٌ أَحسَنُ مِنهُ؟! فيُعطاهُ فيَنْزِلُهُ. قال: ويَرَى أوْ: يُرْفَعُ له أمامَ ذلكَ مَنزِلٌ آخَرُ، كأنَّما هو إليهِ حُلْمٌ، فيَقولُ: أَعطِني ذلكَ المَنزِلَ، فيَقولُ اللهُ- جَلَّ جَلالُهُ-: فلعلَّكَ إنْ أَعْطَيْتُكَهُ تَسألُ غَيْرَهُ، قال: لا وعِزَّتِكَ لا أَسألُ غَيْرَهُ، وأيُّ مَنزِلٍ يَكونُ أَحْسَنَ مِنهُ؟! قال: فيُعطاهُ فيَنْزِلُهُ، ثُمَّ يَسْكُتُ. فيَقولُ اللهُ- جَلَّ ذِكْرُهُ-: ما لكَ لا تَسألُ؟ فيَقولُ: ربِّ، قد سألْتُكَ حتَّى استَحْيَيْتُكَ، وأَقسَمْتُ لكَ حتَّى استَحْيَيْتُكَ، فيَقولُ اللهُ- جَلَّ ذِكْرُهُ-: ألم تَرْضَ أنْ أُعطِيَكَ مِثْلَ الدُّنيا منذُ خَلَقْتُها إلى يومِ أَفنَيْتُها وعشَرةَ أضعافِهِ؟ فيَقولُ: أَتَهْزَأُ بي وأنتَ رَبُّ العِزَّةِ؟! فيَضْحَكُ الرَّبُّ تعالى مِن قولِهِ. قال: فرأيْتُ عبدَ اللهِ بنَ مسعودٍ إذا بَلَغَ هذا المكانَ مِن هذا الحديثِ ضَحِكَ، فقال له رَجُلٌ: يا أبا عبدِ الرَّحمنِ، قد سمِعْتُكَ تُحَدِّثُ هذا الحديثَ مِرارًا، كلَّما بَلَغْتَ هذا المكانَ ضَحِكْتَ، فقال: إنِّي سمِعْتُ رسولَ اللهِ يُحَدِّثُ هذا الحديثَ مِرارًا كلَّما بَلَغَ هذا المكانَ مِن هذا الحديثِ ضَحِكَ حتَّى تَبْدُوَ أضراسُهُ. قال: فيَقولُ الرَّبُّ- جَلَّ ذِكْرُهُ-: لا، ولكنِّي على ذلكَ قادِرٌ، سَلْ. فيَقولُ: أَلحِقْني بالنَّاسِ، فيَقولُ: الْحَقْ بالنَّاسِ. فيَنطَلِقُ يَرْمُلُ في الجَنَّةِ، حتَّى إذا دنا مِنَ النَّاسِ رُفِعَ له قَصْرٌ مِن دُرَّةٍ؛ فيَخِرُّ ساجِدًا، فيُقالُ لهُ: ارفَعْ رأسَكَ، ما لكَ؟ فيَقولُ: رأيْتُ ربِّي- أو :تراءَى لي ربِّي-، فيُقالُ لهُ: إنَّما هو مَنزِلٌ مِن مَنازِلِكَ. قال: ثُمَّ يَلْقَى رَجُلًا فيَتهَيَّأُ للسُّجودِ له، فيُقالُ لهُ: مَهْ! ما لَكَ؟ فيَقولُ: رأيْتُ أنَّكَ مَلَكٌ مِنَ المَلائكةِ، فيَقولُ: إنَّما أنا خازِنٌ مِن خُزَّانِكَ، وعبْدٌ مِن عَبِيدِكَ، تحتَ يَدَيَّ ألْفُ قَهْرَمانٍ على مِثْلِ ما أنا عليهِ. قال: فيَنطَلِقُ أمامَهُ حتَّى يَفتَحَ له القَصْرَ. قال: وهو مِن دُرَّةٍ مُجَوَّفةٍ، سَقائِفُها وأبوابُها وأغلاقُها ومَفاتيحُها منها، تَستَقبِلُهُ جوهرةٌ خَضراءُ مُبَطَّنةٌ بحَمراءَ، فيها سبعون بابًا، كلُّ بابٍ يُفضِي إلى جوهرةٍ خَضراءَ مُبَطَّنةٍ بحمراءَ، كلُّ جوهرةٍ تُفضِي إلى جوهرةٍ على غيرِ لَونِ الأخرى، في كلِّ جوهرةٍ سُرُرٌ وأزواجٌ ووصائِفُ، أَدناهُنَّ حَوْراءُ عَيْناءُ، عليها سبعون حُلَّةً، يُرَى مُخُّ ساقِها مِن وراءِ حُلَلِها، كَبِدُها مِرْآتُهُ، وكَبِدُهُ مِرْآتُها، إذا أَعرَضَ عنها إعراضَةً ازدادَتْ في عَيْنِهِ سبعين ضِعفًا عمَّا كانت قَبْلَ ذلكَ، وإذا أَعرَضَتْ عنُه إعراضةً ازدادَ في عَيْنِها سبعين ضِعفًا عمَّا كان قَبْلَ ذلكَ، فيَقولُ لها: واللهِ لقد ازدَدْتِ في عَيْني سبعين ضِعفًا، وتَقولُ لهُ: وأنتَ واللهِ لقد ازدَدْتَ في عَيْني سبعين ضِعْفًا. فيُقالُ لهُ: أَشرِفْ، فيُشْرِفُ، فيُقالُ لهُ: مُلْكُكَ مَسِيرةُ مِئةِ عامٍ، يَنْفُذُهُ بَصَرُكَ. قال: فقال عُمَرُ: ألا تَسمَعُ ما يُحَدِّثُنا ابنُ أُمِّ عبْدٍ يا كَعْبُ عن أَدْنَى أهلِ الجَنَّةِ مَنزِلًا، فكيف أَعلاهُم؟! قال: يا أميرَ المؤمنينَ، ما لا عَيْنٌ رأَتْ، ولا أُذُنٌ سمِعَتْ، إنَّ اللهَ- جَلَّ ذِكْرُهُ- خَلَقَ دارًا، جَعَل فيها ما شاءَ مِنَ الأزواجِ والثَّمراتِ والأَشرِبَةِ، ثُمَّ أَطبَقَها فلم يَرَها أَحَدٌ مِنَ خَلْقِهِ، لا جِبريلُ ولا غَيْرُهُ مِنَ المَلائكةِ. ثُمَّ قرأَ كَعْبٌ: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17]. قال: وخَلَقَ دُونَ ذلكَ جَنَّتَيْنِ، وزَيَّنَهُما بما شاءَ، وأَراهُمَا مَن شاءَ مِن خَلْقِهِ، ثُمَّ قال: فمَن كان كِتابُهُ في عِلِّيِّينَ نَزَلَ في تلكَ الدَّارِ الَّتي لم يَرَها أَحَدٌ، حتَّى إنَّ الرَّجُلَ مِن أهلِ عِلِّيِّينَ لَيَخرُجُ فيَسِيرُ في مُلْكِهِ، فلا تَبقَى خَيْمةٌ مِن خِيَمِ الجَنَّةِ إلَّا دَخَلَها مِن ضَوْءِ وجْهِهِ، فيَستَبْشِرون بريحِهِ فيَقولون: واهًا لهذا الرِّيحِ! هذا ريحُ رَجُلٍ مِن أهلِ عِلِّيِّينَ قد خَرَج يسيرُ في مُلْكِهِ. قال: وَيْحَكَ يا كَعْبُ، إنَّ هذهِ القُلوبَ قدِ استَرسَلَتْ فاقبِضْها. فقال كَعْبٌ: والَّذي نفْسي بيدِهِ، إنَّ لجَهَنَّمَ يومَ القيامةِ لَزَفْرَةً ما مِن مَلَكٍ مُقَرَّبٍ ولا نبيٍّ مُرْسَلٍ إلَّا خَرَّ لرُكْبَتَيْهِ، حتَّى إنَّ إبراهيمَ خليلَ اللهِ لَيَقولُ: ربِّ، نفْسي نفْسي، حتَّى لو كان لكَ عَمَلُ سبعين نبيًّا إلى عَمَلِكَ لَظَنَنْتَ أنْ لا تَنْجُوَ.
الراوي : عبدالله بن مسعود | المحدث : الألباني | المصدر : صحيح الترغيب
الصفحة أو الرقم: 3704 | خلاصة حكم المحدث : صحيح
التخريج : أخرجه أبي الدنيا في ((صفة الجنة)) (31)، والطبراني (9/417) (9763)، والدارقطني في ((رؤية الله)) (163) باختلاف يسير.
قال: "ويَبْقَى مُحمَّدٌ وأُمَّتُه، قال: فيَتَمثَّلُ الرَّبُّ تَبارك وتَعالى" كما يَشاءُ وكيف شاءَ بما يَليقُ بِجَلالِه "فيَأْتيهم فيقولُ: ما لكم لا تَنْطَلِقونَ كما انْطَلَقَ الناسُ؟" وهذا اسْتِفْهامٌ تَقْريريٌّ لحالِهم، وأنَّهم لم يَتَّبِعوا أيَّ مَعْبودٍ غيْرَ اللهِ مما كان يَعْبُده المُشْرِكونَ في الدُّنْيا "قال: فيَقولونَ: إنَّ لنا إلَهًا ما رَأَيْناه بعدُ"، أي: ما رَأَيْناه بالعَلامَةِ التي وَصَفَها لنا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم "فيقولُ: هل تَعْرِفونَه إنْ رَأَيْتُموه؟ فيَقولون: إنَّ بيننا وبينه عَلامةً إذا رَأَيْناه، عَرَفْناه، قال فيقولُ: ما هي؟ فيقولون: يَكشِفُ عن ساقِه، قال: فعندَ ذلك يَكشِفُ عن ساقِه" وهو كشْفُ الرَّبِّ سُبحانَه وتعالَى عن ساقِه، وهذه مِن الصِّفاتِ الذَّاتيةِ الثابتةِ للهِ تعالى على ما يَليقُ بكَمالِه وجلالِه؛ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] ، وجاء في رِوايَةِ البُخاريِّ من حَديثِ أبي هُرَيْرةَ رضِيَ اللهُ عنه: "فيَأْتيهمُ اللهُ في الصورةِ التي يَعْرِفونَ"، "فيَخِرُّ كُلُّ مَنْ كان لظَهْرِه طَبَقٌ" والطَّبَقُ فِقارَةُ الظَّهْرِ "ساجِدًا" فيَسْجُدونَ للهِ كما كانوا يَسْجُدونَ له في الدُّنْيا، وهذه السَّجْدةُ سَجْدةُ تَبْجيلٍ وتلذُّذٍ؛ إذ لا تَكْليفَ هناك، "ويَبْقَى قَوْمٌ ظُهورُهم كَصَياصِيِّ البَقَرِ" مِثلَ أذْنابِ البَقَرِ الجافَّةِ "يُريدونَ السُّجودَ فلا يَسْتَطيعونَ، {وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم: 43]"، أي: كانوا يُدْعَوْنَ إلى الإيمانِ باللهِ، والسُّجودِ له في الدُّنْيا، وهم بقُوَّتِهم وسَلامَةِ أجْسادِهم، ولكنَّهم رَفَضوا ذلك، فلا يَسْتَطيعون الانْحِناءَ، ولا السُّجودَ للهِ في الآخِرَةِ؛ لأنَّهم ما كانوا في الحقيقةِ يَسْجُدونَ مُخْلِصينَ للهِ في الدُّنْيا، وإنَّما كانوا يَسْجُدونَ من أجْلِ أغْراضِهم الدُّنْيويَّةِ ثم يقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ للمُؤْمِنينَ: "ارْفَعوا رُؤوسَكُم"، أي: ارْفَعوها مِنَ السُّجودِ "فيَرْفَعونَ رُؤوسَهم، فيُعْطيهم نورَهم على قَدْرِ أعْمالِهم" وهذا من البِشارَةِ التي يُبشِّرُهم اللهُ بها كما قال تَعالى: {يَوْمَ تَرَى المُؤْمِنينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الحديد: 12] "فمنهم مَنْ يُعْطى نورَه مِثلَ الجَبَلِ العَظيمِ"، أي: في سَعتِه وارْتِفاعِه "يَسْعَى بين أيْديهم"، أي: يكونُ نورُهم أمامَهم مُضيئًا لهم، "ومنهم مَنْ يُعْطَى نورَه أصْغَرَ من ذلك، ومنهم مَنْ يُعْطَى مِثلَ النَّخْلةِ بيَمينِه"، أي: عَمودٌ من النورِ مِثلُ النَّخْلةِ في يَدِه اليُمْنى "ومنهم مَنْ يُعْطَى أَصْغَرَ من ذلك حتى يكونَ آخِرُهم رَجُلًا يُعْطَى نورَه على إبْهامِ قَدَمِه، يُضيءُ مَرَّةً، ويُطفَأُ مَرَّةً، فإذا أضاء قَدَمُه قدَّم ومشى، وإذا طُفِئَ قامَ"، أي: وَقَفَ في مَكانِه، وهذا النورُ إنَّما هو على قَدْرِ ما كانوا عليه في الدُّنْيا من الأعْمالِ الصالِحَةِ والخيْرِ، "قال: والرَّبُّ تَبارك وتَعالى أمامَهم حتى يمُرَّ بهم"، أي: يَأْتي بهم "إلى النارِ، فيَبْقَى أَثَرُه كحَدِّ السَّيْفِ"، أي تكونُ الصِّراطُ والجِسْرُ الذي على ظَهْرِ جهنَّمَ يكونُ رقيقًا مِثلَ حَدِّ السَّيفِ "دَحْضُ مَزِلَّةٍ"، أي: زَلِقٌ لا تَثبُتُ الأقْدامُ فيه، " قال: فيقولُ: مُروا"، أي: اعْبُروا فوقَ جِسْرِ الصِّراطِ "فَيَمُرون على قَدْرِ نورِهم" فيكونُ الصِّراطُ مُناسِبًا لعَمَلِ كُلِّ إنْسانٍ، فيُوسِّعُه اللهُ على مَنْ يَشاءُ، فيكونُ بقَدْرِ نورِه وعَمَلِه في الدُّنْيا، "منهم مَنْ يمُرُّ كطَرْفَةِ العيْنِ" في السُّرْعةِ "ومنهم مَنْ يمُرُّ كالبَرْقِ، ومنهم مَنْ يمُرُّ كالسَّحابِ، ومنهم مَنْ يمُرُّ كانْقِضاضِ الكَوْكَبِ"، أي: مِثلَ وُقوعِ الكَوْكَبِ من السَّماءِ "ومنهم مَنْ يمُرُّ كالريحِ، ومنهم مَنْ يمُرُّ كشَدِّ الفَرَسِ" مِثلَ جَرْيِ الحِصانِ السَّريعِ "ومنهم مَنْ يمُرُّ كشَدِّ الرَّجُلِ"، أي: مِثلَ جَرْيِ الرَّجُلِ "حتى يمُرَّ الذي يُعطَى نورَه على ظَهْرِ إبْهامِ قَدَمِه يَحْبو"، أي: يَقَعُ ويَزحَفُ "على وجْههِ ويدَيْهِ ورِجْليْهِ، تَخِرُّ يَدٌ وتَعلَقُ يَدٌ، وتَخِرُّ رِجْلٌ، وتَعلَقُ رِجْلٌ" والمَعْنى: أنَّه لقِلَّةِ عَمَلِه، وقِلَّةِ نورِه لا يَرى جِسْرَ الصِّراطِ جيدًا حتى إنَّه تسْقُطُ إحْدى يدَيْهِ، وإحْدى رِجْليْهِ من فوْقِ الصِّراطِ ويُمسِكُ بالأُخْرييْنِ، وهو حالُ المُتعَثِّرِ في مِشْيتِه، "وتُصيبُ جَوانِبَه النارُ، فلا يَزالُ كذلك حتى يَخلُصَ"، أي: حتى يَنجوَ من النارِ "فإذا خَلَصَ وَقَفَ عليها"، أي: وَقَفَ ينْظُرُ إلى النارِ بعدَ نجاتِه منها "فقال: الحمدُ للهِ الذي أعْطاني ما لم يُعْطِ أحَدًا؛ إذْ أنْجاني منها بعدَ إذْ رَأَيْتُها" وكأنَّه رأى أنَّ النَّجاةَ من النارِ عَطاءٌ وفوزٌ كبيرٌ بل تصوَّر أنَّ أحدًا لم يَأخُذْ مِثلَ عَطائِه هذا بالنَّجاةِ من النارِ.
"قال: فيُنْطلَقُ به إلى غَديرٍ" وهو النَّهْرُ الصَّغيُر "عندَ بابِ الجنَّةِ فيَغْتسِلُ" مِن أَثَرِ ما أَصابَه من لَفَحاتِ النارِ على جانِبَيْهِ "فيعودُ إليه ريحُ أهْلِ الجنَّةِ وأَلْوانُهم" والمَعْنى أنَّه يَرجِعُ إليه طِيبُ رائِحَةِ أهْلِ الجنَّةِ، ولوْنُ أجْسادِهم الجميلةِ "فيَرى ما في الجنَّةِ من خِلالِ البابِ"، أي: يَراه من فَتَحاتِ بابِ الجنَّةِ قبلَ أن يُنعِمَ اللهُ عليه بدُخولِها، "فيقولُ: رَبِّ أَدْخِلْني الجنَّةَ، فيقولُ اللهُ له: أَتَسْأَلُ الجنَّةَ وقد نَجَّيْتُكَ من النارِ؟" وهذا من تلطُّفِ اللهِ بعَبْدِه إذْ يُكلِّمُه ويُحاوِرُه، "فيقولُ: ربِّ اجْعَلْ بيني وبينها حِجابًا"، أي: حاجِزًا "حتى لا أسْمَعَ حَسيسَها"، أي: حتى لا أسْمَعَ صوْتَ النارِ. قال: "فيَدخُلُ الجنَّةَ" بعدَ أنْ يُكرِمَه اللهُ بها "ويَرَى أو يُرفَعُ له مَنزِلٌ أمامَ ذلك كأنَّ ما هو فيه بالنِّسْبةِ إليه حُلْمٌ"، أي: كأنَّه بالنِّسْبةِ له بعيدُ المنالِ، "فيقولُ: ربِّ! أَعْطني ذلك المَنزِلَ، فيقولُ له: لعلَّك إنْ أَعْطَيتُكَ تَسْأَلُ غيْرَه؟"، أي: تَطلُبُ غيْرَه طَمعًا منكَ، "فيقولُ: لا وعِزَّتِكَ لا أَسْأَلُكَ غيْرَه، وأنَّى مَنزِلٌ أحْسَنُ منه؟" وهذا في اعتِقادِه أنَّه ليس هناك بيْتٌ أفْضَلَ منه، "فيُعْطاه، فيَنْزِلَه، ويَرَى أمامَ ذلك مَنزِلًا، كأنَّ ما هو فيه بالنِّسْبةِ إليه حُلْمٌ، قال: رَبِّ أَعْطني ذلك المَنزِلَ، فيقولُ اللهُ تَبارك وتَعالى له: لعلَّك إنْ أَعْطَيْتُكَ تَسْأَلُ غيْرَه؟ فيقولُ: لا وعِزَّتِكَ لا أَسْأَلُكَ، وأنَّى مَنزِلٌ أحْسَنُ منه؟ فيُعْطاه فيَنْزِلَه، ثم يَسكُتُ فيقولُ اللهُ جلَّ ذِكْرُه: ما لك لا تَسْأَلُ؟ فيقولُ: ربِّ، قد سَأَلْتُكَ حتى اسْتَحْيَيْتُكَ"، أي: حتى خَجَلْتُ من الطَّلَبِ مرَّةً أُخرى، وقد "أَقْسَمْتُ لك حتى اسْتَحْيَيْتُكَ"، أي: حَلَفْتُ بِعِزَّتِكَ ألَّا أَطلُبَ شيئًا آخَرَ، "فيقولُ اللهُ جلَّ ذِكْرُه: أَلَمْ تَرْضَ أنْ أُعْطيَك مِثلَ الدُّنْيا منذُ خَلَقْتُها إلى يَوْمِ أَفْنَيْتُها وعَشْرةَ أَضْعافِه؟ فيقول: أَتَهْزأُ بي وأَنْتَ رَبُّ العِزَّةِ؟" وهذا أيضًا من تلطُّفِ اللهِ بعَبْدِه؛ إذْ يُكلِّمُه ويُحاوِرُه بما اعْتادَه العبْدُ في الدُّنْيا، وقيل مَعْناه: نَفْيُ الهَزْءِ من اللهِ كأنَّ العبْدَ قالَ: أعْلَمُ أنَّك لا تَهْزأُ؛ لأنَّك رَبُّ العِبادِ، وقوْلُكَ: لكَ مِثْلُ الدُّنْيا وعَشْرةُ أَمْثالِها حَقٌّ، ولكِنَّ العَجَبَ من فَضْلِكَ، أو هذا تَوَسُّعٌ في الِخطابِ، وقال العبدُ ذلك لرَبِّ العِزَّةِ سُبحانَه، ومعناه: أنَّ مِثلَ ذلك إنَّما يَقولُه الهازِئُ لعبْدٍ انْقَطَعَ رَجاؤُه، ليُعلِّمَنا اللهُ أنَّه الذي لا يَنْقَطِعُ عنه رَجاءُ عبيدِه، وهذه بِشارَةٌ من اللهِ جلَّ ذِكْرُه للْمُؤْمِنين برَحْمتِه لِئَلَّا يَيْأَسوا منها.
قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "فيَضْحَكُ الرَّبُّ عزَّ وجلَّ من قَوْلِه" ضَحِكًا يَليقُ بجلالِه دون تَشْبيهٍ أو تَكْييفٍ أو تَعْطيلٍ، قال مَسْروقُ بنُ الأَجْدعِ رَواي الحديثِ عن ابنِ مسعودٍ: "فَرَأَيْتُ عبدَ اللهِ بنَ مسعودٍ إذا بَلَغَ هذا المكانَ من هذا الحديثِ ضَحِكَ، فقال له رَجُلٌ: يا أبا عبدِ الرَّحْمنِ، قد سَمِعْتُكَ تُحدِّثُ بهذا الحديثِ مِرارًا، كُلَّما بَلَغْتَ هذا المكانَ ضَحِكْتَ؟ فقال: إنِّي سَمِعْتُ رسولَ اللهِ يُحدِّثُ هذا الحديثَ مِرارًا كُلَّما بَلَغَ هذا المكانَ من هذا الحديثِ ضَحِكَ حتى تَبْدوَ أضْراسُه"، أي: إنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ضَحِكَ وأَظْهَرَ فَرَحَه وسُرورَه، بما يُظْهِرُه اللهُ سُبحانَه من نِعَمِه وفَضْلِه وَرَحْمتِه على مَنْ كان من أُمَّتِه في أبْعَدِ حالَةٍ من رَجاءِ ظُهورِ مِثلِها فيه، ويَحْتمِلُ: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إنَّما يَضحَكُ لحالِ العبدِ مِن طَلَبِه وطَمَعِه في اللهِ عزَّ وجلَّ.
قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "فيقولُ الرَّبُّ جلَّ ذِكْرُه: لا، ولكنِّي على ذلك قادِرٌ، فيقولُ" العبدُ لرَبِّه: "أَلْحِقْني بالناسِ" وهذا طَلَبٌ بأنْ يَجعَلَه اللهُ مِثلَ الناسِ الذين دَخَلوها "فيقولُ: اِلْحَقْ بالناسِ، فيَنْطلِقُ يَرْمُلُ في الجنَّةِ"، أي: يَجْري فيها "حتى إذا دَنا من الناسِ"، أي: اقْتَرَبَ منهم "رُفِعَ له قَصْرٌ مِن دُرَّةٍ"، أي: ظَهَرَ له قَصْرٌ من لُؤْلُؤْةٍ أو جَوْهَرةٍ "فيَخِرُّ ساجِدًا"، أي: يَقَعُ على الأرْضِ ساجِدًا، ولعلَّه سُجودُ تحيَّةٍ، "فيقولُ له: ارْفَعْ رَأْسَكَ ما لك؟ فيقولُ: رأيْتُ ربي أو تَراءَى لي ربي"، أي: ظَهَرَ لي رَبِّي، وكأنَّه لم يَرَ اللهَ سُبحانَه على حَقيقتِه إلى الآنَ "فيُقالُ: إنَّما هو مَنزِلٌ من مَنازِلِكَ، قال ثم يَلْقَى رَجُلًا، فيَتهيَّأُ للسُّجودِ له، فيُقالُ له: مه!"، أي: انْتَظِرْ ولا تَسْجُدْ "فيقولُ: رأيْتُ أنَّك مَلَكٌ من الملائِكَةِ،ِ فيقولُ: إنَّما أنا خازِنٌ من خُزانِكَ"، أي: ممَّنْ يَقومونَ بحِفْظِ أشْياءِ بَيْتِكَ في الجنَّةِ "وعبدٌ من عَبيدِكَ، تَحتَ يَدَيَّ أَلْفَ قَهْرَمانٍ" والقَهْرَمانُ هو الخادِمُ "على مِثْلِ ما أنا عليه، قال: فيَنْطلِقُ أمامَه حتى يُفتَحَ له بابُ القَصْرِ، قال: وهو من دُرَّةٍ مُجوَّفةٍ"، أي: كُلُّ القَصْرِ من لُؤْلُؤْةٍ وجَوْهَرةٍ مُجوَّفةٍ "شَقائِقُها وأبْوابُها وأَغْلاقُها ومفاتيحُها منها"، أي: كُلُّ شيءٍ فيها مَصْنوعٌ من نفس خامَتِها "تَسْتَقْبِلُه جَوْهَرةٌ خَضْراءُ مُبطَّنَةٌ بِحَمْراءَ"، أي: بِطانَتُها الداخِليَّةُ لونُها أحْمَرُ، "فيها سَبْعونَ بابًا، كُلُّ بابٍ يُفْضي إلى جَوْهَرةٍ خَضْراءَ مُبطَّنَةٍ، كُلُّ جَوْهَرةٍ تُفْضي إلى جَوْهَرةٍ على غيْرِ لَوْنِ الأُخرى، في كُلِّ جَوْهَرةٍ سُرُرٌ وأزْواجٌ ووَصائِفُ"، أي: خادِماتٌ للزَّوْجاتِ "أدناهنَّ حَوْراءُ عَيْناءُ"، أي أَقَلُّهنَّ جَمالًا مَن تكونُ جميلةَ العيْنِ واسِعَةً "عليها سَبْعوَن حُلَّةً" وهي ثيابٌ تَرْتديها، والحُلَّةُ المعروفةُ في الدُّنْيا من جزئيْنِ رداءٌ يُغَطِّي الجُزْءَ العُلْويَّ، وإزارٌ يُغَطِّي الجُزْءَ السُّفْلِيَّ "يُرى مُخُّ ساقِها من وَراءِ حُلَلِها"، أي: يَظهَرُ نُخاعُ عظْمِ ساقَيْها من خلفِ ثيابِها، فكأنَّها شفَّافَةٌ من شِدَّةِ جَمالِها وصَفائِها "كَبِدُها مِرْآتُه، وكَبِدُه مِرْآتُها" وهذا من شِدَّةِ الصَّفاءِ والجَمالِ "إذا أعْرَضَ عنها إعْراضَةً" بمَعْنى الْتَفَتَ بعَيْنِه بعيدًا عنها "ازْدادَتْ في عَيْنِه سَبْعين ضِعفًا"، أي: زادَ جمالُها سَبْعين ضِعفًا من الجَمالِ، "عمَّا كانت قبلَ ذلك، فيقولُ لها: واللهِ لقد ازْدَدْتِ في عَيْني سَبْعين ضِعفًا عما كُنتِ قبلَ ذلك، وتقولُ له: وأنْتَ واللهِ لقد ازْدَدْتَ في عَيْني سَبْعين ضِعفًا، فيُقالُ له: أَشْرِفْ، أَشْرِفْ"، أي: اطَّلِعْ واُنْظُرْ "فيُشرِفُ، فيُقالُ له: مُلكُكَ مَسيرةُ مِئَةِ عامٍ يَنفُذُه بَصَرُكَ"، أي: عَطاؤُكَ وما ملَّكه اللهُ لك في الجنَّةِ يَسيرُ فيه نَظَرُك مِائَةَ عامٍ، قال مَسْروقٌ:"فقال له عُمَرُ: ألَا تَسمَعُ ما يُحدِّثُنا ابنُ أُمِّ عَبْدٍ" وهذا لَقَبُ عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ "يا كعبُ، عن أدْنى أهْلِ الجنَّةِ مَنزِلًا، فكيف أعْلاهم؟" وهذا اسْتِعْظامٌ من عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنه أنَّ كُلَّ هذا النَّعيمِ لأَقَلِّ واحِدٍ يَدخُلُ الجنَّةَ، فماذا لأعْلى واحِدٍ فيها؟ "قال: يا أميرَ المُؤْمِنينَ ما لا عيْنٌ رَأَتْ ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ"؛ وذلك أنَّ في الجنَّةِ ما لا يُمكِنُ لعَقْلٍ أنْ يتصوَّرَه فضْلًا عن أنْ تَراه عيْنٌ أو تَسمَعَ بوَصْفِه أُذُنٌ.
قال الرَّاوي: "- فذكر الحديث-" وهو كما جاء في رواية الطبرانيِّ: قال كعبُ بنُ مالِكٍ رضِيَ اللهُ عنه: "إنَّ اللهَ جلَّ ذِكْرُه خَلَقَ دارًا جعلَ فيها ما شاءَ مِنَ الأزْواجِ والثَّمَراتِ والأشْرِبَةِ، ثمَّ أطْبَقَها"، أي أغْلَقَها وجَعَلَها طَبَقاتٍ على بعْضِها، "فلَمْ يَرها أحَدٌ مِنْ خلْقِه لا جِبريلُ ولا غيرُه مِنَ الملائِكَةِ، ثم قَرَأَ كَعْبٌ: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17] قال: وخَلَقَ دُونَ ذلك جنَّتَيْنِ"، أي: وخَلَقَ اللهُ غيرَ هذه الدارِ جَنَّتيْنِ "وزيَّنَهما بِما شاءَ" من أنْواعِ الزِّيناتِ والنَّعيمِ "وأَراهما مَنْ شاءَ مِنْ خَلْقِه"، أي: أطْلَعَ عليهما مَنْ شاءَ مِنَ الخَلْقِ فأَراهما له "ثم قال: فَمنْ كان كِتابُه في علِّيِّينَ" وهو دَفْتَرُ المُؤْمِنينَ وديوانُ المُقَرَّبينَ، وقيل: هو مَوضِعٌ فيه كِتابُ الأبْرارِ "نَزَلَ في تلك الدارِ التي لَمْ يَرها أحَدٌ، حتى إنَّ الرَّجُلَ مِن أهْلِ علِّيِّينَ ليَخرُجُ فيَسيرُ في مُلْكِه، فلا تَبْقَى خَيْمَةٌ مِنْ خِيَمِ الجنَّةِ إلَّا دخَلها مِنْ ضوْءِ وجْهِه" وهذا لحُسْنِ خَلْقِه وجَمالِه "فيسْتَبْشِرونَ بريحِه"، أي: يَتَوقَّعونَ الخيْرَ بسَبَبِ هذه الرائِحَةِ الطَّيِّبةِ "فيَقولون: واهًا لهذا الرِّيحِ" وهي كَلمةُ تعجُّبٍ "هذا ريحُ رَجُلٍ مِنْ أهْلِ عِلِّيِّينَ، قد خَرَجَ يَسيرُ في مُلْكِه، قال: وَيْحَكَ يا كعبُ!" والوَيْحُ كلمةٌ تُقالُ عندَ التَّفجُّعِ أو التَّوجُّعِ مِن شرٍّ وقَع، أو للتَّحذيرِ والزَّجرِ عن فِعلِ شيءٍ ما "إنَّ هذه القُلوبَ قد اسْتَرْسلَتْ"، أي: ذَهَبَتْ كُلَّ مَذهَبٍ في نَعيمِ الجنَّةِ حتى لا تَرى إلَّا أنَّها تَدخُلُها "واقْبِضْها"، أي: خوِّفْها حتى تَعمَلَ ولا تَتَّكِلَ، "فقال كعبٌ: والذي نفسي بيَدِه" وهذا قَسَمٌ وحَلِفٌ منه باللهِ الذي يَملِكُ رُوحَه "إنَّ لِجَهنَّمَ يومَ القِيامَةِ لزفْرةً"، أي: نَفَسًا أو ريحًا تَخرُجُ منها "ما مِنْ مَلَكٍ مُقرَّبٍ، ولا نَبيٍّ مُرْسَلٍ، إلا خَرَّ لرُكْبتَيْهِ"، أي: وَقَعَ على رُكْبتيْهِ خوْفًا مِن هذا النَّفَسِ، وهذه الرِّيحِ الصادِرَةِ من جهنَّمَ "حتى إنَّ إبراهيمَ خليلَ اللهِ لَيقولُ: ربِّ، نَفْسي نَفْسي" وهذا من شِدَّةِ الخَوْفِ والهَلَعِ "حتى لو كانَ لك عملُ سَبْعينَ نبيًّا إلى عَملِك لظَنَنْتَ ألَّا تَنْجوَ"، أي: لشَكَكْتَ في نَجاتِكَ من هذه النارِ.
وفي الحديثِ: بَيانُ سَعَةِ الجنَّةِ، وعِظَمِ خَلْقِها.
وفيه: بَيانُ سَعةِ رَحْمةِ اللهِ بعِبادِه المُؤْمِنينَ .