موسوعة الفرق

المَبحَثُ السَّادسَ عَشرَ: مِن الفِرَقِ الاعتِزاليَّةِ: فِرقةُ الجاحِظيَّةِ


وهُم أصحابُ أبي عُثمانَ عَمرِو بنِ بحرٍ الجاحِظِ، كان مِن أُدَباءِ المُعتَزِلةِ، والمُصنِّفينَ لهم، وقد طالَع كثيرًا مِن كُتُبِ الفلاسِفةِ، وخلَط وروَّج كثيرًا مِن مقالاتِهم بعباراتِه البليغةِ، وله منزِلةٌ ساميةٌ عندَ أهلِ الأدَبِ على زَيغِه، أخَذ عن ثُمامةَ بنِ الأشرَسِ، وعن أبي إسحاقَ النَّظَّامِ، وتُوفِّي سنةَ (سنةَ 255هــ)، وله مِن العُمرِ ما يُقارِبُ تسعينَ سنةً [337] يُنظر: ((الفَرق بين الفِرَق)) للبغدادي (ص: 160)، ((التبصير في الدين)) للإسْفِرايِيني (ص: 80)، ((المِلَل والنِّحَل)) للشَّهْرَسْتانيِّ (1/75)، ((الأنساب)) للسَّمعاني (3/ 162). .
وقال المَلَطيُّ عن الجاحِظِ: (صنَّف كُتبًا، وكان صاحِبَ تصنيفٍ، ولم يكنْ صاحِبَ جَدلٍ) [338] ((التنبيه والرد عل أهل الأهواء والبدع)) (ص: 39). .
وقال البغداديُّ عن هذه الفِرقةِ: (هؤلاء أتباعُ عَمرِو بنِ بحر الجاحِظِ، وهُم الذين اغترُّوا بحُسنِ بَذلِه (هكذا) الجاحِظ في كُتبِه التي لها ترجمةٌ تروقُ بلا معنًى، واسمٌ يَهولُ، ولو عرَفوا جهالاتِه في ضلالاتِه لاستغفَروا اللهَ تعالى مِن تسميتِهم إيَّاه إنسانًا فضلًا عن أن ينسُبوا إليه إحسانًا!) [339] ((الفَرق بين الفِرَق)) (ص: 160). .
وقد اشتَهر بمسائِلَ؛ منها ما يلي:
الأولى: قال: الجَوهرُ يستحيلُ أن ينعدِمَ أو يفنى؛ لذلك فالأجسامُ المُؤلَّفةُ مِن الجواهِرِ يستحيلُ أيضًا أن تنعدِمَ أو تفنى، ولا يقدِرُ اللهُ على إفنائِها، ولكنَّه يقدِرُ على تفريقِ أجزائِها، وإعادةِ تركيبِها فقط؛ فالأجسامُ إذًا ثابِتةٌ لا تفنى، وإنَّما يُمكِنُ أن تتغيَّرَ مِن حالٍ إلى حالٍ، وهو بقولِه هذا مُتأثِّرٌ بالفلاسِفةِ اليونانيِّينَ الطَّبيعيِّينَ الذين يذهَبونَ إلى القولِ بقِدَمِ العالَمِ واستِحالةِ فَناءِ المادَّةِ، ويرَونَ أنَّ الخَلقَ عبارةٌ عن تجمُّعِ أجزاءِ المادَّةِ في أجسامٍ مُنتظِمةٍ، وأنَّ الفناءَ هو تفرُّقُ أجزاءِ تلك الأجسامِ [340] يُنظر: ((الفَرق بين الفِرَق)) للبغدادي (ص: 161)، ((المِلَل والنِّحَل)) للشَّهْرَسْتانيِّ (1/ 75)، ((المُعتزِلة)) لجار الله (146). .
الثَّانية: أثبَت الطَّبائِعَ للأجسامِ، وأوجَب لها أفعالًا مخصوصةً، فقال: إنَّ العِبادَ ليس لهم فِعلٌ إلَّا الإرادةُ، أمَّا سائِرُ الأفعالِ فتقعُ طِباعًا لا اختِيارًا، وبسببِ إثباتِه الطَّبائِعَ للأجسامِ قال: إنَّ اللهَ لا يُدخِلُ النَّارَ أحدًا، وإنَّما النَّارُ تجذِبُ أهلَها إلى نَفسِها بطبيعتِها، ثُمَّ تُمسِكُهم فيها خالِدينَ [341] يُنظر: ((الفَرق بين الفِرَق)) للبغدادي (ص: 160). .
وقولُه: (إنَّ العبدَ لا يفعلُ إلَّا الإرادةَ) يوجِبُ ألَّا يكونَ العبدُ فعَل صلاةً ولا حجًّا، وألَّا يكونَ فعَل شيئًا مِن موجِباتِ الحُدودِ كالزِّنا والسَّرقةِ، وقولُه: (إنَّ اللهَ لا يُدخِلُ أحدًا النَّارَ، وإنَّما النَّارُ تجذِبُ أهلَها إلى نَفسِها بطَبعِها) يلزَمُه على هذا القولِ أن يقولَ في الجنَّةِ: إنَّها تجذِبُ أهلَها إلى نَفسِها بطَبعِها، وإنَّ اللهَ لا يُدخِلُ أحدًا الجنَّةَ، فإن قال بذلك قطَع الرَّغبةَ إلى اللهِ في الثَّوابِ، وأبطَل فائِدةَ الدُّعاءِ، وإن قال: إنَّ اللهَ تعالى هو يُدخِلُ أهلَ الجنَّةِ الجنَّةَ، لزِمه القولُ بأنَّ اللهَ يُدخِلُ في النَّارِ أهلَها كذلك [342] يُنظر: ((الفَرق بين الفِرَق)) للبغدادي (ص: 160)، ((التبصير في الدين)) للإسْفِرايِيني (ص: 80). .
قال الإسْفِرايِينيُّ: (أمَّا قولُه: "إنَّ المعارِفَ ضروريَّةٌ" فإنَّه يوجِبُ ألَّا يكونَ ثوابٌ ولا عقابٌ على أفعالِه الموجودةِ منه، وهذا خلافُ قولِ المُسلِمينَ، وإنَّما صنَّف كتابَ "طبائِعُ الحيوانِ" لتمهيدِ هذه البِدعةِ الشَّنعاءِ؛ أراد أن يُقرِّرَ في نُفوسِ مَن يُطالِعُه هذه البِدعةَ، ويُزيِّنَها في عَينِه، فيغترَّ بحُسنِ ألفاظِه المُبتذَلةِ فيها، ويظُنَّ أنَّه إنَّما جمَعه لنَشرِ نوعٍ مِن العِلمِ، ولا يعلَمُ أنَّه إنَّما قصَد به التَّمهيدَ لبِدعتِه حتَّى إذا ألِفه، واستأنَس به واعتقَد مُقتضاه، انسلَخ به عن دينِه) [343] ((التبصير في الدين)) (ص: 80). .
الثَّالثةُ: حكى ابنُ الرَّاوَنْديُّ عنه أنَّه قال في القرآنِ الكريمِ: إنَّ للقرآنِ جسدًا يجوزُ أن يقلِبَ مرَّةً رجُلًا، ومرَّةً حيوانًا [344] يُنظر: ((المِلَل والنِّحَل)) للشَّهْرَسْتانيِّ (1/76). .
ويدفَعُ البعضُ هذا عنه بأنَّه لا يُعقَلُ أن يقولَ الجاحِظُ هذا القولَ، بل الأرجَحُ أن يكونَ ابنُ الرَّاوَنْديُّ نسَبه إليه؛ للحَطِّ مِن قَدرِه، وإن كان قاله فِعلًا فإنَّه إمَّا أن يدُلَّ على الدَّرجةِ البعيدةِ في السُّخْفِ التي وصلَت إليها المُحاجَّاتُ الفلسفيَّةُ في زَمنِه، وإمَّا أن يكونَ الجاحِظُ قصَد بهذا القولِ التَّهكُّمَ على المُجادِلينَ في وقتِه [345] يُنظر: ((المُعتزِلة)) لجار الله (ص: 148). ، ولكنْ مِن جهةٍ أخرى فقد قال به بعضُ المُعتَزِلةِ ممَّن قالوا: إنَّ القرآنَ مخلوقٌ؛ إذ قال بعضُهم: هو جسمٌ مِن الأجسامِ، ومُحالٌ أن يكونَ عَرَضًا، وبعضُهم قال: إنَّ القرآنَ جسمٌ خلَقه اللهُ سُبحانَه في اللَّوحِ المحفوظِ، ثُمَّ هو مِن بَعدِ ذلك معَ تلاوةِ كُلِّ تالٍ يتلوه معَ خطِّ كُلِّ مَن يكتُبُه، ومعَ حِفظِ كُلِّ مَن يحفظُه، وبعضُهم يقولُ: القرآنُ جسمٌ مِن الأجسامِ قائِمٌ باللهِ في غَيرِ مكانٍ [346] يُنظر بتوسُّعٍ حولَ هذه المقالاتِ وأصحابِها: ((مقالات الإسلاميين)) للأشعري (2/ 423- 426). .

انظر أيضا: