مقالات وبحوث مميزة


 

قِراءَةٌ جديدة في بُردة البُوصِيري وشِعْرِه

عَلَوي بن عبدالقادِر السَّقَّاف


قُصيدةُ البُردَة للبُوصِيري من القَصائد الشَّهيرة في المَديح النبويِّ، هامَ فيها أهلُ التَّصوُّفِ؛ فشَرحوها، وشَطَّروهــا(1)، وخمَّسوهـا(2)، وسَبَّعوها(3)، وعارَضوها(4)، ونَظَموا على نَهْجِها(5)، حتى بلغتْ شُروحُها والكتُب التي تَكلَّمت عنها العَشَرات، ولم تَقتصرْ على اللُّغة العربيَّة، بل جاءتْ بلُغاتٍ مختلفةٍ(6)، وغَلَوْا فيها، حتى جَعَل بعضُهم لأبياتِها بركةً خاصَّةً، وشفاءً من الأمراض(7)! بل مِن كَتَبةِ الأحجبةِ والتَّمائم مَن يَستخدم لكلِّ مرضٍ أو حاجة بيتًا خاصًّا: فبيتٌ لمرَض الصرع، وبيتٌ للحِفظ من الحريق، وآخَر للتوفيق بين الزَّوْجين وهكذا (8)! وما عَلِمنا هذا في آياتِ القرآنِ الكريم، ولا في الأحاديثِ النبويَّة!

وكانت البُردة- وما تزالُ- عند بعضِ الناس من الأوراد التي تُقرأ في الصَّباح والمساءِ في هَيبةٍ وخشوع(9)، وأبياتُها تُستعمل إلى اليومِ في الرُّقَى، وتُتلَى عند الدفن(10)، وقد وضَعوا لها شُروطًا عند قراءتها، كالوضوءِ واستقبالِ القِبلة، وغيرِ ذلك(11).

وزَعموا أنَّ سببَ تَسميتِها بالبُردة: أنَّ صاحبَها ألْقاها أمامَ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ في المنامِ فأَلْقَى عليه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ بُردتَه كما ألْقاها على كَعبِ بن زُهيرٍ رضي الله عنه يَقظةً، مع أنَّ قِصَّة كعب بن زُهير هذه لم تَثبُت بإسنادٍ صحيحٍ أصلًا. وزَعَموا أنَّ ناظِمَها البُوصِيريَّ كان مريضًا بالفالَج فشُفِي بها؛ ولذلك سُمِّيتْ بالبُرْءَة(12)، وبلغ غلوُّهم فيها أنْ زعَموا أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ شارَكَه في نَظمِها، وأنَّه كان يتمايلُ عند سماعِها، فلما انتهى الناظم إلى قوله:
فمَبْلَغُ العِلمِ فيه أنَّه بَشرٌ..... توقَّف! فأضاف النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ: وأنَّه خيرُ خَلقِ الله كُلِّهمِ (13).
وهذا كلُّه كذبٌ وافتراءٌ على رسولِ الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّمَ.

هذه القَصيدةُ انتقَد كثيرٌ من أهل العِلم أبياتًا مُعيَّنة فيها، تعدُّ من أكثرِ الأبيات غُلوًّا عندهم(14)، ودافَع عنها آخَرون من من دُعاة التَّصوُّف، وردُّوا ما وُجِّه إليها من نَقْدٍ، مُعلِّلين كلَّ بيت مُنتَقد فيها بما يَنفي عِلَّةَ النَّقد، ومِن هذه الأبيات المُنتقَدة- التي دافَع عنها هؤلاءِ وزَعموا أنَّ مُنتقدِيها من أهلِ العِلم لم يُدرِكوا مُرادَه-

قولُه:

إنْ لَمْ يَكُنْ في مَعَادِي آخِذًا بِيَدِي    فَضْلًا وَإِلَّا فَقُلْ يَا زلَّةَ القَدمِ


وقولُه:

يَا أَكْرَمَ الخَلقِ مَا لي مَن أَلُوذُ به    سِواكَ عند حُلولِ الحَادِثِ العَممِ


وقوله:

فإنَّ مِن جُودِك الدُّنيا وضَرَّتها    ومِن عُلومِك عِلمَ اللَّوحِ والقَلَمِ


فأصبحَ كثيرٌ من النَّاس لا يَعرِفون غُلوَّ البُوصيري إلَّا من قصيدته البُردة، ولا يَعرِفون ما في البُردة من غلوٍّ إلَّا من هذه الأبيات، فإذا كانتْ هذه الأبيات مُفسَّرةً ومبرَّرةً، سَلِمتِ البردةُ وسَلِم البُوصيريُّ، فيَنتقل اللومُ إذًا إلى مُنتقديه المتشدِّدين!

والرَّجُل- كما يزعمون- إمامٌ عالمٌ عاملٌ، صالحٌ زاهدٌ....، وقصيدته البُردة زَهراءُ غَرَّاء، يَتبرَّك بها الناسُ، وفيها شفاءٌ لأمراضِهم ... إلى آخِره، وهذه الأوصافُ مذكورة في كُتُبهم(15).
فهل صحيحٌ أنَّ بُردة البُوصيري ليس فيها من الغُلوِّ إلَّا هذه الأبيات؟ بل هل صحيحٌ أنَّ البُوصيري إمامٌ عالمٌ عاملٌ، وقصائده- سواء البُردة أو غيرها- تخلو من الغُلوِّ؟! هذا ما أردتُ بيانَه في هذه المقالة.
أمَّا البُوصيري، فهو أبو عبد الله محمَّد بن سعيد بن حمَّاد الصِّنهاجي البُوصِيري، مِصريُّ النَّشأة، مغربيُّ الأصل، شاذليُّ الطريقة(16).
وُلِد سنة 608هـ، وتُوفِّي سنة 696هـ، فهو شاعِرٌ صنهاجي له شعرٌ غايةٌ في الحسن واللطافة عذب الألفاظ منسجم التركيب. تنقَّل بين القدس والمدينة ومكَّة، ثم عاد إلى مصر وعَمِلَ كاتبًا في الدولةِ ثم أصبح يعلِّمُ الصبيانَ القرآن،  ولم يكُن عالِمًا قطُّ، ولم يَعُدَّه أحدٌ من المترجمين له في عِداد العلماء، بل عدُّوه من الشُّعراء (17) ومَن عدَّه كذلك من المعاصِرين لم يستطعْ أن يُثبت ذلك، وكان صوفيًّا على الطريقة الشاذليَّة.(18)

والبُوصِيري كان ممقوتًا؛ لإطلاقِ لِسانه في الناس بكلِّ قَبيحٍ، وذِكره لهم بالسُّوءِ في مجالس الأُمراء والوزراء(19)، سيِّئ الخُلُق مع زوجتِه وغيرِها، شَحَّاذًا، مُضطربًا في شخصيتِه، فتارةً يَمدحُ النَّصارى ويذُمُّ اليهود، وتارةً يمدحُ اليهودَ؛ إرضاءً للنصارى، وتارة يذمُّ الاثنين معًا(20)، وكان كثيرَ المدحِ للسَّلاطين؛ طمعًا فيما عندهم، وهذا ليس غريبًا على الشُّعراء، لكنَّه ليس مِن صنيعِ العُلماء، أضِفْ إلى ذلك أنَّ له أبياتًا كثيرةً في البُردة والهَمزيَّة وبقيَّة قَصائِده الواردةِ في دِيوانه، فيها من الغلوِّ ما يُصدِّق قولَ مُنتقديه فيه، وإليك جوانبَ ممَّا ذُكِر:

أمَّا سوءُ خُلقه مع زوجتِه، فقد ذمَّها وأشارَ إلى اتِّهامها بالفاحشةِ في قَصيدةٍ طويلةٍ، وفي القصيدةِ من الفُحش والفُجور والفِسق ما فيها، نسألُ الله السَّلامة والعافية؛ ومنها قولُه:


وَبَليَّتي عِرسٌ بُلِيتُ بمقتها      والبَعلُ ممقوتٌ بغير قيامِ

جَعَلَتْ بإِفْلاسِي وَشَيْبِيَ حُجَّة    إِذَا صِرتُ لا خَلْفِي ولا قُدَّامي

بلغَتْ مِن الكِبَرِ العِتيَّ ونُكِّست    في الخَلقِ وهْي صَبيَّةُ الأَرحامِ

إنْ زُرْتُها في العامِ يَوْمًا أنْتَجَتْ    وَأتَتْ لِسِتَّةِ أشْهُرٍ بِغُلامِ

أوَ هَذِه الأولادُ جاءتْ كُلُّها     مِن فِعلِ شَيخٍ ليسَ بالقوَّامِ؟!

وأَظنُّ أنَّهمُ لعُظْمِ بَليَّتي      حَمَلتْ بِهم لا شكَّ في الأَحْلامِ

أوَ كُلَّ ما حَلِمتْ به حَمَلتْ به؟    مَن لي بأنَّ الناسَ غيرُ نِيامِ؟

يَا لَيتَها كانتْ عَقِيمًا آيسًا     أوْ لَيْتَنِي مِن جُملةِ الُخدَّامِ

أوْ لَيْتَني مِن قَبلِ تَزويِجي بها    لوْ كُنتُ بِعتُ حَلالَها بحَرامِ!

أوْ لَيْتني بعضُ الَّذين عَرَفتُهم    ممَّنْ يُحصِّنُ دِينَه بغُلامِ(21)!


ففي البيت الخامس يُشكِّك أنْ يكون أولادُه من كثرتهم أتَتْ بهم زوجتُه منه وهو شيخٌ ليس بالقوَّام! وفي التاسع تَمنَّى لو استبدلَ حلالها وهو الزواج بحرامٍ حتى لا يتحمَّلَ تبعةَ الأبناء، وفي العاشر تمنَّى لو أنَّه حصَّن دِينَه بغُلام بدلًا عن زوجةٍ، كبعض الذين يعرفهم! والعياذُ بالله.

والبُوصيري كان شَحَّاذًا يستخدمُ شِعرَه في استجداءِ ما عند الناس- وهذا ليس مِن صنيعِ العُلماءِ- فها هو يَشكُو للصَّاحب بهاء الدِّين عليِّ بن محمَّد بن حنا حالَه وكثرةَ عِياله بقوله:


أيُّها الصَّاحبُ المؤمَّل أَدْعُو   كَ دُعاءَ استغاثةٍ واستجارهْ

أَثْقَلَتْ ظَهري العِيالُ وقَدْ كنـ    تُ زَمانًا بهم خفيفَ الكَارَهْ

وَلَوَ انِّي وَحْدي لكنتُ مُريدًا    في رِباطٍ أَو عَابدًا في مَغارهْ

أَحسَبُ الزُّهد هيِّنًا وهْوَ حربٌ   لستُ فيه ولا مِن النَّظَّارهْ

لا تَكِلْني إلى سِواكَ فأخيا      رُ زَماني لا يَمنحُون خِيارَهْ

ووجوهُ القُصَّادِ فيه حديدٌ        وقلوبُ الأجوادِ فيه حِجارهْ

فإذا فازتْ كَفُّ حُرٍّ بِبُرٍّ            فهو إمَّا بنَقضةٍ أو نشارهْ

إنَّ بَيتي يقولُ قدْ طالَ عَهْدي     بدُخولِ التِّلِّيس(22) لي والشِّكارهْ

وطَعامٍ قدْ كان يَعهَدُه النا         سُ متاعًا لهم وللسَّيَّارهْ

فالكوانيُن(23) ما تُعابُ من البَر       دِ بطبَّاخَةٍ ولا شَكَّارهْ

لا بِساطٌ ولا حَصيرٌ بدِهليـ        ـــزٍ ولا مَجلسي ولا طَيَّارهْ(24).


ويَطلُب من غيرِه كُنافةً في شهر الصوم، فيقول:

ما أَكَلْنا في ذا الصِّيامِ كُنافَه     آهِ وا بُعدَها علينا مَسافَه

قال قومٌ إنَّ العِمادَ كريمٌ     قلتُ هذا عندي حديثُ خُرافَه

أَنَا ضَيفٌ له وقد مُتُّ جُوعًا    ليتَ شِعري لِـمْ لا تُعَدُّ الضِّيافَه

وهْوَ إنْ يُطْعِمِ الطَّعامَ فمَا يُطْـ    ـعِمُه إلَّا بسُمعةٍ أو مَخافَه(25).


وقال يَهْجو أُناسًا سرَقوا حِمارتَه فغَلَا وبالَغَ في ذلك جِدًّا من أجْل حمارة! فقال:

أَرَى المُستخدِمين مَشَوْا جميعًا    على غيرِ الصِّراطِ المُستقيمِ

مَعاشِرُ لو وَلُوا جَنَّاتِ عَدْن    لصارتْ مِنهمُ نارَ الجَحيمِ

فمَا مِن بَلدةٍ إلَّا ومنهم      عليها كلُّ شَيطانٍ رَجيمِ

فلو كانَ النُّجومُ لها رُجومًا    لَقِدْ خَلتِ السَّماءُ من النُّجومِ(26).


وكانَ مُضطرِبَ الشخصيةِ يَسيرُ مع هوى نفْسه وطَمعِها، فلمَّا لمْ يُهدِ له النصارى طعامًا في عِيدهم- عيد المسيح كما يزعمون- هَجاهم، ومدَحَ اليهودَ؛ نكايةً فيهم فقال:

يَهودُ بِلبِيس(27) كُلَّ عِيدٍ    أفضلُ عِندي من النَّصارى

أمَا ترَى البَغْلَ وَهْوَ بغلٌ     في فَضلِه يَفضُلُ الحِمارَا(28)


فلمَّا هدَّده النصارى تراجَع ومدحَهم وذمَّ اليهود، فقال:

مَا للنَّصارى إليَّ ذنبٌ     وإنما  الذَّنبُ  لليهودِ

وكيفَ تَفضيلُهم وفيهم    سِرُّ الخنازيرِ والقُرودِ(29).


أمَّا مدحُه لسلاطين زمانِه مستجديًا ما عندهم، فحدِّث ولا حرجَ! ودِيوانه مليءٌ بذلك(30) ولا تَخلو كثيرٌ من قَصائدِه من الغلوِّ في الممدوحِ، وإليك نَزرًا يسيرًا منها:
فمِن ذلك قولُه يمدحُ الوزيرَ زينَ الدِّين الصاحبي بقوله:


أَهلُ التُّقى والعِلم أهلُ السُّؤددِ      فأَخو السِّيادةِ أحمدُ بنُ مُحمَّدِ

الصَّاحبُ بنُ الصَّاحبِ بنِ الصَّاحِبِ الــ       ـحَبرُ الهُمامُ السَّيِّدُ ابنُ السَّيِّدِ

لا تُشرِكنَّ به امرأً في وصْفِه      فتكونَ قد خالفتَ كُلَّ مُوحِّدِ(31).

وفي البيتِ الأخير غلوٌّ ظاهرٌ.


ويقولُ مادحًا الصَّاحبَ بهاء الدِّين، ويَطلبُه حمارةً، ويذمُّ آخرَ مُقرَّبًا من الصاحب؛ حَسدًا له:

صاحِبٌ لا يزالُ بالجُودِ والإفـ    ضَالِ طلقَ اليَدينِ حُلوَ العِبارهْ

كَم هَدَانا من فضلِه بكِتابٍ     مُعجزٍ مِن عُلومِه بأَثَارهْ

إنَّما يَذكُر العطيةَ مَن كا      نَتْ عَطاياهُ تَارةً بَعدَ تَارهْ

سَيِّدي أنتَ نُصرتي كُلَّما     شنَّ عليَّ الزمان بالفقرِ غَارهْ!

شابَ رأسي وما رأستُ كأنِّي    زامرُ الحيِّ أو صغيرُ الحارَهْ

وابنُ عِمرانَ وهْوَ شَرُّ متاع    للوَرَى في بِطانةٍ وظِهارَهْ

حَسَّن القُربُ منكم قُبحَ ذِكرَا    هُ كتَحسينِ المِسكِ ذِكْرَ الفَارَهْ

فهْوَ في المدحِ قَطرةٌ من سَحابي    وهو في الهَجْوِ مِن زِنادي شَرارَهْ

ما له مِيزةٌ عليَّ سِوى أنَّ     له بغلةً وما لي حِمارهْ(32).


ويَمدحُه مَرَّةً أخرى ويشكو له حالَه فيقول:

يَا أيُّها المولى الوزيرُ الذي    أيَّامُه طائِعةٌ أَمْرَهْ!

ومَن له منزلةٌ في العُلا     تَكِلُّ عن أوصافِها الفِكْرَه

أَخلاقُك الغُرُّ دَعتْنَا إلى الـ      إدلاءٍ في القولِ على غِرَّه

إليك نَشْكُو حالَنا إنَّنا       عائلةٌ في غايةِ الكَثْرَه

صاموا مع النَّاسِ ولكِنَّهم     كانوا لِمَن يُبصِرهم عِبْرَه

فارحمْهمُ إنِ أَبصروا كَعكةً     في يدِ طِفلٍ أو رَأَوْا تَمْرَه

تَشْخَصُ أَبصارُهم نَحوَها    بِشَهْقةٍ تَتبعُها زَفْرَه


وقد اشتَهَر البُوصيريُّ بشِعرِه في المدائحِ النبويَّة، وهو مِن أرْقَى الشِّعر وأجودِه لولا غُلوٌّ فيه، ومَن قرأ قصائدَه مثل: البُردة الميميَّة، والقصيدة الهمزيَّة، وبقيَّة قصائده في دِيوانه- ظهَر له اطِّرادُ الرَّجُل في غلوِّه، وأبياتُه المُجمَلة المحتمِلة لأكثرَ من معنًى في قصيدةٍ، تُفسِّرها أبياتٌ أخرى في قصيدةٍ أُخرى؛ فلا مجالَ لتبرئتِه منه، وهاكم بعضَ الأمثلة:

قولُه في البُردة:

فَإنَّ مِن جُودِك الدُّنيا وضَرَّتَها   ومِن عُلومِك عِلمَ اللَّوحِ والقَلمِ(33)


يُؤيِّده البيتُ الخامِسُ من الهمزيَّة:

لَك ذاتُ العُلومِ مِن عالِم الغيـــ      ـــبِ ومنها لآدَمَ الأسماءُ


لذلك قال الهيتميُّ في شرح هذا البيت:
(إنَّ آدَمَ لم يَحصُل له من العلومِ إلَّا مجرَّدُ العِلم من أسمائها، وأنَّ الحاصل لنبيِّنا هو العلمُ بحقائقها، ومُسمَّياتها، ولا ريبَ أنَّ العلمَ بهذا أعْلى وأجلُّ، من العِلم بمُجرَّد أسمائها؛ لأنَّها إنما يُؤتَى بها لتبيين المسميَّات؛ فهي المقصودةُ بالذات، وتِلك بالوسيلة، وشتَّان ما بينهما، ونظير ذلك أنَّ المقصود مِن خَلْقِ آدمَ إنما هو خلقُ نبيِّنا صلَّى الله عليه وسلَّمَ من صُلبه، فهو المقصودُ بطريق الذَّات، وآدَم بطريقِ الوسيلة، ومِن ثَمَّ قال بعضُ المحقِّقين: إنما سجَدَ الملائكةُ لأجْلِ نُورِ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ الذي في جَبينه) (34)!
نعوذ بالله من الضلال.

والبُوصيريُّ كغيره من غُلاة الصوفيَّة الذين يَعتقدون أنَّ الدنيا بمَن فيها لم تُخْلَقْ إلَّا من أجلِ محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّمَ، ونورِ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، وهذا ذَكَرَه في البُردة وغيرها؛ قال في البُردة:


وكَيفَ تَدْعو إلى الدُّنيا ضَرورةُ منْ     لولاه لم تَخرُجِ الدُّنيا من العَدمِ


وقال:

وكلُّ آيٍ أَتَى الرُّسْلُ الكِرامُ بها     فإنَّما اتَّصلتْ مِن نُورِه بِهِمِ


وقال:

فاقَ النَّبيِّينِ في خَلْقٍ وفي خُلُقٍ    ولم يُدانوه في عِلمٍ ولا كَرمِ

وكُلُّهم مِن رَسولِ اللهِ مُلتمِسٌ    غَرفًا مِنَ البَحرِ أَوْ رَشفًا مِن الدِّيَمِ


وقال في الهمزيَّة مؤكدًا هذا المعنى:

كلُّ فَضلٍ في العالَمِين فَمِنْ    فَضلِ النَّبِي استعارَه الفُضلاء


قال الهيتميُّ في شرح البُردة: (فإنَّما اتَّصلتْ مِن نُورِه بِهم، أي: وصلتْ منه إليهم بطريق الاستمدادِ؛ وذلك لأنَّ نورَه صلَّى الله عليه وسلَّمَ كان مخلوقًا قبلَ آدَمَ صلوات الله وسلامُه عليه، بل قبل سائرِ المخلوقات من السَّموات وما فيها والأرض وما عليها وغير ذلك)(35)، وهذا مِن خُرافات الصوفيَّة وخُزعبلاتهم؛ فالنبيُّ محمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّمَ وَلَدُ آدَمَ، وخُلق بعدَ آدَمَ؛ فكيفَ يكونُ نورُه خُلِق قَبلَه؟! عليه صلواتُ ربِّي وسلامُه.
وقال في شرح الهمزيَّة: (لأنَّه صلَّى الله عليه وسلَّمَ الممدُّ لهم؛ إذ هو الوارثُ للحضرةِ الإلهيَّة، والمستمدُّ منها بلا واسطةٍ دون غَيرِه؛ فإنه لا يستمدُّ منها إلَّا بواسطتِه صلَّى الله عليه وسلَّمَ، فلا يصلُ لكامِل شيءٍ إلَّا وهو مِن بعض مددِه وعلى يديه، فآياتُ كلِّ نبيٍّ إنما هي مُقتبسَةٌ من نوره؛ لأنَّه كالشمس، وهم كالكواكب، فهي غيرُ مضيئةٍ بذاتها وإنَّما هي مُستمدَّة من نورِ الشمس، فإذا غابتْ أظهرتْ أنوارَها، فهم قبل وجودِه صلَّى الله عليه وسلَّمَ إنما كانوا يُظهِرون فضلَه، وأنوارُهم مُستمَدَّة من نورِه الفائض، ومَددِه الواسع)(36)، وهذا كلامٌ لا دليلَ عليه لا مِن النَّقل ولا العقل، ولا زِمامَ له ولا خِطام!

وفي البُردة استجارة واستغاثة بالنبي صلَّى الله عليه وسلَّمَ وذلك عند قوله:

مَا ساَمَني الدهرُ ضَيمًا واستجرتُ به     إلَّا ونِلتُ جوارًا منه لم يُضَم

ولا الْتمستُ غِنَى الدَّارينِ مِن يَدِه     إلَّا التمستُ النَّدى مِن خَيرِ مُسْتَلمِ


ومعنى ذلك: ما ظَلمَني أهلُ الدَّهر في وقتٍ من الأوقاتِ وطلبتُ مِن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ أن يُدخِلَني في جوارِه؛ ليحميني مِن ضَيمِ الدَّهر إلا وقرَّبني منه(37).
والاستغاثةُ بالنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ كثيرةٌ في شِعر البُوصيري- وهي أشنعُ مِن التوسُّل، وإنْ خلَط بينهما بعضُ الناس؛ جَهلًا أو تلبيسًا.

ولم تقتصرْ أبياتُ الغلوِّ في شِعر البُوصيريِّ على البُردة فقط، بل في غيرها ما هو أكثرُ غلوًّا، ومِن ذلك قوله:


يا نَبيَّ الهُدى استغاثةُ مَلْهُو     فٍ أَضرَّتْ بحالِه الحَوباءُ

يَدَّعي الحبَّ وهو يأمُر بالسو     ءِ ومَن لي أن تَصْدُقَ الرغباءُ


إلى أن قال:

هَذِه عِلَّتي وأنتَ طبيبي     ليس يَخفَى عليك في القلبِ داءُ

ومِن الفوزِ أن أَبُثَّكَ شَكوى     هي شَكوى إليك وهي اقتِضاءُ(38)


وأشدُّ مِن ذلك دُعاؤه النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ أن يَصفحَ عنه، وأن يَقبلَ عُذرَه بقوله:

يا مَن خَزائنُ جُودهِ مملوءةٌ    كَرمًا وبابُ عطائِه مفتوحُ

نَدْعوك عن فَقرٍ إليك وحاجةٍ    ومَجالُ فضلِك للعُفَاةِ فسيحُ

فاصفحْ عن العبدِ المسيءِ تَكرُّمًا    إنَّ الكريمَ عن المسيءِ صَفوحُ

واقبلْ رَسولَ الله عُذرَ مقصِّرٍ    هو إنْ قَبِلتَ بمدحِكَ الممدوحُ

في كلِّ وادٍ من صِفاتِك هائمٌ   وبكُلِّ سرٍّ مِن نداك سَبوحُ(39)


ومن ذلك: غُلوُّه في الشَّريفةِ نَفيسةَ بنتِ الحَسنِ بنِ زيدِ بنِ الحسنِ بنِ عليٍّ رضي الله عنهم، بقوله:

سَليلةُ خَيرِ العالَمِين "نَفيسةٌ"   سمَتْ بِكِ أَعراقٌ وطابتْ مَحاتِدُ(40)

إذا جَحدتْ شَمسُ النهارِ ضِياءَها   ففضلُكِ لم يَجحَدْه في الناسِ جاحدُ

بآبائِك الأطهارِ زُيِّنتِ العُلا   فحَبَّاتُ عِقد المجدِ مِنهم فَرائدُ

ورثتِ صفاتِ المصطفى وعُلومَه   فَفَضلُكما لولَا النُّبوَّةُ واحدُ!(41)


هذا، وفي البُردةِ أخطاءٌ أخرى نمرُّ عليها مرورًا سريعًا حتى لا يظنَّ ظانٌّ أنَّها مقصورةٌ على بَيتينِ أو ثلاثة، فمِن ذلك:
قوله:

أَقْسَمتُ بالقَمرِ المنشقِّ إنَّ له   مِن قَلبِه نِسبةً مَبرُورَةَ القَسمِ

وهذا قَسَم بغيرِ الله تعالى لا يجوزُ.

وقوله:

دَع مــا ادَّعَتهُ النَّصارَى في نَبِيِّهِـمِ    واحكُمْ بما شِئتَ مَدحًا فيه واحتَكِـمِ

وكأنَّ الناظمَ يقول: امدَحْه- يَعني: نَبيَّنا محمدًا صلَّى الله عليه وسلَّم- بما شِئتَ من المدحِ، لكن لا يصل بك المدحُ إلى تأليهه كما فعلتِ النَّصارى مع عيسى عليه الصَّلاة والسَّلام، وهذا باطلٌ، وليس معنى حديث: ((لا تُطْرُوني كما أَطرتِ النصارى عيسى ابنَ مريم))، أي: أَطروني، لكن لا يَصِل إطراؤكم إلى ما وصَلَ إليه النصارى مِن أنَّه ابنُ الله، وثالثُ ثلاثة!
وهذا خَطأٌ، والمعنى الصَّحيح للحَديث: لا تُبالغوا في إطرائي كما بالَغَ النَّصارى في إطراءِ نبيِّهم حتى أدَّاهم ذلك إلى تأليهه.

ومن ذلك قولُه:

فَإِنَّ لي ذِمَّةً منــه بتَسـمِيَتِي    مُحمَّدًا وَهْوَ أَوفَى الخَلقِ بــالذِّمَمِ

وهذا غيرُ صحيح، فليس كلُّ مَن تَسمَّى بمحمَّدٍ صارتْ له ذِمَّةٌ بهذه التسمية؛ فما أكثرَ مَن تَسمَّى بمحمد وهو في عِداد الفسقة! ولكن للأسف تجِد كثيرًا منهم يُردِّدونَ هذا البيت وغيرَه وهم يَظنُّون صِحَّةَ معناه.

وقوله أيضًا:

لا طِيبَ يَعــدِلُ تُرْبًا ضَمَّ أَعظُمَهُ    طُوبى لـمُنتَشِـقٍ منـــه ومُـلتَثِـمِ

الانتشاق: الشم، والالتثام: التعفُّر أو التَّقبيل، والنَّاظم يَدْعو لأنْ نَنتشقَ ونلتثمَ تُرابَ قبرِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، وهذا من الغلوِّ أيضًا.
والحاصِل: أنَّ البُوصيريَّ كان من غُلاة الصُّوفيَّة الشاذليَّة، ولا يَنفع الذين دافَعوا عنه الْتماسُهم العُذرَ له في بعضِ الأبيات أو توجيهها وجهةً حَسنةً، فهذا إنَّما يُقال لِمَن كان سليمَ المعتقَدِ، سليمَ المنهجِ والطريقةِ، ثم تزِلُّ قَدمُه في مسألةٍ أو مسألتين، فهذا يُلتمس له العذرُ فيها، أمَّا مَن كانتْ هذه طريقتَه، وهذا مُعتقدَه، وهذا دَيدنَه، فمهما الْتمَسْنا له العذرَ في بيتٍ أو بيتين، فماذا عن الباقي؟! وماذا عن شُرَّاح هذه القصائدِ الذين يُؤكِّدون هذه المعاني، ويَتتابعون عليها في شَرْح قصائدِه؟!

وهذا كلُّه لا يَمنعنا أن نُشيدَ بقُوَّةِ شِعْره وجزالتِه، سواء كان من شِعر مديحِ المصطفى صلَّى الله عليه وسلَّمَ، أو ما فيه مِن حِكَمٍ ودُرَرٍ؛ فمِن مليحِ المديحِ: قولُه في البُردة:

أَكــرِمْ بخَلْـقِ نَبيٍّ زانَــهُ خُلُـقٌ      بالحُسـنِ مُشـتَمِلٌ بالبِشْـرِ مُتَّسِـمِ

كالزَّهرِ في تَرَفٍ والبـَدرِ في شَـرَفٍ    والبَحرِ في كَــرَمٍ والـدَّهرِ في هِمَمِ


وقوله واصفًا الصَّحابة رضي الله عنهم:

هُمُ الجِبـالُ فَسَـلْ عَنهُم مُصَادِمَهُم    مَــاذا لَقِي مِنهمُ في كُـلِّ مُصطَدَمِ

وَسَـلْ حُنَيْنًا وَسَـلْ بَدْرًا وَسَلْ أُحُدَا    فُصـولُ حَتْفٍ لَهم أَدْهى مِنَ الوَخَمِ

كــأنَّهُم في ظُهورِ الخَيْلِ نَبْتُ رُبًى    مِن شِـدَّةِ الحَزْمِ لا مِن شَـدَّةِ الحُزُمِ


وفيها من الحِكَم الكثير، كمِثل قوله:

والنَّفسُ كالطِّفلِ إنْ تُهمِلْه شَبَّ على     حُبِّ الرَّضاعِ وإنْ تَفْطِمْه يَنفَطمِ

فاصرفْ هواها وحاذِرْ أن تُولِّيَه      إنَّ الهوى ما تَولَّى يُصْمِ أو يَصِمِ(42)

وراعِها وهْي في الأَعمالِ سائِمةٌ     وإنْ هي اسْتَحْلَتِ المَرعى فلا تَسِمِ

كم حسَّنَتْ لَذَّةً للمَرءِ قاتلةً      من حيثُ لم يَدْرِ أنَّ السُّمَّ في الدَّسَمِ

قد تُنكِرُ العَينُ ضوءَ الشَّمسِ مِن رمَدٍ    ويُنكرُ الفمُّ طَعْمَ الماءِ مِن سَقَمِ

واسْتَفْرِغ الدَّمْعَ مِنْ عَيْنٍ قد امْتَلأتْ    مِنَ الـمَحــارِمِ وَالْزَمْ حِمْـيَةَ الــنَّدَمِ

وخَالِفِ النَّفسَ والشَّيطانَ واعصِهِما      وإنْ هُمَا مَحَّضاك النُّصْحَ فاتَّهِـمِ
ولا تُطِعْ منهما خَصْمًا ولا حَكَمـًا      فأَنتَ تَعرِفُ كَيدَ الخَصمِ والحَكَمِ


ومِن بديعِ شِعره:

ذَهبَ الشَّبابُ وسوفَ أذهبُ مِثلَما      ذهَبَ الشبابُ وما امرؤٌ بمخلَّدِ

إنَّ الفناء َ لكُلِّ  حيٍّ  غايةٌ        مَحتومةٌ إنْ لم يكُن فكَأنْ قَدِ(43)


هذا، وأسأل الله عزَّ وجلَّ أن يَهدي ضالَّ المؤمنين، وأن يَردَّه إلى الحقِّ ردًّا جميلًا.


وصلَّى الله وسلَّم على حَبيبِنا وسيِّدنا ونبيِّنا مُحمَّدٍ عبدِ اللهِ ورسولِه، وعلى آلِه وصَحْبِه أجمعين،،


============================

(1) تَشطيرُ الشِّعرِ: أن يُضيفَ إلى كلِّ شَطْرِ منه شَطرًا من عِندَه. ((معجم اللغة العربية المعاصرة)) (2/1199).
(2) المخمَّس من الشِّعر: ما كانتْ أنصافُ مُقفَّاه مختلفةً تَجمعُها قافيةٌ واحدةٌ بعد بَيتينِ أو ثلاثةٍ أو أكثرَ، وهو ما كانَ على خَمْسَةِ أجزاء. ينظر: ((الصحاح)) للجواهري (3/ 1134)، و((تاج العروس)) للزبيدي (16/ 28).
(3) المُسَبَّع من العَرُوض: مَا بُنيَ على سَبْعة أَجزَاء. ((المحكم والمحيط الأعظم)) لابن سيده (1/ 506).
(4) المُعارضة الشِّعريَّة: هي محاكاةُ قصيدةٍ لأُخرى موضوعًا ووزنًا، وهي عند البُلغاءِ عِبارةٌ عن قولِ شيءٍ مِثل كلامِ الغير، سواء كان له وزنُ الشِّعر أو القافية، أو الرَّديف أو الصَّنعة. ((كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم)) للتهانوي (2/ 1479).
(5) انظر: (المدائح النبويَّة) لمحمود علي مكي (ص: 119)، و(العمدة شرح البردة) للهيتمي (ص: 53).
(6) فاق عددُ شُروح البردة كثيرًا من كتُب السُّنة، كصحيح مسلم، والكتُب الأربعة، فضلًا عن غيرِها!
(7) انظر: (العمدة شرح البُردة) (ص: 41)، قال مُحقِّقه: (ولا يزال الناسُ يَتبرَّكون بها في أقطاب الأرض؛ فكم ظهَر لها من أثرٍ في إبراءِ المرضَى من الذين اعتقدوا شرَفَها، وقَدروها قدْرَها، فكانت سببًا في شِفائهم، ونيل الخيرات والبركاتِ في قراءتها)!
(8) انظر: (العمدة في إعراب البردة) لعبدالله جاجة (ص: 17)، و(المدائح النبويَّة في الأدب العربي) لزكي مبارك (ص: 142).
(9) انظر: (المدائح النبويَّة في الأدب العربي) (ص: 142).
(10) انظر: (دائرة المعارف الإسلامية) (3/528).
(11) انظر: (ديوان البوصيري لسيد كيلاني) (ص: 29).
(12) انظر (حاشية الباجوري على البردة) (ص: 4) وغيرها، وهذا ممَّا أَطبقت عليه كتُبهم، لكن منهم مَن يقول: لفَّه ببُردته، ومنهم مَن يقول: ألقاها عليه.
(13) انظر لذلك: مُقدِّمة (بردة المديح المباركة) (ص: 15)، و(العمدة في إعراب البردة) (ص: 19).
(14) من هؤلاء: علَّامة اليمن محمَّد بن علي الشوكاني في (الدُّر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد) (ص: 59)، وعلَّامة العراق محمود شكري الأُلوسي في (غاية الأماني في الرد على النبهاني) (2/349)، وكثير من المعاصِرين.
(15) انظر على سبيل المِثال: (بردة المديح المباركة) (ص: 9)، و(العمدة شرح البردة) (ص: 41).
(16) كان على صِلة بأبي الحسن الشاذليِّ صاحِب الطريقة المشهورة عند الصوفيَّة، ولَمَّا مات لازم تلميذَه ووارثَ طريقته أبا العباس المرسي؛ يقول مادحًا الشاذليَّ وطريقتَه- كما في (ديوانه) (ص: 105):
إنَّ الإمامَ الشاذليَّ طريقُه    في الفضلِ واضحةٌ لعين المهتدي
فانقُل ولو قَدَمًا على آثارِه    فإذا فَعلتَ فذاك آخِذ باليدِ
واسلكْ طريقَ مُحمَّدي شريعة    وحقيقةً ومُحمَّدي المحتدِ

ويقول مادحًا أبا العباس المرسي- كما في (ديوانه) (ص: 108):
فاصْحَبْ أبا العباس أحمدَ آخِذًا    يَدَ عارفٍ بوعي النُّفوسِ مُنجِّدِ
فإذا سَقطتَ على الخَبيرِ بدائِها     فاصبرْ لـمُرِّ دوائِه وتَجلَّدِ

(17) انظر: ((شذرات الذهب)) لابن العماد (5/432)، ((الوافي بالوفيات)) للصفدي (3/105)، ((فوات الوفيات)) للكتبي (3/362)، ((المقفى الكبير)) للمقريزي (5/661)، ((حسن المحاضرة)) للسيوطي (1/570).
(18) تُفاجأ وأنت تقرأ لبعض المعاصرين الألقابَ التي تُطلَق عليه من مِثل: الإمام، العالِم، العامِل....، وبالَغ الهيتميُّ في مُقدِّمة شرحه للهمزية (1/105) في مدحه، فقال: (الشيخُ الإمام، العارِف الكامِل! الهُمام، المحقِّق، البليغ، الأديب، المدقِّق، إمام الشُّعراء، وأشعرُ العُلماء، وبليغُ الفصحاء، وأفصحُ الحُكماء.....)!
وقال فيه الحسنُ بن محمد الفاسي - وهو من المعاصرين- عند ترجمته في ((طبقات الشاذليَّة الكبرى)) (ص99): (الإمام الرَّبَّاني، والعارف الصَّمداني، الأستاذ الفاضل، والملاذ الكامِل، شمس الملَّة، وبرهان الأمَّة، شيخ المحقِّقين، وملاذ أهل التَّمكين...بلغ رضِي الله عنه الغوثيةَ الكبرى، ودام له الاجتماعُ بالنبيِّ صلَّى الله عليه وسلم في اليقظة والمنام)!
(19) ذكَر ذلك المقريزيُّ في ((المقفى الكبير)) (5/664) عن اليعمري في ((مسالك الأبصار))، وقال أيضًا (5/669): وحُكي أنَّه كان قليلَ المعرفة بصناعة الكتابة.
(20) له قصيدةٌ طويلةٌ رائعة سمَّاها (المخرج والمردود على النَّصارى واليهود) تدلُّ على أنه كان خبيرًا بهم وبمعتقداتهم. انظر: ((ديوان البوصيري)) للطباع (ص: 158).
(21) انظر: ((ديوان البوصيري)) للطباع (ص: 226).
(22) التِّلِّيسة: وِعاءٌ يُسَوَّى من الخُوص شِبه القُفة، وَهِي القِنِّينَة الَّتِي تكون عِنْد العَصَّارين، وَيَقُول عَامَّةُ مصر للجوالق الضَّخم (تَليس) بِفَتْح التَّاء. ينظر: ((تهذيب اللغة)) للأزهري (12/ 267)، ((المعجم الوسيط)) (1/ 87).
(23) الكوانين: جمع (الكانون) وهو الموقد، والثَّقيل الوخم من النَّاس، والَّذي يجلس حتَّى يتَبَيَّن الأخبارَ والأحاديث؛ لينقلَها. ينظر: ((تهذيب اللغة)) للأزهري (9 / 335)، ((المعجم الوسيط)) (2/ 801).
(24) انظر: ((ديوان البوصيري)) (ص: 119)، انظر إلى استغاثته ببهاء الدين في البيت الأول وإلى غلوه في البيت الخامس.
(25) انظر: ((ديوان البوصيري)) (ص: 156).
(26) انظر: ((ديوان البوصيري)) (ص227)، وانظر الغلوَّ في البيت الثاني.
(27) بِلْبِيسُ- بكَسْرِ الباءين، وسكون اللام، ويقال: بُلْبَيْس بضم الباء الأولى وفتح الثانية-: مدينة بمِصر بالشَّرقِيَّة بينها وبين فُسطاط مصر عشرة فراسخ على طريق الشام، فتحت في سنة 18هـ أو 19هـ على يد عَمرِو بن العاص رضي الله عنه. ينظر: ((معجم البلدان)) لياقوت (1/ 479)، ((تاج العروس)) للزبيدي (15/ 466).
(28) انظر: ((ديوان البوصيري)) (ص: 149).
(29) انظر: ((ديوان البوصيري)) (ص115).
(30) انظر الصفحات: 81، 84، 112، 116، 120، 128، 140، 147، 150، 228، وغيرها من ((ديوان البوصيري)) للطباع.
(31) انظر: ((ديوان البوصيري)) (ص: 112)، وانظر الغلوَّ في البيت الأخير.
(32) انظر: ((ديوان البوصيري)) (ص: 117).
(33) هناك من أمور الغيبِ ما أَطْلعه الله على مَن ارتضاهم مِن رُسله، ومنهم نبيُّنا محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم، لكن البُوصيري يزعم أنَّ ما في اللوح المحفوظِ بعضٌ ممَّا عندَه صلَّى الله عليه وسلَّم، فقوله: (ومِن عُلومك) مِن هنا: للتبعيض؛ ولذلك يقول الهيتميُّ شارحًا هذا البيت: (ووجه كون عِلم اللَّوحِ المحفوظ من بَعضِ علومه صلَّى الله عليه وسلَّم: أنَّ الله أَطْلعه ليلةَ الإسراء على جميعِ ما في اللَّوح المحفوظ، وزاده عُلومًا أُخر كالأسرارِ المتعلِّقة بذاته سبحانه وتعالى وصِفاته)) انظر: ((العمدة شرح البردة)) (ص: 699).
ولَمَّا حارَ بعضُهم وأراد أن يخرُجَ من هذا المأزق أتَى بما يُضحك، فقال: (قال الشُّراح: المرادُ باللَّوح ما يَكتُب الناس عليه، وبالقَلَم: ما يَكتُبون به، فكأنَّه قال: ومِن عُلومك عِلْم الناس الذي يَكتُبونه بأقلامِهم في ألواحِهم). انظر: ((نحت حديد الباطل وبرده)) لداود النقشبندي (ص: 39)، ((البلسم المريح من شِفاء القلب الجريح)) لعمر كامل (ص: 14).
(34) انظر: ( المنح المكية شرح الهمزية للهيتمي) (1/146).
(35) انظر: ((العمدة شرح البردة)) للهيتمي (ص: 289).
(36) انظر: ((المنح المكيَّة شرح الهمزيَّة)) (2/652).
(37) انظر: ((العمدة شرح البردة)) (ص: 411-413).
(38) انظر: ((ديوان البوصيري)) (ص: 60).
(39) انظر: ((ديوان البوصيري)) (ص: 90)
(40) محاتد: جمع مَحْتِد، وهو: الأَصْل والطبعُ؛ يُقال: إِنَّه لكريم المحتِدِ، ورجعَ إلى مَحتدِه. ينظر: ((لسان العرب)) لابن منظور (3/ 139)، ((المعجم الوسيط)) (1/ 154).
(41) انظر: ((ديوان البوصيري)) (ص: 92)
(42) يُصْمِ: يَقْتُل، مِن أَصْمَى الصَّيدَ إذا رماه فقتَلَه وهو يراه.
أو يَصِمِ: يُعيب من الوَصْم، وهو العيبُ والعار. ينظر: ((الصحاح)) للجوهري (5/ 2052) (6/ 2404).
(43) انظر: ((ديوان البوصيري)) (ص: 103).