موسوعة الفرق

المَطلَبُ الثَّالثُ: إلغاءُ الثَّوابِ والعِقابِ وأنَّه لا فرقَ بَينَ الجَنَّةِ والنَّارِ ولا بَينَ الطَّائِعِ والعاصي


قال إسماعيلُ القادِريُّ في ذِكرِ ما أوحيَ إلى الشَّيخِ عَبدِ القادِرِ منَ الكَشفِ والإلهامِ منَ اللهِ تعالى، بزَعمِه: (ثمَّ قال لي: لا أُلفةَ ولا نِعمةَ في الجِنانِ بَعدَ ظُهوري فيها، ولا وَحشةَ ولا حُرقةَ في النَّارِ بَعدَ خِطابي لأهلِها) [989] يُنظر: ((الفيوضات الربانية)) (ص: 11). .
وكَيف لا يَكونُ في النَّارِ حُرقةٌ واللهُ تعالى يَقولُ لأهلِها: ‌اخْسَئُوا ‌فِيهَا ‌وَلَا ‌تُكَلِّمُونِ [المؤمنون: 108] ، ويقولُ اللهُ سُبحانَه: كَلَّا إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِلشَّوَى [المعارج: 15- 16] ، وقال اللهُ عزَّ وجَلَّ: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا [النساء: 56] ؟!
وهذا الذي يَزعُمونَه إلغاءٌ للعِقابِ والثَّوابِ لمَن يَستَحِقُّ أيًّا منهما، وإلغاءٌ لحِكمةِ اللهِ وعَدلِه وفضلِه.
قال القادِريُّ عنِ الشَّيخِ عَبدِ القادِرِ: (ثمَّ قال لي يَعني اللهَ سُبحانَه وتعالى: يا غَوثُ الأعظَمُ، ما بَعُدَ عنِّي أحَدٌ من أهل المَعاصي، وما قَرُبَ أحَدٌ منِّي من أهلِ الطَّاعاتِ، وأهلُ الطَّاعاتِ مَحجوبونَ بالطَّاعاتِ. بَشِّرِ المُذنِبينَ بالفضلِ والكَرَمِ، وأنا بَعيدٌ منَ المُطيعِ إذا فرَغَ منَ الطَّاعاتِ، ثمَّ قُلتُ: أيُّ عَمَلٍ أفضَلُ عِندَك؟ قال: العَمَلُ الذي ليس فيه سِوائي منَ الجَنَّةِ والنَّارِ، وصاحِبُه عنه غائِبٌ) [990] يُنظر: ((الفيوضات الربانية)) (ص: 12). .
وهذا مُخالفٌ لصَريحِ القُرآنِ الكَريمِ وما كان عليه الأنبياءُ عليهمُ السَّلامُ والذينَ هم أشَدُّ حُبًّا للَّهِ. كَما قال اللهُ تعالى في وَصفِهم: وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء: 90] . وقال سُبحانَه: قُلْ إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الأنعام: 15] ، وقال تبارك اسمُه: الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران: 16] ، وقال تعالى حاكيًا عن السَّحَرةِ الذين آمنوا بموسى: إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا [طه: 73] ، وأخبَرَنا سُبحانَه أنَّ من صِفاتِ عِبادِ الرَّحمَنِ أنَّهم يَقولونَ: رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا [الفرقان: 65] ، وقال سُبحانَه في وَصفِ المحسِنينَ: يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا [السجدة: 16] ، وكان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُدَندِنُ في صِلاتِه حَولَ طَلَبِ الجَنَّةِ والتَّعَوُّذِ منَ النَّارِ؛ فقد ورَدَ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال لرَجُلٍ: ((كَيف تَقولُ في الصَّلاةِ؟ قال: أتَشَهَّدُ ثمَّ أقولُ: اللَّهمَّ إنِّي أسألُك الجَنَّةَ وأعوذُ بك منَ النَّارِ، ولا أحسِنُ دَندَنَتَك ولا دَندَنةَ مُعاذٍ! قال: حَولَها نُدَندِنُ)) [991] أخرجه أبو داود (792)، وأحمد (15898) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ بعضِ أصحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. صحَّحه ابنُ حجر في ((نتائج الأفكار)) (2/226)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (792)، والوادعي على شرط الشيخين في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1461)، وصحَّح إسنادَه النووي في ((المجموع)) (3/471)، وشعيب الأرناؤوط على شرط الشيخين في تخريج ((مسند أحمد)) (15898). .
وقد بَيَّنَ ابنُ تيميَّةَ أنَّ هذا المُعتَقَدَ خِلافُ ما عليه الجيلانيُّ، فقال: (كان الشَّيخُ عَبدُ القادِرِ الجيلانيُّ ونَحوُه مِنَ المشائخِ المُستَقيمينَ يوصونَ في عامَّةِ كَلامِهم بهَذَينِ الأصلينِ: المُسارَعةِ إلى فِعلِ المَأمورِ، والتَّقاعُدِ عن فِعلِ المَحظورِ، والصَّبرِ والرِّضا بالأمرِ المَقدورِ. وذلك أنَّ هذا المَوضِعَ غَلِط فيه كَثيرٌ منَ العامَّةِ، بل ومنَ السَّالكينَ؛ فمنهم مَن يَشهَدُ القَدَرَ فقَط ويَشهَدُ الحَقيقةَ الكَونيَّةَ دونَ الدِّينيَّةِ، فيَرى أنَّ اللهَ خالِقُ كُلِّ شَيءٍ ورَبُّه، ولا يُفرِّقُ بَينَ ما يُحِبُّه اللهُ ويَرضاه وبَينَ ما يَسخَطُه ويُبغِضُه وإن قدَّرَه وقَضاه، ولا يُمَيِّزُ بَينَ تَوحيدِ الألوهيَّةِ وبَينَ تَوحيدِ الرُّبوبيَّةِ، فيَشهَدُ الجَمعَ الذي يَشتَرِكُ فيه جَميعُ المَخلوقاتِ سَعيدُها وشَقيُّها مَشهَدَ الجَمعِ الذي يَشتَرِكُ فيه المُؤمِنُ والكافِرُ والبَرُّ والفاجِرُ، والنَّبيُّ الصَّادِقُ والمُتَنَبِّئُ الكاذِبُ، وأهلُ الجَنَّةِ وأهلُ النَّارِ، وأولياءُ اللَّهِ وأعداؤُه، والمَلائِكةُ المُقَرَّبونَ والمَرَدةُ الشَّياطينُ) [992] ((دقائق التفسير)) (2/ 295). .
وقال أيضًا: (وأمَّا أئِمَّةُ الصُّوفيَّةِ والمَشايِخُ المَشهورونَ منَ القُدَماءِ: مِثلُ الجُنَيدِ بنِ مُحَمَّدٍ وأتباعِه ومِثلُ الشَّيخِ عَبدِ القادِرِ وأمثالِه، فهؤلاء من أعظَمِ النَّاسِ لُزومًا للأمرِ والنَّهيِ، وتَوصيةً باتِّباعِ ذلك وتَحذيرًا منَ المَشيِ مَعَ القدَرِ كَما مَشى أصحابُهم أولئك... والشَّيخُ عَبدُ القادِرِ كَلامُه كُلُّه يَدورُ على اتِّباعِ المَأمورِ، وتَركِ المَحظورِ والصَّبرِ على المَقدورِ، ولا يُثبِتُ طَريقًا تُخالفُ ذلك أصلًا لا هو ولا عامَّةُ المَشايِخِ المَقبولينَ عِندَ المُسلمينَ، ويُحَذِّرُ عن مُلاحَظةِ القَدَرِ المَحضِ بدونِ اتِّباعِ الأمرِ والنَّهيِ كَما أصابَ أولئك الصُّوفيَّةَ الذينَ شَهِدوا القَدَرَ وتَوحيدَ الرُّبوبيَّةِ وغابوا عنِ الفَرقِ الإلهيِّ الدِّينيِّ الشَّرعيِّ المُحَمَّديِّ الذي يُفرِّقُ بَين مَحبوبِ الحَقِّ ومكروهِه، ويُثبتُ أنَّه لا إلهَ إلَّا هو. وهذا من أعظَمِ ما تَجِبُ رِعايَتُه على أهلِ الإرادةِ والسُّلوكِ؛ فإنَّ كَثيرًا منَ المُتَأخِّرينَ زاغَ عنه فضَّل سَواءَ السَّبيلِ، وإنَّما يَعرِفُ هذا من تَوجَّه بقَلبِه وانكَشَفت له حَقائِقُ الأمورِ وصارَ يَشهَدُ الرُّبوبيَّةَ العامَّةَ والقيوميَّةَ الشَّامِلةَ، فإن لم يَكُنْ مَعَه نورُ الإيمانِ والقُرآنِ الذي يَحصُلُ به الفُرقانُ حتَّى يَشهَدَ الإلهيَّةَ التي تُمَيِّزُ بَينَ أهلِ التَّوحيدِ والشِّركِ وبَينَ ما يُحِبُّه اللهُ وما يُبغِضُه وبَينَ ما أمَرَ به الرَّسولُ وبَينَ ما نَهى عنه وإلَّا خَرَجَ عن دينِ الإسلامِ بحَسبِ خُروجِه عن هذا) [993] ((مجموع الفتاوى)) (8/ 369). .

انظر أيضا: