موسوعة الفرق

المَطلَبُ الأوَّلُ: عَقيدةُ الأحباشِ في اللهِ تعالى


عَقيدةُ الأحباشِ في اللهِ عَزَّ وجَلَّ عَقيدةٌ فاسِدةٌ مُتَناقِضةٌ ومُبايِنةٌ لعَقيدةِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ، وهي خَليطٌ من عَقائِدِ الفِرَقِ الضَّالَّةِ، وتَتَّضِحُ مَعالمُ الانحِرافِ والضَّلالِ لدَيهم في هذا الجانِبِ فيما يَأتي:
أوَّلًا: صِفاتُ اللهِ عَزَّ وجَلَّ
يَنفي الأحباشُ جَميعَ الصِّفاتِ التي وصَف اللهُ جَلَّ وعلا بها نَفسَه، ولا يُثبتونَ إلَّا ما تَتَخَيَّلُه عُقولُهمُ القاصِرةُ، زاعِمينَ أنَّهم برَدِّ هذه الصِّفاتِ الوارِدةِ في الكِتابِ والسُّنَّةِ يُنَزِّهونَ اللهَ تعالى، وهم يُكَفِّرون كُلَّ مَن يُثبِتُ هذه الصِّفاتِ للَّهِ، ويَتَّهِمونَه بأنَّه مُشَبِّهٌ ومُجَسِّمٌ.
وللأحباشِ طَريقةٌ عَجيبةٌ في نَفيِ صِفاتِ اللهِ جَلَّ وعلا -أو كما يَقولونَ: لتَنزيهِه- وذلك بمُقارَنَتِه بالمَخلوقِ، فيَقولونَ: المَخلوقُ له يَدٌ؛ فاللهُ مُنَزَّهٌ عنِ اليَدِ، والمَخلوقُ له قدَمٌ؛ فاللهُ مُنَزَّهٌ عنِ القدَمِ، والمَخلوقُ له عَينانِ؛ فاللهُ مُنَزَّهٌ عنِ العَينَينِ، ويَتَجاهَلونَ أنَّ اللهَ ليس كَمِثلِه شَيءٌ، وأنَّ صِفاتِه ليست كصِفاتِ المَخلوقينَ، فإثباتُ هذه الصِّفاتِ -كما يَليقُ بجَلاله- لا يَستَلزِمُ تَمثيلَه بمَخلوقاتِه.
وممَّا قالوه في هذا الشَّأنِ: (إذا قُلنا: إنَّ اللهَ مُستَوٍ على العَرشِ، فمَعنى ذلك أنَّ له أليتين) [878] لقاء مع نزار الحلبي في ((جريدة المسلمون)) (العدد: 407)، وورد في كتاب ((الدليل القويم)) للحبشي (ص: 36). !
ويَقومُ الأحباشُ بنَفيِ بَعضِ الصِّفاتِ عنِ اللهِ تعالى تفصيليًّا بطَريقةٍ بِدعيَّةٍ، ويُقارِنونَ ذاتَ اللهِ بذَواتِ المَخلوقينَ، فيَقولونَ: اللهُ ليس كالرَّجُلِ الضَّخمِ، اللَّه ليس كَذا وكَذا. والمَعلومُ أنَّ طَريقةَ القُرآنِ -في الغالِبِ- هي نَفيُ النَّقائِصِ عنِ اللهِ على وَجهِ الإجمالِ، وإثباتُ الكَمالِ للَّهِ على وجهِ التَّفصيلِ، بخِلافِ طَريقةِ أهلِ البدَعِ التي تَقومُ على النَّفيِ المُفصَّلِ والإثباتِ المُجمَلِ، وأيضًا: فهذا النَّفيُ المُفصَّلُ -والذي يُسَمِّيه الأحباشُ تنزيهًا- يُعتَبَرُ ذَمًّا وليس مدحًا؛ فلو قيل لرَجُلٍ: أنتَ لست سارقًا ولا زانيًا ولا كلبًا ولا قَذِرًا.. إلخ، ألَا يَغضَبُ هذا الرَّجُلُ ويَعتَبِرُ هذا التَّنزيهَ عن هذه النَّقائِصِ ذَمًّا؟ فكَيف بمَقامِ رَبِّ العالَمينَ؟! سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا [الإسراء: 43] . وقد أورَدَ اللهُ تعالى في كِتابِه العَظيمِ هذا النَّفيَ مجمَلًا، فقال:هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا[مريم: 65] ، وقال: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى: 11] ، وقال: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص: 3-4] .
ثانيًا :تَوحيدُ اللهِ جَلَّ وعلا
التَّوحيدُ عِندَ الأحباشِ هو تَوحيدُ الرُّبوبيَّةِ فقَط، وهو تَوحيدُ اللهِ تعالى بأفعالِه، كالاعتِقادِ بأنَّ اللهَ هو الخالقُ الرَّازِقُ. وقد تَأثَّروا في ذلك بالفلاسِفةِ والمُتَكَلِّمينَ، وهذا التَّوحيدُ آمَنَ به حتَّى مُشرِكو قُرَيشٍ، فقال اللهُ سُبحانَه:وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ [العنكبوت: 61] ، وقال اللهُ عزَّ وجَلَّ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ [العنكبوت: 63] ، ولكِنَّ هذا التَّوحيدَ لا يَنفعُهم؛ لأنَّه يَلزَمُ مَعَه الاعتِقادُ بتَوحيدِ الألوهيَّةِ، وهو تَوحيدُ اللهِ تعالى بأفعالِ العِبادِ، كالدُّعاءِ، والاستِغاثةِ، والاستِعانةِ، والاستِعاذةِ، والذَّبحِ والنَّذرِ، وغَيرِ ذلك من أنواعِ العِبادةِ.
والأحباشُ من أعظَمِ النَّاسِ نقضًا لتَوحيدِ الألوهيَّةِ؛ حَيثُ أباحوا الشِّركَ الأكبَرَ، كَدُعاءِ الأولياءِ، والأمواتِ، والاستِغاثةِ بهم.
وشَيخُهم عبدُ اللهِ الحَبَشيُّ يُعلِّمُ النَّاسَ الاستِغاثةَ والاستِعاذةَ بالأمواتِ، ويَزعُمُ أنَّهم يَخرُجونَ من قُبورِهم لكَشفِ كَربِ الدَّاعي، فقال: (ليس مُجَرَّدُ الاستِغاثةِ بغَيرِ اللهِ ولا الاستِعاذةِ بغَيرِ اللهِ يُعتَبَرُ شِركًا كما زَعَمَ بَعضُ النَّاسِ) [879] ((بغية الطالب)) (ص: 8)، ((صريح البيان)) (ص: 57، 58). .
وسُئِل عَمَّن يَستَغيثُ بالأمواتِ ويَدعوهم قائلًا: يا سَيِّدي بَدَوي أغِثْني، يا دُسوقي المَدَدَ، قال: يَجوزُ أن يَقولَ: أغِثني يا بَدَوي، ساعِدني يا بَدَوي، قيل له: لماذا يَقولُ: يا عَبدَ القادِرِ يا سَيِّدي بَدَوي، ولا يَقولُ: يا مُحَمَّدُ؟ قال: (ولو)، أي، ومَعَ ذلك فهو جائِزٌ.
قيل له: إنَّ الأرواحَ تَكونُ في بَرزَخٍ، فكيف يُستَغاثُ بهم وهم بَعيدونَ؟ فأجابَ: اللهُ تعالى يُكرِمُهم بأن يُسمِعَهم كلامًا بعيدًا وهم في قُبورِهم، فيَدعو لهذا الإنسانِ ويُنقِذُه، أحيانًا يَخرُجونَ من قُبورِهم فيَقضونَ حَوائِجَ المُستَغيثينَ بهم ثمَّ يَعودونَ إلى قُبورِهم. ثمَّ أخَذَ يُدافِعُ عن ذلك بشَتَّى الأحاديثِ الضَّعيفةِ والمَوضوعةِ [880] ((شريط خالد كنعان)) (الوجه الثاني). .
وقد صَرَّحَ الحَبَشيُّ بأنَّ اللهَ تعالى جَعل الأولياءَ أسبابًا لنا لنَدعوَهم ونَستَغيثَ بهم، وأنَّ ذلك يَجوزُ منَ الموحِّدِ ما دامَ يَعتَقِدُ أنَّ الضُّرَّ والنَّفعَ بيَدِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، فقال: (ليس مُجَرَّدُ الاستِعاذةِ بغَيرِ اللهِ تُعتَبَرُ شركًا، أمَّا إن كان يَعتَقِدُ أنَّ غَيرَ اللهِ يَنفعُ أو يَضُرُّ من دونِ اللهِ، فقد وقَعَ في الشِّركِ) [881] ((الدليل القويم)) (ص: 173)، ((صريح البيان)) (ص: 62)، ((المقالات السنية)) (ص: 46). .
وقد أجازَ الحَبَشيُّ التَّعَوُّذَ بغَيرِ اللهِ تعالى، كأن يَقولَ المُستَعيذُ (أعوِذُ بفُلانٍ) [882] ((الدليل القويم)) (ص: 173)، ((بغية الطالب)) (ص: 8)، ((صريح البيان)) (ص: 57 و62). ، ويدعو إلى التَّبَرُّكِ بالأحجارِ [883] ((صريح البيان)) (ص: 58)، ((إظهار العقيدة)) (ص: 244). ، فهذا الشِّركُ يُدخِلونَه ضِمنَ عَقائِدِ تَوحيدِهم.
إنَّ كُلَّ الآياتِ التي أنكَرَت على المُشرِكينَ دُعاءَهم لغَيرِ اللهِ تعالى اعتَبَرتها عِبادةً مَصروفةً لغَيرِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ وإن كانت بلا رُكوعٍ ولا سُجودٍ. دَليلُ ذلك: قَولُ إبراهيمَ عليه السَّلامُ لقَومِه: وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ [مريم: 48] ، ثمَّ عَقَّبَ اللهُ تعالى بحُكمِه على ذلك فقال: فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ [مريم: 49] .
وقال اللهُ سُبحانَه: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ [الأحقاف: 5] ، وهذه صِفاتٌ مُشتَرَكةٌ بَينَ الأصنامِ والقُبورِ.
وقال عن أصحابِ القُبورِ: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [الأعراف: 194] .
وهكذا صَرَف اللهُ قُلوبَ مُنكِري عُلوِّه في السَّماءِ إلى أسفَلِ سافِلينَ، فتَوجَّهوا بالدُّعاءِ إلى أعماقِ الأرضِ؛ إلى الحُفَرِ حَيثُ المَوتى! وصارَت آمالُهم مُعلَّقةً بالأرضِ هناك بَعدَما انتَكَسَت فِطَرُهم عنِ التَّوجُّهِ إلى اللهِ تعالى في السَّماءِ!
ثالثًا: زَعمُ الحَبَشيِّ أنَّ جِبريلَ هو الذي أنشَأ ألفاظَ القُرآنِ وليس اللَّهُ سُبحانَه
فالقُرآنُ ليس عِندَ الحَبَشيِّ كَلامَ اللَّهِ؛ لأنَّ اللهَ بزَعمِه مُنَزَّهٌ عنِ الكَلامِ، وإنَّما عَبَّرَ جِبريلُ عَمَّا يَجري في نَفسِ اللهِ، وصاغَه بألفاظٍ مِن عِندِه!
وقدِ احتَجَّ لذلك بقَولِ اللهِتعالى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ [الحاقة: 40] [884] ((إظهار العقيدة السنية)) (ص: 59). .
وكذلك قَولُ اللهِ سُبحانَه: فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ [القيامة: 18] [885] ((إظهار العقيدة السنية)) (ص: 58، 59). . والمَعنى عِندَه: اقرَأْ يا مُحَمَّدُ قُرآنَ جِبريلَ!
وأتباعُه يُكَرِّرونَ هذه الكَلمةَ عنِ القُرآنِ الكَريمِ: (عِبارةٌ عن كَلامِ اللَّهِ)، وليس كَلامَ اللَّهِ.
رابعًا: منَ الخَطَأِ عِندَ الحَبَشيِّ رَبطُ أفعالِ اللهِ تعالى بالحِكمةِ
مِثلُ أن يَقولَ: إنَّ اللهَ خَلَقَنا لحِكمةٍ، أي: أن يَنسُبَ إلى اللهِ التَّعليلَ في ذلك، والتَّعليلُ نَقصٌ على اللهِ في المَذهَبِ الأشعَريِّ، لا يَجوزُ وَصفُه به، ويَرى أنَّ مَن زَعَمَ أنَّ النَّارَ سَبَبُ الحَرقِ والسِّكِّينَ سَبَبُ الذَّبحِ، فهو مُشرِكٌ يَجعلُ مَعَ اللهِ فاعِلًا آخَرَ [886] يُنظر: ((الموسوعة الميسرة)) بإشراف الجهني (1/ 429)، وللاطلاع على مفصَّل اعتقادِ الحَبَشيِّ والأحباشِ في قضيَّةِ السَّبَبيَّةِ يُنظر: ((ضلالات الأحباش)) لسها دويكات (ص: 60- 64)، ((فرقة الأحباش)) للشهراني (ص: 767- 784). !
خامسًا: اللهُ عِندَ الحَبَشيِّ ليس على كُلِّ شَيءٍ قديرٌ:
قال الحَبَشيُّ في قَولِ اللهِ تعالى: إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة: 20] بأنَّ هذه الآيةَ (لا تَعني أنَّ اللهَ على كُلِّ شَيءٍ قديرٌ؛ لأنَّ كُلَّ لا تُفيدُ التَّعميمَ هنا، فيَصيرُ قادرًا على نَفسِه، وإنَّما المَعنى أنَّ اللهَ قادِرٌ على أكثَرِ الأشياءِ، وليس على كُلِّ شَيءٍ قديرٌ، ولأنَّ اللهَ غَيرُ قادِرٍ على الظُّلمِ؛ لأنَّ الظُّلمَ مُمتَنِعٌ على اللهِ) [887] ((إظهار العقيدة السنية)) (ص: 40). !
وقد صَرَّحَ أحَدُ أتباعِه (جَميل حَليم) بأنَّ اللهَ غَيرُ قادِرٍ على الظُّلمِ، فلو أرادَ أن يَظلمَ ما استَطاعَ، وأنَّ القَولَ بأنَّه قادِرٌ على الظُّلمِ، ولكِنَّه لا يَفعلُه، هو مُعتَقَدُ المُعتَزِلةِ، قال: (فإنَّ القُدرةَ على الظُّلمِ إنَّما تُتَصَوَّرُ منَ المَخلوقِ، وقد أجمَعَتِ الأمَّةُ الإسلاميَّةُ على تَكفيرِ مَن نَسَبَ القُدرةَ على الظُّلمِ إلى اللهِ، واتَّفقوا على كُفرِ مَن يَقولُ: اللهُ يَقدِرُ على الظُّلمِ ولكِن لا يَفعلُ) [888] ((مجلة منار الهدى)) (العدد: 23/ص: 29). .
وهذا يَتَعارَضُ مَعَ قَولِ اللهِ تعالى في الحَديثِ القُدسيِّ: ((يا عِبادي، إنِّي حَرَّمتُ الظُّلمَ على نَفسي)) [889] أخرجه مسلم (2577) من حديث أبي ذر رضي الله عنه ، فتَحريمُ الظُّلمِ على نَفسِه دَليلٌ قُدرَتِه عليه، ولو كان غَيرَ قادِرٍ عليه لما كان للتَّحريمِ مَعنًى.
قال ابنُ تيميَّةَ: (الأمرُ الذي لا يُمكِنُ القُدرةُ عليه لا يَصلُحُ أن يُمدَحَ المَمدوحُ بعَدَمِ إرادَتِه، وإنَّما يَكونُ المَدحُ بتَركِ الأفعالِ إذا كان المَمدوحُ قادِرًا عليها؛ فعُلمَ أنَّ اللهَ قادِرٌ على ما نَزَّهَ نَفسَه عنه منَ الظُّلمِ، وأنَّه لا يَفعلُه، وبذلك يَصِحُّ قَولُه: ((إنِّي حَرَّمتُ الظُّلمَ على نَفسي))، وأنَّ التَّحريمَ هو المَنعُ، وهذا لا يَجوزُ أن يَكونَ فيما هو مُمتَنِعٌ لذاتِه؛ فلا يَصلُحُ أن يُقالَ: حَرَّمتُ على نَفسي أو مَنَعتُ نَفسي مِن خَلقِ مِثلي، أو جَعْلِ المَخلوقاتِ خالقةً، ونَحوُ ذلك منَ المُحالاتِ. وأكثَرُ ما يُقالُ في تَأويلِ ذلك ما يَكونُ مَعناه: إنِّي أخبَرتُ عن نَفسي بأنَّ ما لا يَكونُ مَقدورًا لا يَكونُ منِّي. وهذا المَعنى ممَّا يَتَيَقَّنُ المُؤمنُ أنَّه ليس مُرادَ الرَّبِّ، وأنَّه يَجِبُ تَنزيهُ اللهِ ورَسولِه عن إرادةِ مِثلِ هذا المَعنى الذي لا يَليقُ الخِطابُ بمِثلِه؛ إذ هو مَعَ كَونِه شِبهَ التَّكريرِ وإيضاحِ الواضِحِ ليس فيه مَدحٌ ولا ثَناءٌ ولا ما يَستَفيدُه المُستَمِعُ؛ فعُلِم أنَّ الذي حَرَّمَه على نَفسِه هو أمرٌ مَقدورٌ عليه لكِنَّه لا يَفعلُه؛ لأنَّه حَرَّمَه على نَفسِه، وهو سُبحانَه مُنَزَّهٌ عن فِعلِه مُقدَّسٌ عنه. يُبَيِّنُ ذلك أنَّ ما قاله النَّاسُ في حُدودِ الظُّلمِ يَتَناولُ هذا دونَ ذلك، كقَولِ بَعضِهم: الظُّلمُ وضْعُ الشَّيءِ في غَيرِ مَوضِعِه، كقَولِهم: مَن أشبَهَ أباه فما ظَلمَ، أي: فما وضَعَ الشَّبَهَ غَيرَ مَوضِعِه، ومَعلومٌ أنَّ اللهَ سُبحانَه حَكَمٌ عَدلٌ لا يَضَعُ الأشياءَ إلَّا مَواضِعَها، ووَضعُها غَيرَ مَواضِعِها ليس مُمتَنِعًا لذاتِه، بل هو مُمكِنٌ لكِنَّه لا يَفعلُه؛ لأنَّه لا يُريدُه، بل يَكرَهُه ويُبغِضُه؛ إذ قد حَرَّمَه على نَفسِه. وكذلك مَن قال: الظُّلمُ إضرارُ غَيرِ مُستَحِقٍّ؛ فإنَّ اللهَ لا يُعاقِبُ أحَدًا بغَيرِ حَقٍّ. وكذلك مَن قال: هو نَقصُ الحَقِّ، وذَكرَ أنَّ أصلَه النَّقصُ، كقَولِه: كِلْتَا الجَنَّتَينِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا [الكهف: 33] . وأمَّا مَن قال: هو التَّصَرُّفُ في مِلكِ الغَيرِ فهذا ليس بمُطَّرِدٍ ولا مُنعَكِسٍ؛ فقد يَتَصَرَّفُ الإنسانُ في مِلكِ غَيرِه بحَقٍّ ولا يَكونُ ظالِمًا، وقد يَتَصَرَّفُ في مِلكِه بغَيرِ حَقٍّ فيَكونُ ظالِمًا، وظُلمُ العَبدِ نَفسَه كَثيرٌ في القُرآنِ. وكَذلك مَن قال: فِعلُ المَأمورِ خِلافَ ما أُمِر به، ونَحوُ ذلك، إن سُلِّمَ صِحَّةُ مِثلِ هذا الكَلامِ فاللَّهُ سُبحانَه قد كَتَبَ على نَفسِه الرَّحمةَ وحَرَّم على نَفسِه الظُّلمَ، فهو لا يَفعلُ خِلافَ ما كَتَبَ، ولا يَفعلُ ما حَرَّمَ) [890] يُنظر: ((النهج السليم)) (ص: 67). .
سادسًا: الحَبَشيُّ جَبريٌّ في مَفهومِ القَدَرِ
فيَزعُمُ أنَّ اللهَ تعالى هو الذي أعانَ الكافِرَ على كُفرِه، وأنَّه لولا اللهُ ما استَطاعَ الكافِرُ أن يَكفُرَ [891] ((مجموع الفتاوى)) (18/ 144،145). ، وهذا قَولٌ باضطِرارِ العَبدِ في فِعلِه على النَّحوِ الذي قالته الجَهميَّةُ، وقد أثنى على الرَّازِي لقَولِه بأنَّ العَبدَ مَجبورٌ في صورةِ مُختارٍ [892] يُنظر: ((إظهار العقيدة السنية)) (ص:196). ونص عبارة الرازيفي ((تفسيره)) (7/ 109) (15/ 411): (فالإنسان مضطر في ‌صورة ‌مختار). .
سابعًا: الحَبَشيُّ في مَسألةِ الإيمانِ منَ المُرجِئةِ الجَهميَّةِ
وهمُ الذينَ لا يُدخِلونَ العَمَلَ في مُسَمَّى الإيمانِ الواجِبِ [893] يُنظر: ((الدليل القويم)) (ص: 7)، ((بغية الطالب)) (ص: 51). ، فيَبقى الرَّجُلُبزَعمِه مؤمنًا وإن تَركَ الصَّلاةَ وغَيرَها منَ الأركانِ!
ثامنًا: الحَبَشيُّ يُقَلِّلُ من شَأنِ التَّحاكُمِ إلى الأحكامِ الوَضعيَّةِ المُناقِضةِ لحُكمِ اللهِ تعالى
وقد وصَف مَن لا يُريدونَ إقامةَ دَولةٍ تَحكُمُ بالإسلامِ وإنَّما يُريدونَ إقامةَ دَولةٍ علمانيَّةٍ بأنَّهم مُسلمونَ ومُؤمنونَ، وأنَّ المُسلمَ الذي لا يَحكُمُ بشَرعِ اللهِ وإنما يَتَحاكَمُ إلى الأحكامِ الوضعيَّةِ التي تَعارَفها النَّاسُ فيما بَينَهم؛ لكَونِها موافِقةً لأهواءِ النَّاسِ ومُتَداولةً بَينَ الدُّولِ، أنَّه لا يَجوزُ تَكفيرُه [894] يُنظر: ((بغية الطالب)) (ص: 305). ، وأنَّ (مَن لم يُحَكِّمْ شَرعَ اللهِ في نَفسِه فلا يُؤَدِّي شيئًا من فرائِضِ اللهِ ولا يَتَجَنَّبُ شيئًا منَ المُحَرَّماتِ، ولكِنَّه قال ولو مَرَّةً في العُمُرِ: لا إلهَ إلَّا اللَّهُ، فهذا مُسلِمٌ مُؤمنٌ. ويُقالُ له أيضًا مُؤمِنٌ مُذنِبٌ) [895] ((الدليل القويم)) (ص: 9، 10)، ((بغية الطالب)) (ص: 51). .
ويَرى أنَّ هذه الآيةَ: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة: 44] خاصَّةٌ باليهودِ [896] يُنظر: ((النهج السوي)) (ص: 16). أمَّا المُسلمُ فلا يَكفُرُ إلَّا إذا جَحَدَ حُكمَ اللهِ تعالى.

انظر أيضا: