موسوعة التفسير

سُورَةُ البَقَرَةِ
الآيات (8-20)

ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ

غريب الكلمات:

يُخَادِعُونَ: أي: يُظهِرون غير ما في نُفوسهم. وأصل الإخداع: إخفاء الشَّيء [180] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 528)، ، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/161)، ((المفردات)) للراغب (ص: 276)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 50). ويُنظر: ((الفتاوى الكبرى)) لابن تَيميَّة (6/19). .
مَرَضٌ: أي: شكٌّ ونفاق، وأصلُ المرض: الفُتور، والخروج عن الاعتدال الخاصِّ بالإنسان [181] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 408)، ((المفردات)) للراغب (ص: 765)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 14)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 50). .
السُّفَهَاءُ: أي: الجهلة، وأصل السَّفه: الْجَهْل، والخفَّة في البَدن والعقل، والضَّعْف والحُمق، واستُعمل في خِفَّة النفس؛ لنُقصان العقل [182] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 41)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 273)، ((المفردات)) للراغب (ص: 414)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 51). .
شَيَاطِينِهِمْ: رؤوسهم فى الكفر ومردتهم، جمْع شيطان، وهو كلُّ عاتٍ متمرِّد من الجنِّ والإنسِ والدواب، وأصلُه من: شَطَن، إذا تباعد؛ وذلك لبعده عن رحمة الله أو الخير، وقيل: أصله مِن شَاطَ إذا احترَق [183] يُنظر:  ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/184) (3/234)، ((المفردات)) للراغب (ص: 454)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 51). .
طُغْيَانِهِمْ: عُتُوِّهِم وتكبُّرهم، أو غيهم وكُفْرهم، وأصل الطُّغيان: مجاوزة الحدِّ [184] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 41)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 321)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 52). .
يَعمهون: يتَحيَّرون ويجورون عَن الطَّرِيق؛ فأصل العَمَهِ: التردُّد في الأمْر من التحيُّر [185] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 41)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 321)، ((المفردات)) للراغب (ص: 588)  ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 14) ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 52). .
صُمٌّ: الصَّمَمُ: فقدانُ حاسَّة السَّمع، وبه يُوصَف مَن لا يُصغِي إلى الحقِّ ولا يَقبله، وأصله: الصَّلَابة، وقيل: السدُّ [186] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3 /277)، ((المفردات)) للراغب (ص: 492)، ((التبيان)) لابن الهائم (1 /53). .
بُكْمٌ: جمع أَبْكَم، وهو الذي يُولَد أخرس؛ فكلُّ أبكمَ أخرسُ، وليس كلُّ أخرس أبكمَ، والبَكَم: آفة في اللِّسان مانعةٌ من الكلام [187] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 128)،  ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/284)، ((المفردات)) للراغب (ص: 140)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 15)،  ((التبيان)) لابن الهائم (1 /53). .
كصَيِّبٍ: أي مطر، مأخوذٌ من الصَّوب، وأصل الصَّوْب: النُّزُولُ؛ سمِّي به المطر لأنَّه ينزل من السَّماء [188] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 295)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/318)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 54). .
الصَّوَاعِق: جمْع صاعِقة، وهي النَّار التي تنزل من السَّماء عندَ اشتداد الرَّعد، وقيل: الصَّوت الشديد من الجوِّ، والوَقعُ الشَّديدُ منَ الرَّعْدِ، أو كلُّ عذاب مُهلك (الموت، والعذاب، والنار)، ومنه: صَعق، إذا مات، وأصل صعق: يدلُّ على شِدَّة الصَّوت [189] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 49)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/285)، ((المفردات)) للراغب (ص: 484-485)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 55)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 543). .
يَخْطَفُ: يختلس بسرعة، أو يأخذ الشيء بسرعة [190] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 42)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/196)، ((المفردات)) للراغب (ص: 286)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 56). .

المعنى الإجمالي:

يُخبر الله عزَّ وجلَّ في هذه الآيات عن صِنف من الناس، يدَّعون بألسنتهم أنَّهم مؤمنون بالله، وبالبعث يومَ القِيامة، وهم مع ذلِك غيرُ مقرِّين بالإيمان حقيقةً بقلوبهم، وهم بفِعلهم هذا يَقصِدون مخادعةَ الله والذين آمنوا بادعاء الإيمان لأنفسهم، وإخفاءِ كُفرِهم، لكن بيَّن الله سبحانه أنَّ ما يقومون به ما هو إلَّا خديعة لأنفسهم، وذلك بِخذلان الله لهم في الدَّارينِ، وهم لا يحسُّون بأنَّهم هم المخدوعون.
في قلوب هؤلاء الصِّنف شكٌّ ونفاق، فزادهم الله شكًّا إلى شكِّهم، ونِفاقًا إلى نفاقهم، ولهم مع ذلك عذاب موجِع؛ جزاءً لكذبهم وإظهارِهم غيرَ الحقيقة، ولتكذيبهم لله تعالى ولرسولِه صلَّى الله عليه وسلَّمَ.
وإذا قيل لهؤلاء المنافقين: لا تُفسدوا في الأرض بالمعاصي، والنِّفاق والكُفر، واتِّخاذ الكافرين أولياءَ، قالوا: ما نقومُ به هو الإصلاح! وكذَبوا في ذلك، بل هم بعيدون عن الإصلاح، بكُفرهم ومعاصيهم، ومع هذا لا يدرون أنَّ ما يقومون به هو فسادٌ في الحقيقة.
وإذا قيل لهؤلاء المنافقين: آمنوا بمحمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، وبما جاء به من ربِّه، كما آمن به أصحابُه رضي الله عنهم، قالوا أنؤمن كما آمن ضعفاء الرأي والعقولِ، ونفعل كما فعلوا؟!- يقصدون بذلك أصحابَ محمَّد عليه الصَّلاة والسَّلام- فأخبرهم الله تعالى أنَّهم هم ضعفاءُ العقول والرأي؛ فهم السُّفهاء في واقِع الأمر، ومع ذلك لا يعلمون بحقيقةِ سفههم.
وإذا لقِي هؤلاء المنافقون المؤمنين أخبروهم- كذبًا- أنَّهم مؤمِنون أيضًا، وإذا انصرفوا إلى رُؤسائهم من سادات الكفَّار والمشركين، والمنافقين، وكانوا معهم في خَلوة، قالوا لهم: إنَّا ما زلنا معكم على دِينكم، إنما نحن ساخِرون بالمؤمنين حين نقول لهم: آمنَّا بالله وباليوم الآخِر.
ثمَّ أخبر الله سبحانه أنَّه يَستهزئ بهم؛ مقابلةً لاستهزائِهم بالمؤمنين، وذلك بأن يُجري عليهم ما على المؤمنين من الأحكام الظاهِرة، كعصمة دِمائهم وأموالهم، ثم في الآخِرة يَلقَون جزاءَهم الأليم وحْدَهم، بأن يُلقَوا في الدَّرك الأسفل من النار، فكان هذا استهزاءً بهم، ويُملي الله لهؤلاء المنافقين بأنْ يتركَهم في عُتوِّهم وتمرُّدهم بالكُفر، يتردَّدون حيارَى ضُلَّالًا، لا يجدون سبيلًا للخروج ممَّا هم فيه.
هؤلاء الصِّنف من البَشر هم الذين أخذوا الضَّلالة وترَكوا الهدى، فخسِروا وما كانوا راشدين بفِعلهم هذا.
مثَل هؤلاء المنافقين في إيمانهم ثمَّ كُفرهم بعد أن تبيَّن لهم الحق، كمَثَل مَن أوقد نارًا؛ لتضيءَ له، وينتفع بها، فلمَّا أنارتِ النارُ ما حول المستوقِد، فأبصر ما ينفعُه وما يضرُّه، خمَدت النار، وانطفأ النور، فذهب عنهم ما ينفعهم، وهو النور، وبقي ما يضرُّهم وهو الإحراقُ والدُّخَان، هؤلاء المنافقون صمٌّ لا يَسمعون هُدًى، وبكمٌّ لا ينطِقون به، وعميٌ لا يُبصرونه بقلوبهم؛ فهم لذلك لا يعودون إلى الهُدى الذي باعوه بالضَّلالة.
وضرَب الله مثلًا آخَر لصنف آخر من المنافقين، وهو كصاحب مطرٍ منحدرٍ من السَّماء، فيه ظلماتٌ- هي ظلمة اللَّيل، وظلمة السَّحاب، وظلمة المطر- ورَعْد وبَرْق، كلَّما سمعوا صوت صاعقة، غطوا آذانهم بأصابعهم، يتَّقون بذلك سماعَ أصوات الصَّواعق المدوية، حذرًا من أن تصيبَهم فيموتوا، والله محيطٌ بهم قُدرةً وعلمًا؛ فلا يُعجِزونه، ولا يُغني عنهم حذرُهم شيئًا، يوشك البرقُ لشدَّة لمعانه وضعف أبصارهم، أن يَذهب بها فيُعميَها، كلَّما ظهرَ لهم نورُ البرق مشَوْا خُطوات، فإذا أظلم ما حولهم بتوقُّف البرق وقَفوا، ولو أراد الله لأخَذَ أسماعهم وأبصارهم، والله ذو قُدرةٍ بالغة على كلِّ شيء؛ فلا يُعجزه أمر أبدًا.
والمراد بهذا المثَل أنَّ المنافقين إذا سمِعوا القرآن، وتُليت عليهم تكاليفُه ووعيدُه، وما فيه، اتَّقَوا سماع آياته؛ خوفًا من أن يحلَّ بهم الوعيد، وإشفاقًا من عقوبة نِفاقهم، سواء في الدُّنيا أو في الآخِرة، ولن ينفعهم اتقاؤُهم؛ فالله سبحانه محيطٌ بهم قدرةً وعلمًا، يوشك شدَّةُ نور القرآن بما تضمَّنه من البراهين القويَّة أن يرى معه هؤلاء المنافقون الحقَّ واضحًا، لكن لضعف بصائرهم لا يَستفيدون من ذلك النور، ومع ذلك كلَّما أضاء لهم نورُ الحقِّ، أو لَمَع في قلوبهم، مشَوا على ضوئه خطواتٍ قليلةً في سبيل الانقياد للحقِّ، لكن لا يمكُث ذلك الحقُّ في قلوبهم التي أظلمتْ بالشُّبهات والشكوك القوية أن يَخفِت فتعود لظُلمتها، فيقِفوا حائرين، ثم توعَّدهم الله بإذهاب أسماعهم وأبصارهم؛ عقوبةً لهم على نفاقهم وكُفرهم، والله ذو قُدرة بالغةٍ على كلِّ شيء.

تفسير الآيات:

وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ(8).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لما تقدَّم وصفُ المؤمنين في بداية السورة بأربع آيات، ثم عرَّف الله تعالى حال الكافرين بآيتيْن، شرع سبحانه في بيان حال المنافقين الذين يُظهرون الإيمان ويُبطنون الكفر، ولما كان أمرهم يشتبه على كثيرٍ من الناس؛ أطنب في ذكرهم بصفاتٍ متعددة، كُلٌّ منها نفاق [191] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (1/176). فقال تعالى:
وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ.
أي: إنَّ المنافقين يقولون بألسنتهم: آمنَّا بالله، وبالبعث يومَ القيامة، قولًا مجرَّدًا ليس معه إيمانٌ حقيقيٌّ [192] قال ابنُ جَرير: (أجمَع جميعُ أهل التأويل على أنَّ هذه الآية نزلتْ في قوم من أهل النِّفاق، وأنَّ هذه الصِّفةَ صفتُهم) ((تفسير ابن جرير)) (1/275)، ويُنظر (1/278-279) منه، ((تفسير ابن كثير)) (1/176-177). .
وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ.
أي: ليسوا بمقرِّين بحقيقةِ الإيمان بقلوبِهم [193] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/279)، ((تفسير ابن كثير)) (1/177). .
كما قال تعالى: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ [المنافقون: 1] .
يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ (9).
يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا
بإظهارِهم الإيمانَ، وإبطانهم الكفرَ [194] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/279)، ((تفسير ابن كثير)) (1/177). .
كما قال سبحانه: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ [المجادلة: 18] .
وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ.
القراءات ذات الأثر في التفسير:
في قوله تعالى: وَمَا يَخْدَعُونَ قراءتان:
1- (وما يُخَادِعُون) قيل: على معنى أنَّ الخِداع وقع من اثنين، فهو واقعٌ منهم وإليهم؛ إذ خدَعوا أنفسهم، وأنفسهم خدَعتْهم [195] قرأ بها: نافع، وابن كثير، وأبو عمرو. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/207). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 87)، ((تفسير أبي حيَّان))(1/93). .
2- (وَمَا يَخْدَعُونَ) قيل: على معنى أنَّ الخداع وقع من طرفٍ واحد، فهو واقعٌ منهم على أنفسهم [196] قرأ بها: الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/207). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 87)، ((تفسير أبي حيان)) (1/93). .
وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ.
أي: إنَّ هؤلاء المنافقين مخدُوعون في الحقيقة بصَنيعهم الذي يَحسَبون أنهم يخادعون به ربَّهم والمؤمنين، وذلك بخِذلان الله تعالى لهم في الدُّنيا والآخِرة، وهم مع ذلك لا يَدرُون بأنَّهم مخدوعون [197] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/280-286)، ((تفسير ابن كثير)) (1/177). .
كما قال تعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ [النساء: 142] [198] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 211). .
فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10).
فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا.
في قلوبهم شكٌّ ونفاق؛ فزادهم اللهُ تعالى شكًّا ونفاقًا.
فالجزاءُ من جِنس العمل، كما قال تعالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [الصف: 5] [199] نقل الإجماع على أن المراد بالمرض هنا: الشك: ابن جرير، في ((تفسيره)) (1/286-287)، والواحدي في ((التفسير الوسيط)) (1/87). ويُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (1/179)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1/42). .
وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ.
القراءات ذات الأثر في التفسير:
في قوله تعالى: يَكْذِبُونَ قِراءتان:
1- (يَكْذِبُون) بالتَّخفيف، أي: إنهَّم كاذبون في قولهم: آمَنَّا بالله وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ [200] قرأ بها: عاصم، وحمزة، والكسائيُّ. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/207). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص:88)، ((الكشف)) لمكي (1/228). .
2- (يُكَذِّبُون) بالتَّشديد ، أي: يكذِّبون النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ والقرآن مرَّةً بعد مرَّة، ومن كذَّب بذلك، فقد كَذَب [201] قَرَأَ بها: الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/207). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((الحجة في القراءات السبع)) لابن خالويه (ص: 68-69)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص:88)، ((الكشف)) لمكي (1/228). .
وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ.
أي: لهم عذابٌ مؤلِم، أي: موجِع؛ بسبب كذَبِهم في دعواهمُ الإيمانَ، وبسبب تكذيبهم لله تعالى ورسولِه عليه الصَّلاة والسَّلام [202] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/291-293)، ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (7/182)، ((تفسير ابن كثير)) (1/179). .
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11).
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ.
أي: إذا قيل للمنافقين: لا تفسدوا في الأرض، بمعصية الله تعالى، وبالنِّفاق والكفر، واتِّخاذ الكافرين أولياء، والصَّدِّ عن سبيل الله، والتعويقِ عن طاعتِه وطاعةِ رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم، والإرجافِ... إلى غير ذلك [203] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/298-299)، ((تفسير ابن كثير)) (1/181). .
قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ.
يدَّعون أنَّ ما يفعلونه من الفَساد، إصلاحٌ [204] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/300)، ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (7/84)، ((تفسير ابن كثير)) (1/181). .
أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لَّا يَشْعُرُونَ (12).
أي: هم المخالِفون في الحقيقة أمرَ الله عزَّ وجلَّ بالكُفر والمعاصي، ولكن لا يَدْرُون ولا يَفطنون إلى أنَّ ما يفعلونه هو فسادٌ في الحقيقة [205] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/301)، ((تفسير ابن كثير)) (1/181)، ((تفسير السعدي)) (ص: 43). .
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَـكِن لَّا يَعْلَمُونَ (13).
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ.
أي: إذا قِيل للمنافقين: آمنوا بمحمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، وبما جاءَ به من عند الله عزَّ وجلَّ، كما آمن أصحابُ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، وكلُّ مَن آمن به [206] حكى الواحديُّ إجماع المفسِّرين على أن المراد بالنَّاس فِي هذه الآية أصحابُ محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّمَ والذين آمنوا به. يُنظر: ((التفسير الوسيط)) (1/89). .
قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ.
أي: يقولون: أنؤمِنُ كما آمَن ذوو الجهل وضعف الرأي وقلة المعرفة بالمصالح والمفاسد- يعنون الصحابة رضوان الله تعالى عليهم- فنكون نحن وإيَّاهم على طريقةٍ واحدة [207] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/302-305)، ((تفسير ابن كثير)) (1/182). ؟!
أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَـكِن لَّا يَعْلَمُونَ.
أي: هُم السُّفهاء في الحقيقة، فليست لديهم معرفةٌ صحيحةٌ لإقامة نفعٍ حقيقي؛ حيث يُفسِدون في الأرض، ويظنُّون أنَّ ذلك هو عينُ الإصلاح، وهذا هو السَّفَه [208] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/304-305)، ((تفسير ابن كثير)) (1/181-182). .
وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ (14).
وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا.
أي: إذا لقِي المنافقون المؤمنين، أظْهَروا لهم الإيمانَ نفاقًا [209] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/306-311)، ((تفسير ابن كثير)) (1/182). .
وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ.
أي: إذا انصَرفوا إلى رُؤسائهم، من سادات الكفَّار والمشركين والمنافقين، خالِين بهم [210] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/306)، ((منهاج السنة النبوية)) لابن تَيميَّة (5/188)، ((تفسير ابن كثير)) (1/182-183)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (2/144). .
قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ.
أي: نحن معكم على دِينكم، ومِن ذلك التكذيبُ بمحمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، ومعاداتُه، ومعاداةُ أتباعه، والسُّخريةُ بهم بقولهم لهم: آمَنَّا بالله وَبِاليَومِ الآخِرِ) [211] حكى ابنُ جَرير الإجماع على أنَّ معنى قوله: إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ إنَّما نحن ساخِرون. ((تفسير ابن جرير)) (1/311). ويُنظر: ((التفسير الوسيط)) للواحدي (ص: 90)، ((الفتاوى الكبرى)) لابن تَيميَّة (6/260)، ((تفسير السعدي)) (ص: 43)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1/54). .
اللهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15).
اللهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ.
أي: إنَّ الله تعالى أجْرى لهم ما للمؤمنين من الأحكام الظاهِرة، كعِصمة دِمائهم وأموالهم، لكنَّه سبحانه يُميِّز بينهم وبين المؤمنين في الآخِرة، ويُلقي بهم في الدَّرك الأسفل من النار، فكان ذلك استهزاءً بهم [212] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/315-316)، ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (20/471)، ((تفسير ابن كثير)) (1/183-184)، ((تفسير السعدي)) (ص: 43)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (1/13)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/26). .
وهذا من الله سبحانه مقابلة لهم على استهزائهم بالمؤمنين؛ فالجزاء من جنس العمل.
كما قال تعالى: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [التوبة: 79] .
وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ.
أي: يَزيدهم على وجه الإملاءِ، والتَّرْك لهم في عتوِّهم وتمرُّدهم بالكُفر، يتردَّدون حيارَى ضُلَّالًا، لا يجدون إلى المخرَج من ذلك سبيلًا [213] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/319-323)، ((تفسير ابن عطية)) (1/97)، ((تفسير القرطبي)) (1/209)، ((تفسير ابن كثير)) (1/185)، ((تفسير السعدي)) (ص: 43). وممَّن فسَّر قوله تعالى: (يمدُّهم) بـِ يَزيدهم: أبو العالية. يُنظر: ((تفسير ابن أبي حاتم)) (1/48). وممَّن فسَّر طُغيانهم بكفرِهم: ابن عبَّاس، والسُّدي. يُنظر: ((تفسير ابن أبي حاتم)) (1/49). وممَّن فسر يَعمهون بـِ يتردَّدون: ابن عبَّاس، ومجاهد، وأبو مالك، وأبو العالية، والرَّبيع بن أنس. يُنظر: ((تفسير ابن أبي حاتم)) (1/49). .
أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16).
أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى.
أي: استعاضوا بالضَّلالة عن الهُدَى [214] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/329)، ((تفسير ابن كثير)) (1/185-186). .
فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ.
أي: خسِر المنافقون بأخْذهم الضَّلالةَ، وتركِهم الهُدى؛ وما كانوا راشدين بصَنيعهم هذا [215] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/330)، ((تفسير ابن كثير)) (1/186). .
ثم ضرب الله لهم مثلًا يصوِّر حالهم، فقال:
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَّا يُبْصِرُونَ (17).
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً.
أي: مثَل المنافقين الذين آمَنوا أو أظهروا الإيمان ثم كفَروا، كمثَل مَن أوقَد نارًا؛ لتضيءَ له، وينتفعَ بها، والمراد بذلك تشبيههم بأنَّهم آمنوا أو أظهروا الإيمان [216] يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (7/276)، ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (1/151)، ((تفسير ابن كثير)) (1/186)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/307)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1/70). وممَّن ذهَب إلى نحو هذا القول من السَّلف: مجاهد، وأبو العالية، والرَّبيع بن أنس، وعبد الرحمن ابن زيد. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/340) ((تفسير ابن أبي حاتم)) (1/50). .
فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ.
أي: أنارتِ النارُ ما حولَ المستوقِد، فأبصر بها ما ينفعُه ويَضرُّه [217] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/342)، ((تفسير ابن كثير)) (1/186). ، والمراد بذلك أنَّهم أبصَروا الحقَّ [218] وهذا اختيار ابن القيم في ((إعلام الموقعين)) (1/151)، وابن كثير في ((تفسيره)) (1/186-188)، وابن عثيمين في ((تفسير الفاتحة والبقرة)) (1/65). ، أو أنهم انتفعوا بها انتفاعًا مؤقَّتًا، حيثُ حقنوا دماءَهم، وأحرزوا أموالَهم [219] وهذا اختيارُ ابن جرير في ((تفسيره)) (1/342)، والواحدي في ((التفسير الوسيط)) (1/93-94). .
ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ.
أي: خمَدت النار، وانطفأ النور، فذهب عنهم ما يَنفعُهم وهو النور، وبقِي لهم ما يضرُّهم وهو الإحراقُ والدُّخَان؛ ذلك بأنَّهم كفروا بعد إيمانهم، فبقِيت في قلوبهم حرارةُ الكفرِ والشُّكوكِ [220] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/342)، ((الوابل الصيب)) لابن القيم (ص: 72)، ((تفسير ابن كثير)) (1/187)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/308). .
وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَّا يُبْصِرُونَ.
أي: بقُوا في عِدَّة ظلمات، منها: ظُلمة اللَّيل، والظُّلمة الحاصِلة بعد فقْد النور، وهي أشدُّ من الظُّلمة الأُولى، والمراد: ما أصْبَحوا فيه من ظُلمات الكُفر، والشُّكوك، والنِّفاق [221] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (1/187)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1/63). وممَّن رُوي عنه هذا القول من السَّلف: ابن عبَّاس في إحدى الرِّوايات عنه، والسُّدِّي، والضحَّاك. يُنظر: ((تفسير ابن أبي حاتم)) (1/52)، ((تفسير ابن كثير)) (1/189). .
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18).
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ.
أي: لا يَسمعون هُدًى، ولا يَنطِقون به، ولا يُبصرونَه بقلوبِهم [222] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/347)، ((تفسير ابن كثير)) (1/187، 189). .
كما قال تعالى: فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج: 46] .
وقال سُبحانه: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ [المنافقون: 3] .
فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ.
أي: لا يَعودُون إلى الهُدى الذي باعوه بالضَّلالة [223] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/348)، ((اجتماع الجيوش الإسلامية)) لابن القيم (ص: 21، 24)، ((تفسير ابن كثير)) (1/187). وممَّن ذهب إلى هذا القول من السَّلف: ابن مسعود، وابن عبَّاس في إحدى الرِّوايات عنه، وغيرهما من أصحاب رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ، و قتادة، والرَّبيع بن أنس والسُّدي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/349)، ((تفسير ابن أبي حاتم)) (1/53). .
ثم ضرب الله لهم مثلًا آخرَ، فقال:
أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (19).
أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء.
أَوْ هنا للتنويع، فبعض المنافقين يشبه المثل الأول، وبعضهم يشبه هذا المثل الثاني، فضربه الله تعالى هاهنا لصنفٍ آخر من المنافقين [224] ذهب ابن تيمية في ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (7/276)، وابن كثير في ((تفسيره)) (1/189)، وابن عثيمين في ((تفسير القرآن الكريم.الفاتحة-البقرة)) (1/66)، إلى أن أو هنا للتنويع، أي أن بعض المنافقين يشبه المثل الأول، وبعضهم يشبه المثل الثاني.  قال ابن كثير: (وذهب ابن جرير الطبري ومن تبعه من كثير من المفسرين أن هذين المثلين مضروبان لصنف واحد من المنافقين وتكون «أو» في قوله تعالى: أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء بمعنى الواو، كقوله تعالى: وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا [الإنسان: 24] ، أو تكون للتخبير، أي: اضرب لهم مثلًا بهذا وإن شئت بهذا، قاله القرطبي. أو للتساوي مثل جالس الحسن أو ابن سيرين، على ما وجهه الزمخشري: أن كلًّا منهما مساو للآخر في إباحة الجلوس إليه، ويكون معناه على قوله: سواء ضربت لهم مثلًا بهذا أو بهذا فهو مطابقٌ لحالهم) ((تفسير ابن كثير)) (1/194). يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/354-356)، ((تفسير الزمخشري)) (1/81)، ((تفسير القرطبي)) (1/215). .
والمرادُ بالصيِّب: القرآنُ الذي نزَل من عند الله تعالى، والذي يُظهر المنافقون بألسنتِهم إيمانَهم به [225] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/369)، ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (7/276)، ((الوابل الصيب)) لابن القيم (ص: 72)، ((تفسير ابن كثير)) (1/189). .
فِيهِ ظُلُمَاتٌ.
هي ظُلمة اللَّيل، وظُلمة السَّحاب، وظُلمة المطر، والمرادُ: ما عليه المنافقون من الشكِّ، والكُفر، والنِّفاق [226] يُنظر: ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/94)، ((تفسير ابن كثير)) (1/190)، ((تفسير ابن عُثيمين- الفاتحة والبقرة)) (1/66). ويُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/354، 374)، ((تفسير ابن عطية)) (1/101)، ((تفسير السعدي)) (ص: 44). .
وَرَعْدٌ.
المراد به: وعيدُ القرآن وزواجره، وأوامِره ونواهيه [227] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/374)، ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (1/117)، ((تفسير ابن كثير)) (1/190). .
فهُم منها في حالِ خوفٍ وفزعٍ شديد، كقوله تعالى: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ [المنافقون: 4]، وقال: وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ [التوبة: 56-57] .
وَبَرْقٌ.
المراد به: حُججُ القرآن وبراهينه التي تُبهرهم [228] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/373)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/96)، ((تفسير ابن عطية)) (1/102)، ((تفسير ابن كثير)) (1/190)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/317)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1/67). .
يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ.
الصَّوَاعِقِ.
المرادُ بها: آياتُ القرآن التي تتضمَّن التكاليفَ الشرعيَّة، والوعيدَ، وغيرَه [229] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/375-376)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/96)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 94)، ((تفسير القرطبي)) (1/219)، ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (1/151). .
يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ.
أي: يضعون أصابعَهم في آذانِهم؛ كي يتَّقوا سماعَ أصوات الصَّواعق، والمرادُ: أنَّهم يتَّقون سماعَ زواجر القُرآن الكريمِ ووعيده [230] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/375-376)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 94)، ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (1/151). .
حَذَرَ الْمَوْتِ.
أي: حذرًا من حلول الوعيد الذي توعَّدهم اللهُ به في القُرآن، وإشفاقًا من حلول عُقوبةِ الله بهم على نِفاقِهم؛ إمَّا عاجلًا في الدُّنيا، وإمَّا آجلًا في الآخِرة [231] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/376-378). .
واللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ.
أي: محيطٌ بهم قدرةً وعلمًا، فلا يُعجِزونه، ولا يُغني عنهم حذرُهم شيئًا [232] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (1/190)، ((تفسير السعدي)) (ص: 44)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة))  (1/69). .
يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاء اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20).
يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ.
أي: يوشك البَرقُ من شِدَّة لَمَعانه، وقوَّة ضيائه -مع ضَعْف أبصارهم- أنْ يذهب بها فيُعميها، والمرادُ: أنَّ شِدَّة نور القرآن- بما يحويه من حُججٍ وبراهينَ ساطعة، يرَون معها الحقَّ واضحًا جدًّا- لا تتحمَّله بصائرُهم الضَّعيفة [233] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/378-379)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/97)، ((تفسير ابن عطية)) (1/104)، ((تفسير ابن كثير)) (1/190)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/319)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (1/16). .
كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا.
أي: إذا ظهر لهم نورُ الحقِّ، ولَمَع في قلوبِهم مشَوْا على ضوئِه، وخطَوا خُطواتٍ يسيرةً، لكنَّه لا يستقرُّ في قلوبهم المظلِمة بالشُّبهات والشكوك القويَّة، فلا يلبَث أن ينطفِئ، فيقفون حائرين! عائدين إلى تَكذيبهم، فهُم في هذه الحال في شكٍّ وتردُّد [234] يُنظر: ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/97)، ((تفسير ابن عطية)) (1/104)، ((الوابل الصيب)) (ص: 72)، ((تفسير ابن كثير)) (1/190). !
وَلَوْ شَاء اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ.
هذا تهديدٌ ووعيدٌ لهم بإذهاب أسماعِهم وأبصارهم؛ عقوبةً لهم على نِفاقهم وكُفرهم [235] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/381)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/97)، ((تفسير السعدي)) (ص: 44). .
إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
أي: ذو قُدرةٍ على إيقاع ما أوعد به هذا الصِّنفَ من المنافقين، فلْيحذروا نِقمةَ الله وعذابَه عاجلًا أو آجلًا؛ فإنَّه سبحانه وتعالى لا يُعجزه شيءٌ أبدًا [236] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/384)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/97)، ((تفسير القرطبي)) (1/224)، ((تفسير السعدي)) (ص: 44). .

الفَوائِد التربويَّة:

1- أنَّ مجرد القول باللِّسان لا ينفع الإنسانَ، فلا بدَّ أن يتطابق القلبُ، واللِّسان على الإيمان؛ لقوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ. فهنا نفَى اللهُ عنهم الإيمانَ، فدلَّ على أنَّ حقيقة الإيمان ليس مجرد الإقرار باللسان [237] يُنظر: ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/86)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1/39). .
2- التحفُّظ من المنافقين فقد قال تعالى عنهم: يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ (9)؛ لأنَّه إذا قيل لك: (فلان يخدع) فإنَّك تزداد تحفظًا منه، وأنَّه ينبغي للمؤمن أن يكون يقظًا حذِرًا؛ فلا ينخدع بمِثل هؤلاء [238] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1/41). .
3- أنَّ المكر السيِّئ لا يحيق إلَّا بأهله؛ فالمنافقون يُخادعون الله، ويظنُّون أنَّهم قد نجحوا، أو غلَبوا، ولكن في الحقيقة أنَّ الخداع عائدٌ عليهم؛ لقوله تعالى: وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ، فالحصر هنا يدلُّ على أنَّ خداعهم هذا لا يضرُّ الله تعالى شيئًا، ولا رسولَه، ولا المؤمنين [239] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1/41). .
4- أن الإنسان إذا لم يكن له إقبال على الحق، وكان قلبه مريضًا فإنه يعاقب بزيادة المرض؛ لقوله تعالى: فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا [240] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1/44). .
5- أنَّ أسبابَ إضلال الله العبدَ هي من العبد؛ لقوله تعالى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللهُ مَرَضًا [241] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1/44). .
6- أنَّ من أعظم البلوى أن يُزَيَّن للإنسان الفسادُ، حتى يَرى أنَّه إصلاح؛ لقولهم: إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ [242] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1/48). .
7- أنَّه ليس كلُّ مَن ادَّعى شيئًا يُصدَّق في دعواه؛ لأنَّهم قالوا: إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ، فقال الله تعالى: أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ، وليس كل ما زيَّنته النفس يكون حسنًا، كما قال تعالى: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [فاطر: 8] [243] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1/48). .
8- العمل السيِّئ قد يُعمي البصيرة؛ فلا يَشعُر الإنسان بالأمور الظاهِرة؛ لقوله تعالى: وَمَا يَشْعُرُونَ [244] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1/41). .
9- أن يُذكرَ للمدعوِّ، من استجاب من الناس للحقِّ؛ ليكون ذلك مشجِّعًا له على قَبوله، لقوله تعالى: آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ [245] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1/49). .
10- أنَّ الإنسان قد يظنُّ أنه أحسنَ عملًا وهو قد أساء؛ لأنَّ هؤلاء اشترَوُا الضلالة بالهدى؛ ظنًّا منهم أنَّهم على صواب، وأنهم رابِحون؛ فقال الله تعالى: فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ [246] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1/60). .
11- أنَّ للإيمان نورًا، وله تأثيرٌ حتى في قلب المنافق؛ لقوله تعالى: فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ [247] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1/65). .
12- أنَّه ينبغي للإنسان أن يسألَ اللهَ عزَّ وجلَّ أن يُمتِّعه بسَمْعه، وبصره؛ لقوله تعالى: وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ [248] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1/71). .

الفوائد العلميَّة واللَّطائف:

1- قال السَّعديُّ في قوله تعالى: وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ: (هذا من العجائب؛ لأنَّ المخادع، إمَّا أن ينتج خداعه ويحصُل له ما يريد، أو يسلم، لا له ولا عليه، وهؤلاء عاد خداعُهم عليهم، وكأنَّهم يعملون ما يعملون من المكر لإهلاكِ أنفسِهم، وإضرارها وكيدها؛ لأنَّ الله تعالى لا يتضرَّر بخداعهم شيئًا، وعباده المؤمنون لا يضرُّهم كيدُهم شيئًا، فلا يضرُّ المؤمنين أنْ أظهر المنافقون الإيمان، فسلمتْ بذلك أموالُهم، وحُقِنت دماؤهم، وصار كيدُهم في نحورهم، وحصَل لهم بذلك الخزيُ والفضيحة في الدُّنيا، والحزن المستمرُّ؛ بسبب ما يحصُل للمؤمنين من القوَّة والنصرة، ثم في الآخِرة لهم العذاب الأليم الموجع المفجِع؛ بسبب كذبِهم وكفرِهم وفجورِهم، والحال أنَّهم مِن جهلهم وحماقتهم لا يشعرون بذلك) [249] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 42). .
2- أنَّ الحِكمة كلَّ الحِكمة إنَّما هي الإيمانُ بالله تعالى، واتِّباع شريعته؛ فإنَّ كلَّ من لم يؤمن بالله وخالف شريعته فهو سفيهٌ، فيقتضي أنَّ ضدَّه يكون حَكيمًا رشيدًا؛ وذلك لقوله تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ [250] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1/51). .
3- في قوله تعالى: اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ إثباتُ صِفة الاستهزاء لله تعالى، وهي صفةٌ فعليَّة خبريَّة، ثابتةٌ لله عزَّ وجلَّ، على وجه المقابَلَة والجزاء؛ لذا فهي صفة كمالٍ له سبحانه [251] يُنظر: ((الحجة)) لقوام السنة الأصفهاني (١/١٦٨)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (٧/١١١)، ((مختصر الصواعق لابن القيم)) (٢/٣٤).
4- تأمَّل قوله تعالى: أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ، كيف جعَل ضوءها خارجًا عنه منفصلًا، ولو اتَّصل ضوءُها به ولابَسه لم يذهب، ولكنه كان ضوءَ مجاورة لا ملابسة ومخالطة، وكان الضوء عارضًا، والظلمة أصليَّة، فرجع الضوء إلى معدِنه، وبقيت الظلمةُ في معدنها، فرجع كلٌّ منهما إلى أصله اللائق به، حُجَّة من الله قائمة، وحِكمة بالغة، تَعرَّف بها إلى أُولي الألباب من عبادِه [252] يُنظر: ((اجتماع الجيوش الإسلامية)) لابن القيم (ص: 21). .
5- تأمَّل كيف قال الله تعالى: ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ فوحَّده، ثم قال: وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ فجمَعها؛ فإنَّ الحق واحد، وهو صراط الله المستقيم، الذي لا صراطَ يُوصل إليه سواه، وهو عبادته وحْدَه لا شريك له، بما شَرَعه على لسان رسولِه، لا بالأهواء والبِدع وطرقِ الخارجين عمَّا بعث الله به رسوله من الهُدى ودِين الحقِّ، بخِلاف طرق الباطل؛ فإنَّها متعدِّدة متشعِّبة، ولهذا يُفرد سبحانه الحقَّ ويَجمع الباطلَ، كقوله تعالى: اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [البقرة: 257] [253] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (1/120)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (ص: 22). .
6- قيل: خصَّ جلَّ ذِكرُه السمعَ والأبصار بأنَّه لو شاء أذهبها من المنافقين دون سائر أعضاء أجسامِهم؛ للذي جرى من ذِكرها في الآيتين، أي: قوله: يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ [البقرة: 19] ، وقوله: يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ [البقرة: 20] ، فجرَى ذِكرها في هاتين الآيتين على وجه المَثَل [254] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/381). .

بلاغة الآيات:

1- في قوله تعالى حِكايةً عن المنافقين: إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ صيغة قصر، من قصْر الموصوف على الصِّفة، وهو مفيد للحصر كالنفي والاستثناء، كأنهم قالوا: إنَّ شأننا ليس إلَّا الإصلاح، وإنَّ حالنا متمحِّضة عن شوائب الفساد [255] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (1/62)، ((تفسير البيضاوي)) (1/46)، ((البرهان)) للزركشي (4/231)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/285). .
2- في قوله: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ تأكيدٌ على فَسادِهم، وردٌّ بليغ على ما ادَّعوه في قولهم: إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ حيث قصروا أنفسهم على هذا الوصف، فجاء الرد بليغًا؛ فبدأ بجُملة استئنافيَّة اسميَّة؛ للدَّلالة على الثُّبوت، وافتتحها بـألَا التي تُفيد التنبيه إلى تحقُّق ما بعدها، وإنَّ التي للتأكيد وتقرير النسبة، وأتى بضمير الفصل هُمُ، ثم تعريف الخبَر الْمُفْسِدُونَ؛ لردِّ ما في قصْر أنفسهم على الإصلاح من التعريض بالمؤمنين. ومثلها في التَّأكيد قوله: ألَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفهاء [256] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (1/44)، ((دليل البلاغة القرآنية)) للدبل (ص: 31). .
- ويحتمل هُمُ أن يكون تأكيدًا للضمير في إِنَّهُمْ وإن كان فصلًا [257] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (1/108). .
3- في قوله تعالى حِكايةً عن المنافقين: أَنُؤْمِنُ استفهام في معنى الإنكار، أو الاستهزاء [258] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (1/64)، ((تفسير أبي حيان)) (1/111)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/287)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (1/36). ، والغرَضُ منه: قصْد التبري من الإيمان على أبلغِ وجْهٍ [259] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (1/287). .
4- قوله: لا يَشْعُرُونَ ولا يَعْلَمُونَ فيه تغايرٌ في الفواصل، وهو من محاسنِ البلاغة، وله أسرارٌ عجيبة تظهر بتأمُّل السِّياق، وهنا لمَّا كان النِّفاق- وما فيه من بغي وفسادٍ يؤدِّي إلى اشتجار الفتنة- أمرًا دنيويًّا مبنيًّا على العادات، وهو معلوم عند الناس، بل بمنزلة المحسوس عندهم- قال فيه: لا يَشْعُرُونَ. ولَمَّا ذَكَر السَّفه في الآية الثانية، وهو جهلٌ مطبِق كان ذِكرُ العلم أكثرَ ملاءمةً، فقال: لا يَعْلَمُونَ [260] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (1/36). .  فالفرق بين قوله تعالى هنا: وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ، وقوله تعالى فيما سبَق: وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ: أنَّ الإفساد في الأرض أمرٌ حِسيٌّ يدركه الإنسان بإحساسه وشعورِه، وأمَّا السَّفه فأمْر معنويٌّ يُدرَك بآثاره، ولا يُحسُّ به نفسه؛ فنفَى اللهُ تعالى العِلمَ عن المنافقين؛ لكونهم سفهاءَ، بكلمة يَعْلَمُونَ دون يَشْعُرُونَ؛ لأنَّ اتِّصافهم بالسَّفه ليس ممَّا شأنه الخفاء، حتى يكون العلمُ به شعورًا، ويكون الجهل به نفيَ شعور، بل هو وصفٌ ظاهِر لا يَخفَى [261] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (1/288)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1/49). .
5- في قوله: وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ تأكيدٌ شديدٌ على عدم إيمانهم؛ حيث عدَل عن الفِعل- فلم يقل: (وما آمنوا)- إلى الاسم؛ لإِخراج ذواتهم من عِداد المؤمنين، وأكَّده بالباء؛ للمبالغة في نفْي الإِيمان عنهم. وتسلُّط النفيِ على اسم الفاعل- الذي ليس مُقيدًا بزمان؛ ليشملَ النفيُ جميعَ الأزمان [262] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (1/44)، ((تفسير أبي حيان)) (1/90)، ((تفسير أبي السعود)) (1/40). .
6- قوله: آمنَّا إِنَّا مَعَكُمْ فيه مفارقةٌ بين الجُمَل؛ حيث خاطَبوا المؤمنين بالجملة الفِعليَّة آمَنا، وخاطَبوا شياطينَهم بالجملة الاسميَّة إنَّا مَعَكُمْ؛ والجملة الاسميَّة أثبتُ من الجملة الفعليَّة؛ فدلَّ أن إيمانهم قصير المدى لا يَعْدو تحريكَ اللِّسان، أو مدةَ التقائهم بالمؤمنين، وأنَّ رُكونهم إلى شياطينهم دائمٌ ومستمر التجدُّد، وهو أعلقُ بنفوسهم، وأكثر ارتباطًا بما رسَخ فيها [263] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (1/39). .
7- قوله: اللهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ أتى بالفِعل المضارع (يستهزئ)، ولم يقل: (مستهزئ) المطابق لقولهم: إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ؛ ليُفيد حدوث الاستهزاء وتجدُّده وقتًا بعد وقت، وهكذا كانتْ نكايات الله فيهم، وبلاياه النازِلة بهم [264] يُنظر: ((تفسير الزمخشري - مع حاشية ابن المنير)) (1/67)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/293)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (1/40). .
8- (أولاء) في قوله: أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُا اسم إشارة، والمشار إليه المنافقون، وجاءتِ الإشارة بصيغة البُعد؛ لبُعد منزلة المنافِق سفولًا [265] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1/60). .
9- قوله: نارًا جاءت مُنكَّرة؛ للتعظيم والتهويل [266] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (1/75). .
10- قوله: فَلَمَّا أَضَاءتْ.. ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ فيه مراعاةُ النَّظير، وهو التناسُب والائتلاف، حيث جمَع بين أمرٍ وما يُناسِبه؛ إذ قال: بِنُورِهِمْ ولم يقل: بضوئهم مقابلَ أضاءتْ؛ لأنَّ ذِكْر النور أبلغُ؛ لأنَّ الضوءَ فيه دَلالةٌ على النِّور وزِيادة (وهو الحرارة والإحراق) كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا [يونس: 5] ، فلو قيل هنا: (ذهَب الله بضوئهم)، لأوهم الذَّهاب بالزِّيادة وبقاءَ ما يُسمَّى نورًا، والغرَض إزالة النُّور عنهم رأسًا، وطَمْسه أصلًا، وليس إزالةَ الضوء الذي هو زائدٌ عن النور؛ فأذهب النور وبَقِيت الزِّيادة (الحرارة والإحراق) [267] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (1/74)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (1/45). .
والإتيان بحرف الجر الباء أفاد أنَّه لم يبقَ مَطمعٌ في عودة ذلك النور إليهم بالكلية، وهذا مِن أسمى ما يصِلُ إليه البيان [268] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (1/45). .
- وأيضًا ففيه سرٌّ بديع، وهو انقطاعُ سرِّ تلك المعية الخاصَّة التي هي للمؤمنين من الله تعالى؛ فإنَّ الله تعالى مع المؤمنين، وإنَّ الله مع الصابرين، وإنَّ الله مع الذين اتَّقوا والذين هم مُحسِنون؛ فذَهاب الله بذلك النورِ انقطاعٌ لمعيَّته التي خصَّ بها أولياءَه، فقطعها بينه وبين المنافقين، فلم يبقَ عِندهم- بعد ذَهاب نورِهم- ولا معهم، فليس لهم نصيبٌ من قوله: لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا [التوبة: 40] ، ولا مِن: كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء: 62] [269] يُنظر: ((تفسير القاسمي)) (1/261). .
11- قوله: أَوْ كَصَيِّبٍ تنكير (صيِّب) للتعظيم، وإشارة إلى أنَّه نوعٌ من المطر، شديد هائل، كما نُكرت النَّار في التمثيل الأوَّل [270] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (1/78، 82). .
12- وفي الآيات: حُسن تقسيم؛ لأنَّ الله سبحانه وتعالى ابتدأ هذه السُّورة بالمؤمنين الخُلَّص، ثم الكفَّار الخلَّص، ثم بالمنافقين؛ وذلك لأنَّ التقسيم ممَّا يزيد الإنسانَ معرفةً وفَهمًا، وهو من بلاغة القرآن [271] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1/39). .
13- وفيها من محاسن البلاغَة: ضرْبُ الأمثال المحسوسات للأمور المعقولاتِ [272] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1/64). .