موسوعة الفرق

المَبحَثُ الثَّاني: التَّأثُّرُ بالفِكرِ اليونانيِّ


مِن أهَمِّ العَوامِلِ التي أدَّت إلى انحِرافِ الصُّوفيَّةِ العَقَديِّ: تَأثُّرُهم بالفِكرِ اليونانيِّ.
ومِمَّا يَدُلُّ على تَأثُّرِ المُتَصَوِّفةِ بأفكارِ الفلاسِفةِ اليونانيِّينَ -كأفلاطونَ وأرِسطوطاليسَ- ثَناءُ بَعضِ المُتَصَوِّفةِ على هؤلاء الفلاسِفةِ، وتَمجيدُهم ووصفُهم بالطُّهرِ، والثَّناءُ على طَريقَتِهم بوَصفِهم لَها بأنَّها مِن أحسَنِ الطُّرُقِ التي يَنبَغي اتِّباعُها لتَطهيرِ النُّفوسِ وصَفائِها!
قال عَبدُ الكَريمِ الجيليُّ: (ولقدِ اجتَمَعتُ بأفلاطونَ الذي يَعُدُّونَه أهلُ الظَّاهِرِ كافِرًا فرَأيتُه وقد مَلَأ العالَمَ الغَيبيَّ نورًا وبَهجةً، ورَأيتُ له مَكانةً لَم أرَها إلَّا لآحادٍ مِنَ الأولياءِ، فقُلتُ له: مَن أنتَ؟ قال: قُطبُ الزَّمانِ وواحِدُ الأوانِ، ولَكَم رَأينا مِن عَجائِبَ وغَرائِبَ مِثلَ هذا، ليس مِن شَرطِها أن تُغشى، وقد رَمَزْنا لَك في هذا البابِ أسرارًا كَثيرةً ما كان يَسَعُنا أن نَتَكَلَّمَ فيها بغَيرِ هذا اللِّسانِ؛ فألْقِ القِشرةَ مِنَ الخِطابِ، وخُذِ اللُّبَّ إن كُنتَ مِن أولي الألبابِ) [369] ((الإنسان الكامل)) (2/ 52 53). .
وقد ذَكَرَ في مَكانٍ آخَرَ مِن كِتابِه أنَّ أرِسطو تِلميذَ أفلاطونَ لَزِمَ خِدمةَ الخَضِرِ واستَفادَ مِنه عُلومًا جَمَّةً، وكان مِن تَلامِذَتِه [370] يُنظر: ((الإنسان الكامل)) (2/ 117). .
كما أثبَتَ بَعضُ الذينَ كَتَبوا عَنِ التَّصَوُّفِ تَأثُّرَ المُتَصَوِّفةِ بالفِكرِ اليونانيِّ في قَضايا اعتِقاديَّةٍ وسُلوكيَّةٍ.
قال ابنُ تيميَّةَ: (هؤلاء أئِمَّةُ النُّظَّارِ المُتَفلسِفةِ وصوفيَّتُهم وشيعَتُهم كان مِن أسبابِ تَسَلُّطِهم وظُهورِهم هو بِدَعُ أهلِ البدَعِ مِنَ الجَهميَّةِ المُعتَزِلةِ والرَّافِضةِ ومَن نَحا نَحوَهم في بَعضِ الأُصولِ الفاسِدةِ؛ فإنَّ هؤلاء اشتَرَكوا هم وأولئك المَلاحِدةُ في أُصولٍ فاسِدةٍ يَجعَلونَها قَضايا عَقليَّةً صادِقةً، وهيَ باطِلةٌ كاذِبةٌ مُخالِفةٌ للشَّرعِ والعَقلِ) [371] ((الرد على المنطقيين)) (ص: 523). .
ومِنَ المُتَصَوِّفةِ الذينَ أكَّدوا تَأثُّر بَعضِ الصُّوفيَّةِ بالأفكارِ اليونانيَّة: المنوفيُّ الصُّوفيُّ المِصريُّ؛ فقد قال: (وأمَّا وَحدةُ الوُجودِ الحُلوليَّةُ التي تَجعَلُ منَ اللهِ شَيئًا كائِنًا يَحُلُّ في مَخلوقاتِه، أوِ الاتِّحاديَّةُ بالمَعنى المَفهومِ: خَطَأٌ؛ تلك تَجعَلُ منَ الكائِنِ الفاني شَخصيَّةً تَتَّحِدُ بالوُجودِ الدَّائِمِ الباقي المُنَزَّهِ عن سائِرِ النِّسَبِ والإضافاتِ والأحيازِ الزَّمانيَّةِ والمَكانيَّةِ المُحدَثةِ، أو يَتَّحِدُ به شَيءٌ منها؛ فإنَّها مَذهَبٌ هِنديٌّ أو مَسيحيٌّ، وليس بإسلاميٍّ ولا يَعرِفُه الإسلامُ، استَمَدَّه أهلُ الشُّذوذِ في التَّصَوُّفِ الإسلاميِّ منَ الفلسَفةِ البائِدةِ، وغَذَّوا به ذِهنَهمُ الشَّاذَّ بفِكَرٍ أفلاطونيَّةٍ وآراءٍ بوذيَّةٍ وفارِسيَّةٍ عن طَريقِ الفارابيِّ وابنِ سينا، وإنَّ المُتَتَبِّعَ لحَياةِ الحَلَّاجِ ومُؤَلَّفاتِ السُّهرَوَرديِّ وابنِ عَرَبيٍّ يَرى أنَّهم تَأثَّروا بالمُتَفلسِفةِ المُسلمينَ الذينَ أخَذوا عنِ الفلسَفةِ الأفلاطونيَّةِ القديمةِ والأفلاطونيَّةِ الحَديثةِ والأَرِسْطوطالسيَّةِ) [372] ((جمهرة الأولياء)) للمنوفي (1/ 292). ويُنظر له أيضًا: (1/ 276). .
وقال عَبدُ الرَّحمَنِ بدَوي في حَديثِه عَنِ الأثَرِ اليونانيِّ في التَّصَوُّفِ تَحتَ عُنوانِ: "أرثولوجيَّةُ أرِسطوطاليسَ": (وهو -كما تَعلَمُ- فُصولٌ ومُقتَطَفاتٌ مُنتَزَعةٌ مِنَ التَّاسوعاتِ الأفلاطونيَّةِ، وفيه نَظَريَّةُ الفَيضِ والواحِدِ التي ستَلعَبُ دَورًا خَطيرًا في التَّصَوُّفِ الإسلاميِّ خُصوصًا عِندَ السُّهرَوَرديِّ المَقتولِ، وابنِ عَرَبيٍّ، وفيه أيضًا نَظَريَّةُ الكَلِمةِ). ثُمَّ قال عَبدُ الرَّحمَنِ بدَوي: (ولا شَكَّ في تَأثُّرِ الصُّوفيَّةِ المُسلمينَ ابتِداءً مِنَ القَرنِ الخامِسِ الهجريِّ بما في "أرثولوجيَّة" مِن آراءٍ، وإنَّما الخِلافُ هنا هو في: هل وصَلَ تَأثيرُه إلى التَّصَوُّفِ الإسلاميِّ مُباشَرةً، أو عَن طَريقِ كُتُبِ الإسماعيليَّةِ، وكُلُّها حافِلةٌ بالتَّأثُّرِ به؟ ويَتلوه في الأهَمِّيَّةِ الكُتُبُ المَنسوبةُ إلى هِرْمِسَ، وشَخصيَّتُه بارِزةُ التَّأثيرِ عِندَ السُّهرَوَرديِّ المَقتولِ وابنِ عَرَبيٍّ، والأوَّلُ خُصوصًا في فِكرةِ الطِّباعِ التَّامِّ الذي تَأثَّرَ بها كُلُّ الإشراقيِّينَ بَعدَ السُّهرَوَرديِّ، والطِّباعُ التَّامُّ هو "النُّور"، ويُسَمَّى أيضًا الرُّوحانيَّةَ والطَّبيعةَ الكَريمةَ. ومِنَ النُّصوصِ المُهمَّةِ المَنسوبةِ إلى هِرمِسَ رِسالةٌ في معاذلةِ النَّفسِ التي نَشَرْناها في كِتابِنا الأفلاطونيَّةِ المُحدَثةِ عِندَ العَرَبِ؛ فهي مُناجَياتٌ للنَّفسِ وتَحليلٌ لها، وتَأنيبٌ للنَّفسِ الأمَّارةِ ودَعوةٌ للنَّفسِ مِن أجلِ التَّطَهُّرِ والتَّقدُّسِ، ومِنَ السَّهلِ أن نَجِدَ أصداءً لها ومَشابِهَ في مُناجَياتِ الصُّوفيَّةِ المُسلمينَ، ثُمَّ إنَّ هناكَ فُصولًا مَنحولةً لأفلاطونَ وسُقراطَ وغَيرِهما مِنَ الفلاسِفةِ اليونانيِّينَ مُعظَمُها آدابٌ وأقوالٌ، وكُلُّها تَتَشابَهُ في بَعضِ آرائِها مَعَ الأقوالِ المَنسوبةِ إلى كِبارِ الصُّوفيَّةِ المُسلمينَ في كُتُبِ طَبَقاتِ الصُّوفيَّةِ المُختَلِفةِ، كالقُشَيريِّ، والسلميِّ، والشَّعرانيِّ، والهَرَويِّ، والعَطَّارِ، والجاميِّ، وغَيرِهم) [373] ((تاريخ التصوف)) (41، 42). .
وقال أبو الوفاءِ الغُنَيميُّ التَّفتازانيُّ: (نَحنُ لا نُنكِرُ الأثَرَ اليونانيَّ على التَّصَوُّفِ الإسلاميِّ؛ فقد وصَلَتِ الفلسَفةُ اليونانيَّةُ عامَّةً والأفلاطونيَّةُ المُحدَثةُ خاصَّةً إلى صوفيَّةِ الإسلامِ عَن طَريقِ التَّرجَمةِ والنَّقلِ، أوِ الاختِلاطِ مَعَ رُهبانِ النَّصارى في الرُّها وحَرَّانَ، وقد خَضَعَ المُسلمونَ لسُلطانِ أرِسطو، وإن كانوا قد عَرَفوا فلسَفةَ أرِسطو على أنَّها فلسَفةٌ إشراقيَّةٌ؛ لأنَّ عَبدَ المَسيحِ بنَ ناعِمةَ الحِمصيَّ حينَما تَرجَمَ الكِتابَ المَعروفَ بـ "أرثولوجيَّةِ أرِسطوطاليسَ" قدَّمَه إلى المُسلِمينَ على أنَّه لأَرِسطو على أنَّه مُقتَطَفاتٌ مِن تاسوعاتِ أفلاطونَ، وليس مِن شَكٍّ في أنَّ فلسَفةَ أفلوطينَ السَّكَندَريِّ التي تَعتَبرُ أنَّ المَعرِفةَ مُدرَكةٌ بالمُشاهَدةِ في حالِ الغَيبةِ عَنِ النَّفسِ وعَنِ العالَمِ المَحسوسِ كان لَها أثَرُها في التَّصَوُّفِ الإسلاميِّ فيما نَجِدُه مِن كَلامِ مُتفَلسِفي الصُّوفيَّةِ عَنِ المَعرِفةِ، وكذلك كان لنَظَريَّةِ أفلوطينَ السَّكَندَريِّ في الفَيضِ وتَرتيبِ المَوجوداتِ عَنِ الواحِدِ والأوَّلِ أثَرُها على الصُّوفيَّةِ المُتَفلسِفينَ مِن أصحابِ الوَحدةِ، كالسُّهرَوَرديِّ المَقتولِ، ومُحيي الدِّينِ بنِ عَرَبيٍّ، وابنِ الفارِضِ، وعَبدِ الحَقِّ بنِ سَبعينَ، وعَبدِ الكَريمِ الجيليِّ، ومَن نَحا نَحوَهم، ونُلاحِظُ بَعدَ ذلك أنَّ أولئك المُتَفلسِفةَ مِنَ الصُّوفيَّةِ نَتيجةَ اطِّلاعِهم على الفَلسَفةِ اليونانيَّةِ قدِ اصطَنَعوا كَثيرًا مِن مُصطَلَحاتِ هذه الفلسَفةِ، مِثلُ: "الكَلمةِ" "العَقلِ الأوَّلِ" "العَقلِ الكُلِّيِّ" "العِلَّةِ والمَعلولِ"، وغَيرِ ذلك مِنَ المُصطَلَحاتِ الفلسَفيَّةِ اليونانيَّةِ) [374] ((مدخل إلى التصوف)) (33، 34). .
والحَقيقةُ أنَّه بغَضِّ النَّظَرِ عَنِ اجتِهاداتِ الباحِثينَ على اختِلافِ مَشارِبِهم في رَدِّ النَّظَريَّاتِ الصُّوفيَّةِ إلى أُصولٍ غَيرِ إسلاميَّةٍ، سَواءٌ صَحَّ هذا أم لم يَصِحَّ، فيَبقى الأهَمَّ مِن ذلك عَرضُ أيِّ فِكرةٍ -مَهما كان مَصدَرُها- على الكِتابِ والسُّنَّةِ؛ فما وافقَ الحَقَّ قَبِلْناه، وما خالَفه رَدَدْناه، ومَنِ ابتَغى الهُدى في غَيرِهما أضَلَّه هَواه.


انظر أيضا: