موسوعة الفرق

المطلَبُ الثَّاني: غُلُوُّهم في الأولياءِ


غَلا المُتَصَوِّفةُ في الأولياءِ كما غَلَوا في النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم غُلُوًّا شَديدًا، حَتَّى رَفعوهم إلى مَنزِلةِ الأنبياءِ عليهمُ السَّلامُ، ولَم يَقِفوا عِندَ هذا بَل تَجاوزوا بهم مَنزِلةَ الأنبياءِ حَتَّى أوصَلوهم إلى مَنزِلةِ الأُلوهيَّةِ والرُّبوبيَّةِ، فوقَعوا بذلك في عَقائِدَ باطِلةٍ تَصطَدِمُ تَمامًا مَعَ العَقيدةِ التي جاءَ بها الإسلامُ. ومِن نَماذِجِ تلك الانحِرافاتِ:
1- رَفعُ مَشايِخِهم إلى مَنزِلةِ الأُلوهيَّةِ والرُّبوبيَّةِ:
لقد أخبَرَ اللهُ سُبحانَه وتعالى في كِتابِه بأنَّ كُلَّ الأُمورِ بيَدِه، وأنَّ جَميعَ ما في الكَونِ له لا يَشرَكُه فيه أحَدٌ؛ لا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، ولا نَبيٌّ مُرسَلٌ، ولا وليٌّ مِن أولياءِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ.
قال اللهُ تعالى: قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ [المؤمنون: 84-85] .
وقال اللهُ سُبحانَه: قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ [المؤمنون: 88 -89] ، وقال اللهُ عزَّ وجَلَّ: أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف: 54] .
فهذه الآياتُ كُلُّها تُفيدُ أنَّ كُلَّ ما في السَّماواتِ وما في الأرضِ للَّهِ سُبحانَه وتَعالى؛ لأنَّه المُتَصَرِّفُ فيه وحدَه لا شَريكَ له؛ لأنَّه هو الذي خَلَقَه، ومن ثمَّ فهو الذي يُسَيِّرُه لا يَشرَكُه في ذلك أيُّ أحَدٍ مِن مَخلوقاتِه مَهما كانت مَنزِلَتُه؛ ولذا فزَعمُ غُلاةِ الصُّوفيَّةِ أنَّ مَشايِخَهم لهمُ التَّصَرُّفُ في هذا الكَونِ: كَذِبٌ مَحضٌ لا يَعتَمِدُ على أيِّ دَليلٍ لا عَقليٍّ ولا نَقليٍّ، بل يُعتَبرُ شِركًا في تَوحيدِ الرُّبوبيَّةِ يَجِبُ أن يَتوبوا مِنه ويَرجِعوا إلى اللهِ فيوحِّدوه حَقَّ تَوحيدِه.
ومِنَ الحِكاياتِ التي ذَكَرَها الصُّوفيَّةُ في هذا الشَّأنِ أنَّ أحَدَ المَشايِخِ كان جالسًا يَومًا مَعَ أصحابِه في رِباطِه إذِ ابتَلَّت يَدُه وكُمُّه إلى إبْطِه، فعَجِبوا مِن ذلك وسَألوه عنه فقال رَضيَ اللهُ عنه: (استَغاثَ بي رَجُلٌ مِنَ المُريدينَ تاجِرًا كان راكِبًا في السَّفينةِ وقد كادَت أن تَغرَقَ، فخَلَّصتُها مِنَ الغَرَقِ؛ فابتَلَّ لذلك كُمِّي ويَدي، فوصَلَ هذا التَّاجِرُ بَعدَ مُدَّةٍ وحَدَّثَ بهذا الأمرِ كما أخبَرَ الشَّيخُ رَضيَ اللهُ عنه!) [367] ((المواهب السرمدية في مناقب النقشبندية)) للكردي (ص: 210). .
2- الادِّعاءُ بأنَّ لَهمُ الاطِّلاعَ على الغَيبِ:
وصَلَ غُلُوُّ الصُّوفيَّةِ في مَشايِخِهم إلى الزَّعمِ بأنَّهم يَعلَمونَ الغَيبَ؛ حَيثُ ادَّعَوا بأنَّ الأولياءَ يَعلَمونَ كُلَّ شَيءٍ في حَياتِهم وبَعدَ مَماتِهم، وأنَّهم يَسمَعونَ كُلَّ مَن ناداهم مِن قَريبٍ أو بَعيدٍ، فيَقضونَ له طَلَبَه!
قال إبراهيمُ الدُّسوقيُّ في حَديثِه عَن خَصائِصِ العارِفِ باللهِ عِندَهم: (وكذلك لَهمُ الاطِّلاعُ على ما هو مَكتوبٌ على أوراقِ الشَّجَرِ والماءِ والهَواءِ، وما في البَرِّ والبَحرِ، وما هو مَكتوبٌ على صَفحةِ قُبَّةِ خَيمةِ السَّماءِ، وما في حَياةِ الإنسِ والجانِّ مِمَّا يَقَعُ لَهم في الدُّنيا والآخِرةِ، ولا يُحجَبُ مِن حَكيمٍ يَتَلَقَّى عِلمًا مِن حَكيمٍ عَليمٍ) [368] ((جمهرة الأولياء)) (2/ 242). .

انظر أيضا: