موسوعة الفرق

المَبحَثُ الرَّابعُ: البَطالةُ والانحِلالُ


كان أوائِلَ الصُّوفيَّةِ أصحابَ مُجاهَداتٍ وعِباداتٍ، صادِقينَ مَعَ أنفُسِهم، وإن كانت بَعضُ أعمالِهم فيها تَعَمُّقٌ وتَشَدُّدٌ ومُخالَفةٌ للسُّنَّةِ، ثُمَّ ظَهَرَت بَعدَ ذلك أجيالٌ بَنَوا التَّكايا والزَّوايا، وهي دَكاكينُ للبَطالةِ، مُستَريحينَ مِن كَدِّ المَعاشِ، مُتَشاغِلينَ بالأكلِ والشُّربِ والغِناءِ والرَّقصِ، يَطلُبونَ الدُّنيا مِن كُلِّ ظالمٍ، وأينَ جوعُ (بِشرٍ) ووَرَعُ (السَّرِيِّ)، وأينَ جِدُّ (الجُنَيدِ) [311] يُنظر: ((تلبيس إبليس)) لابن الجوزي (ص: 157). ؟
مَعَ أنَّ بناءَ الرُّبُطِ والتَّكايا ولو للتَّعَبُّدِ والانفِرادِ هو بدعةٌ في حَدِّ ذاتِه؛ لأنَّ بناءَ أهلِ الإسلامِ المَساجِدَ، وبناءَ التَّكايا فيه تَشَبُّهٌ بالنَّصارى؛ لانفِرادِهم بالأديِرةِ. وقد قيلَ لبَعضِ الصُّوفيَّةِ: أتَبيعُ جُبَّتَك؟ قال: إذا باعَ الصَّيَّادُ شَبَكتَه فبأيِّ شَيءٍ يَصطادُ؟! وقدِ استَغرَبَ مُحَمَّدُ بنُ الحَسَنِ الشَّيبانيُّ مِن أكلِهمُ الطَّعامَ عِندَ النَّاسِ لا يَسألونَ عَن حَلالٍ أو حَرامٍ [312] يُنظر: ((تلبيس إبليس)) لابن الجوزي (ص: 178). .
ونَسُوا أو تَناسَوا أنَّ الإسلامَ يَأبى الرُّكونَ إلى الكَسَلِ والبَطالةِ، وأنَّ الزُّهدَ هو تَركُ ما في أيدي النَّاسِ، والاستِغناءُ عَنه تَنَزُّهًا، وليس الحُصولُ على ما في أيدي النَّاسِ تَنَطُّعًا، وقد نهى رَسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم عَنِ السُّؤالِ، وأمَرَ بالاكتِسابِ والعَمَلِ، فقال: ((لأنْ يَحتَزِمَ أحَدُكم حُزمةً مِن حَطَبٍ على ظَهرِه فيَبيعَها خَيرٌ مِن أن يَسألَ رَجُلًا، فيُعطيَه أو يَمنَعَه)) [313] أخرجه البخاري (2074)، ومسلم (1042) باختِلافٍ يَسيرٍ مِن حَديثِ أبي هرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه. ، وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: ((اليَدُ العُليا خَيرٌ مِنَ اليَدِ السُّفلى)) [314] أخرجه البخاري (1429)، ومسلم (1033) مِن حَديثِ عَبدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنهما. .
ولَم يَرضَ عن هذا التَّطَوُّرِ بَعضُ الصُّوفيَّةِ المُعتَدِلينَ، فقال أبو سَعيدٍ الأعرابيُّ: (إنَّ آخِرَ مَن تَكَلَّمَ في هذا العِلمِ الجُنَيدُ، وإنَّه ما بَقيَ بَعدُ إلَّا مَن يُستَحى مِن ذِكرِه) [315] يُنظر: ((قوت القلوب في معاملة المحبوب)) لأبي طالب (1/ 277). .
وقال سَهلٌ التُّستَريُّ: (بَعدَ سَنةِ ثَلاثِمائةٍ لا يَحِلُّ أن يُتَكَلَّمَ بعِلمِنا هذا؛ لأنَّه يحدُثُ قَومٌ يَتَصَنَّعونَ للخَلقِ ويَتَزَيَّنونَ بالكَلامِ؛ لتَكونَ مَواجيدُهم لباسَهم، وحِليَتُهم كَلامَهم، ومَعبودُهم بُطونَهم) [316] يُنظر: ((قوت القلوب في معاملة المحبوب)) لأبي طالب (1/ 277). . ولَكِنَّ الصُّوفيَّةَ استَمَرَّت في تَدَهوُرِها، وأصبَحَت لَدى البَعضِ مِنهمُ اكتِسابًا وتَمَلُّقًا. واللهُ المُستَعانُ.

انظر أيضا: