موسوعة الفرق

المَبحَثُ الأوَّلُ: الشَّريعةُ والحَقيقةُ


مُصطَلَحُ الشَّريعةِ والحَقيقةِ يُرَدِّدُهما المُتَصَوِّفةُ كثيرًا، ويَقرُنونَ بَينَهما وبَينَ مُصطَلَحَينِ آخَرَينِ هما الظَّاهِرُ والباطِنُ.
فالشَّريعةُ كما يَرَونَها هي مَجموعةُ الأحكامِ العَمَليَّةِ التَّكليفيَّةِ، أي ما يُسَمَّى (بالفِقهِ الإسلاميِّ)، والحَقيقةُ هي ما وراءَ هذه الأحكامِ مِن إشاراتٍ وأسرارٍ، فالفُقَهاءُ يُعَلِّمون النَّاسَ أركانَ الصَّلاةِ وسُنَنَها، والصُّوفيَّةُ يَهتَمُّونَ بأعمالِ القُلوبِ مِنَ المَحَبَّةِ والخَشيةِ. هذا رَأيُ المُعتَدِلينَ مِنهم.
أمَّا غُلاتُهم فقالوا: إنَّ هذه الأحكامَ لعَوامِّ المُسلِمينَ نظرًا لضيقِ عُقولِهم وقُلوبِهم عنِ استيعابِ المَعاني العُلويَّةِ دونَ الِالتِزامِ برُسومٍ وأشكالٍ مُعَيَّنةٍ؛ فالصَّلاةُ خَمسَ مَرَّاتٍ بشَكلٍ وتَرتيبٍ مُعَيَّنٍ هي أشبَهُ ما يَكونُ بالمُعلِّمِ الذي يُلزِمُ الطَّالِبَ بواجِباتٍ مَدرَسيَّةٍ لِما يَعلَمُ عنه مِن عَدَمِ الِاستِفادةِ مِنَ العِلمِ إن لم يَعمَلْ بتلك الواجِباتِ، والمَقصودُ هو العِلمُ، فإن كان مِنَ الخَواصِّ الذينَ يُدرِكونَ المَقصودَ الأساسيَّ مِنَ الشَّرائِعِ -وهوَ ما أطلَقوا عليه الحَقيقةَ- فقَد حَصَلَ المَقصودُ، وإن لم يَلتَزِمْ بها فالصَّلاةُ هي دَوامُ الصِّلةِ باللهِ تعالى.
إنَّ بدايةَ الِانحِرافِ كانت في هذا الفَصلِ بَينَ الشَّريعةِ والحَقيقةِ، وعِندَ أهلِ السُّنَّةِ الشَّريعةُ هي الحَقيقةُ، فالصَّلاةُ حَرَكاتٌ مُعَيَّنةٌ ولكِنَّها تَستَلزِمُ الخَشيةَ والإنابةَ، وهكذا كُلُّ الأحكامِ الشَّرعيَّةِ القيامُ بها يَعني الإتيانَ بها على تَمامِها، كما أرادَها اللهُ سُبحانَه وتعالى.
ثُمَّ إنَّ التَّفرِقةَ بَينَ الظَّاهِرِ والباطِنِ أدَّت بهم إلى تَأويلِ بَعضِ الآياتِ وتَحريفِها عن وجهِها الصَّحيحِ، وهذا التَّأويلُ المَذمومُ حاوَلَت كُلُّ الفِرَقِ الضَّالَّةِ الباطِنيَّةِ أن تَجِدَ له نصيرًا مِن كِتابِ اللهِ يَتَناسَبُ مَعَ أهوائِها؛ ولِذلك ضُبِطَ عِلمُ التَّفسيرِ بـ (أُصولِ التَّفسيرِ) حَتَّى لا يَتَحَوَّلَ الأمرُ إلى فوضى لا نِهايةَ لها.
ففي تَفسيرِ آيةٍ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي [الأنعام: 76] ، قال الهَرَويُّ: (رَأى هذه حالةَ العَطَشِ، كَأنَّ إبراهيمَ عليه السَّلامُ لشِدَّةِ عَطَشِه إلى لقاءِ مَحبوبِه لَمَّا رَأى الكَواكِبَ قال: هذا رَبّي، فإنَّ العَطشانَ إذا رَأى السَّرابَ ذَكَرَ به الماءَ)، فعَقَّبَ ابنُ القيَمِ: (هذا ليس مَعنى الآيةِ مطلَقًا، وإنَّما القَومُ مولَعونَ بالإشاراتِ) [284] ((مدارج السالكين)) (3/61). .
وآيةُ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ فسَّرَها عَبدُ الغَنيِّ النَّابُلُسيُّ -وهوَ مِنَ المُتَأخِّرينَ- (أي: صورَتَك الظَّاهِرةَ والباطِنةَ، يَعني جِسمَك وروحَك، فلا تَنظُرْ إليها لأنَّها نَعلاك) [285] ((شطحات الصوفية)) لبدوي (ص: 195). ، وفَسَّرَ بَعضُهم هذه الآيةَ: يَعني: اخلَع دُنياك وآخِرَتَك. ويَبدو أنَّ البَعضَ مِنهم كان يَشعُرُ بخَطَأِ هذه التَّفرِقةِ، فيُحَذِّرُ ويَنصَحُ، قال سَهلُ بنُ عبدِ اللهِ: (احفَظوا السَّوادَ على البَياضِ «يَعني العِلمَ»؛ فما أحَدٌ تَرك الظَّاهِرَ إلَّا تَزَندَقَ) [286] يُنظر: ((تلبيس إبليس)) لابن الجوزي (ص: 325). .

انظر أيضا: