موسوعة الفرق

المَبحَثُ الثَّاني: مُقارَنةٌ بَينَ أهلِ السُّنَّةِ والصُّوفيَّةِ في غايةِ التَّزكيةِ


كما تَتَبايَنُ وسائِلُ التَّزكيةِ وطُرُقُها بَينَ أهلِ السُّنَّةِ والصُّوفيَّةِ، فإنَّ غايةَ التَّزكيةِ بَينَهما تَختَلِفُ كذلك اختِلافًا كُلِّيًّا.
غايةُ التَّزكيةِ عِندَ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ
غايةُ التَّزكيةِ عِندَ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ تَحقيقُ كَمالِ العُبوديَّةِ للَّهِ عزَّ وجَلَّ، واستِكمالُ مَراتِبِ الحُبِّ والذُّلِّ، واستِسلامُ ظاهِرِ العَبدِ وباطِنُه للَّهِ سُبحانَه، وأن يَلقى العَبدُ رَبَّه بقَلبٍ سَليمٍ فيَسعَدَ بمُجاوَرةِ اللَّهِ تعالى في جَنَّاتِه.
قال ابنُ تيميَّةَ: (دينُ الحَقِّ هو تَحقيقُ العُبوديَّةِ للَّهِ بكُلِّ الأوجُهِ، وهوَ تَحقيقُ محَبَّةِ اللَّهِ بكُلِّ دَرَجةٍ، وبقَدرِ تَكميلِ العُبوديَّةِ تكمُلُ مَحَبَّةُ العَبدِ لرَبِّه، وتَكمُلُ مَحَبَّةُ الرَّبِّ لعَبدِه، وبقَدرِ نَقصِ هذا يَكونُ نَقصُ هذا، وكُلَّما كان في القَلبِ حُبٌّ لغَيرِ اللهِ كانَت فيه عُبوديَّةٌ لغَيرِ اللهِ بحَسَبِ ذلك، أو كُلَّما كان فيه عُبوديَّةٌ لغَيرِ اللهِ كان فيه حُبٌّ لغَيرِ اللهِ بحَسَبِ ذلك، وكُلُّ مَحَبَّةٍ لا تَكونُ للَّهِ فهي باطِلةٌ، وكُلُّ عَمَلٍ لا يُرادُ به وَجهُ اللهِ فهوَ باطِلٌ... فإنَّ المُخلِصَ للَّهِ ذاقَ مِن حَلاوةِ عُبوديَّتِه للَّهِ ما يَمنَعُه مِن عُبوديَّتِه لغَيرِه، ومِن حَلاوةِ مَحَبَّتِه للَّهِ ما يَمنَعُه مِن مَحَبَّةِ غَيرِه؛ إذ ليس عِندَ القَلبِ لا أحلى ولا ألَذُّ ولا أطيَبُ ولا أليَنُ ولا أنعَمُ مِن حَلاوةِ الإيمانِ المُتَضَمِّنِ عُبوديَّتَه للَّهِ ومَحَبَّتَه له، وإخلاصَه الدِّينَ له، وذلك يَقتَضي انجِذابَ القَلبِ إلى اللهِ فيَصيرُ القَلبُ مُنيبًا إلى اللهِ خائِفًا مِنه راغِبًا راهِبًا، كما قال تعالى: مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ [ق: 33] ؛ إذِ المُحِبُّ يَخافُ مِن زَوالِ مَطلوبِه وحُصولِ مَرغوبِه، فلا يَكونُ عَبدُ اللَّهِ ومُحِبُّه إلَّا بَينَ خَوفٍ ورَجاءٍ؛ قال تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا [الإسراء: 57] .
وإذا كان العَبدُ مُخلِصًا له اجتَباه رَبُّه فيَحيا قَلبُه، واجتَذَبَه إليه فيَنصَرِفُ عنه ما يُضادُّ ذلك مِنَ السُّوءِ والفَحشاءِ، ويَخافُ مِن حُصولِ ضِدِّ ذلك بخِلافِ القَلبِ الذي لم يُخلِصْ للَّهِ) [246] ((مجموع الفتاوى)) (10/ 216). .
ومِمَّا يَدُلُّ على أنَّ العُبوديَّةَ هي غايةُ التَّزكيةِ أنَّ اللهَ عزَّ وجَلَّ وصَفَ صَفوةَ الخَلقِ مِنَ المَلائِكةِ والرُّسُلِ عليهم السَّلامُ بالعُبوديَّةِ، ومَدَحَهم بذلك، وذَمَّ وتَوَعَّدَ مَن يَستَكبِرُ عن عُبوديَّتِه عزَّ وجَلَّ؛
قال اللهُ تعالى في وصفِ المَلائِكةِ: وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ [الأنبياء: 19] .
وقال اللهُ سُبحانَه: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الأنبياء: 26-27] .
وقال اللهُ عزَّ وجَلَّ عنِ المَسيحِ عليه السَّلامُ: إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ [الزخرف: 59] .
ونَعَتَ نَبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالعُبوديَّةِ في أكمَلِ أحوالِه، فقال في الإسراءِ: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا [الإسراء: 1] .
وقال في الإيحاءِ: فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى [النجم: 10] .
وقال في الدَّعوةِ: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا [الجن: 19] .
وقال في التَّحدِّي: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورةٍ مِنْ مِثْلِهِ [البقرة: 23] .
فإذا كانَتِ الرُّسُلُ والمَلائِكةُ الذينَ هم أشرَفُ الخَلقِ أكمَلَ النَّاسِ عُبوديَّةً، فإنَّ العَبدَ بتَزكيةِ نَفسِه تَكونُ غايَتُه أن يُحَقِّقَ كَمالَ العُبوديَّةِ.
والعِبادةُ هي كَمالُ الحُبِّ مَعَ تَمامِ الذُّلِّ؛ فكُلَّما زَكَت نَفسُ العَبدِ ازدادَ حُبًّا وذُلًّا للَّهِ عزَّ وجَلَّ. وما دامَ أنَّ اللهَ تعالى قد خَلَقَ الخَلقَ مِن أجلِ أن يَعبُدوه سُبحانَه، كما قال: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56]، فلا شَكَّ أنَّ العَبدَ كُلَّما أدَّى هذه الوَظيفةَ التي خُلِقَ مِن أجلِها كان أزكى نَفسًا، وأسلَمَ قَلبًا، وبهذا وغَيرِه يَتَّضِحُ أنَّ غايةَ التَّزكيةِ عِندَ أهلِ السُّنَّةِ تَحقيقُ العُبوديَّةِ التي يَستَغني العَبدُ فيها باللهِ عزَّ وجَلَّ وحدَه، ويَسعَدُ به ويَصِلُ إلى مَحَبَّةِ اللهِ عزَّ وجَلَّ ورِضاه.
غايةُ التَّزكيةِ عِندَ الصُّوفيَّةِ
بَينَما يَزدادُ أهلُ السُّنَّةِ بالتَّزكيةِ عُبوديَّةً وذُلًّا وتَواضُعًا وحُبًّا للَّهِ عزَّ وجَلَّ وافتِقارًا إلى الكِتابِ والسُّنَّةِ لضَبطِ أقوالِهم وأفعالِهم إرضاءً لرَبِّهم عزَّ وجَلَّ، فإنَّ الصُّوفيَّةَ يَطلُبونَ بدَعوى التَّزكيةِ عِندَهم ادِّعاءَ المُكاشَفاتِ وتَحَقُّقَ الكَراماتِ، كما في الحَديثِ المَوضوعِ ((عَبدي أطِعْني أجعَلْك عَبدًا رَبَّانيًّا تَقولُ للشَّيءِ: كُنْ، فيَكونُ)).
ومِن ذلك إسقاطُ التَّكليفِ: فمِن مَظاهِرِ الشَّطحِ الصُّوفيِّ الذي أنكَرَه كَثيرونَ مِنَ المُتَصَوِّفةِ وتَبَنَّاه بَعضُ الغُلاةِ مِنهم القَولُ بإسقاطِ التَّكليفِ، بحيثُ يَخرُجُ مِن قُيودِ الشَّرائِعِ وحُدودِها، وتلك زَندَقةٌ ورِدَّةٌ عنِ الإسلامِ.
قال ابنُ تيميَّةَ: (كَثيرٌ مِنهم لا يُطلِقونَ السَّلبَ العامَّ، ويَخرُجونَ عن رِبقةِ العُبوديَّة مُطلَقًا، بَل يَزعُمونَ سُقوطَ بَعضِ الواجِباتِ عنهم، أو حِلَّ بَعضِ المُحرَّماتِ لهم، مِنهم مَن يَزعُمُ أنَّه سَقَطَت عنه الصَّلَواتُ الخَمسُ لوُصولِه إلى المَقصودِ، ورُبَّما قد يَزعُمُ سُقوطَها عنه إذا كان في حالِ مُشاهَدةٍ وحُضورٍ، وقَد يَزعُمونَ سُقوطَ الجَماعاتِ عنهم استِغناءً عنها بما هو فيه مِنَ التَّوَجُّهِ والحُضورِ، ومِنهم مَن يَزعُمُ سُقوطَ الحَجِّ عنه مَعَ قُدرَتِه عليه؛ لأنَّ الكَعبةَ تَطوفُ به، أو لغَيرِ هذا مِنَ الحالاتِ الشَّيطانيَّةِ، ومِنهم مَن يَستَحِلُّ الخَمرَ في رَمَضانَ لغَيرِ عُذرٍ شَرعيٍّ زَعمًا مِنه استِغناؤُه عنِ الصِّيامِ، ومِنهم مَن يَستَحِلُّ الخَمرَ زَعمًا مِنه أنَّها تَحرُمُ على العامَّةِ الذينَ إذا شَرِبوا تخاصَموا وتضارَبوا دونَ الخاصَّةِ العُقَلاءِ، ويَزعُمونَ أنَّها تَحرُمُ على العامَّةِ الذينَ ليس لهم أعمالٌ صالِحةٌ، فأمَّا أهلُ النُّفوسِ الزَّكيَّةِ والأعمالِ الصَّالِحةِ فتُباحُ لهم دونَ العامَّةِ) [247] ((مجموع الفتاوى)) (11/403). .

انظر أيضا: