موسوعة الفرق

المَبحَثُ الحادِيَ عَشَرَ: تَقديسُ القُبورِ وزيارةُ المَشاهِدِ


تَقديسُ القُبورِ والمَشاهِدِ أحَدُ مَعالمِ الفِكرِ الشِّيعيِّ الذي يَتَوافَقُ مَعَ فِكرِ الكَثيرِ منَ الصُّوفيَّةِ، حتَّى أصبَحَ أحَدَ أبرَزِ المُعتَقَداتِ الصُّوفيَّةِ.
والشِّيعةُ هم أوَّلُ مَن بَنى المَشاهِدَ على القُبورِ والمَساجِدَ عليها في الإسلامِ بَعدَ أن جاءَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بهَدمِ ذلك؛ حتَّى لا تَكونَ ذَريعةً إلى الشِّركِ، كما قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لعنَ اللهُ اليهودَ والنَّصارى؛ اتَّخَذوا قُبورَ أنبيائِهم مَساجِدَ)) [207] أخرجه البخاري (1390) ومسلم (529) من حديثِ عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها. .
وعن عليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه قال لأبي الهَيَّاجِ الأسَديِّ: ألَا أبعَثُك على ما بَعَثَني به رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ ((ألَّا تَدَعَ قَبرًا مُشرِفًا أي: ظاهرًا بارِزًا عاليًا عنِ الأرضِ إلَّا سَوَّيتَه، ولا تِمثالًا إلَّا طَمَسْتَه)) [208] أخرجه مسلم (969) باختلافٍ يسيرٍ. .
ولكِنَّ الشِّيعةَ تَتبَّعوا قُبورَ مَن ماتَ قديمًا مِمَّن يُعَظِّمونَهم من آلِ البَيتِ، كعليِّ بنِ أبي طالِبٍ، والحُسَينِ رَضِيَ اللهُ عنهما، وغَيرِهما من أئِمَّةِ آلِ البَيتِ، وبَنَوا على قُبورِهم وجَعَلوها مَشاهِدَ ومَزاراتٍ.
وكان هذا البناءُ وإظهارُ تلك الشَّعائِرِ مُنذُ بداياتِ القَرنِ الثَّالثِ الهجريِّ، ولكِنَّ بَعضَ خُلفاءِ بَني العَبَّاسِ أخَذوا يهدِمونَ بَعضَ تلك القُبورِ، كما ذَكَرَ ابنُ كَثيرٍ أنَّ الخَليفةَ العَبَّاسيَّ المُتَوكِّلَ أمَرَ في سَنةِ 236ه بهَدمِ القَبرِ المَنسوبِ إلى الحُسَينِ بنِ عليٍّ رَضِيَ اللهُ عنهما وما حَولَه منَ المَنازِلِ والدُّورِ، واتَّخَذَ ذلك المَوضِعَ مَزرَعةً تُحرَثُ وتُستَغَلُّ [209] يُنظر: ((البداية والنهاية)) (1/ 315). . وكان هذا القَبرُ مَزارًا لفِرقةِ الإسماعيليَّةِ منَ الشِّيعةِ، فكانوا يَزورونَ هذا القَبرَ ثمَّ يَذهَبونَ إلى مَعقِلِهم في مَدينةِ سَلَميَةَ في سوريا لزيارةِ أئِمَّتِهم هناك [210] يُنظر: ((العبر)) للذهبي (3/ 361). .
وجاءَ الصُّوفيَّةُ فنَسَجوا على هذا المنوالِ، فجَعَلوا أهَمَّ مَشاعِرِهم زيارةَ القُبورِ وبناءَ الأضرِحةِ، والطَّوافَ بها والتَّبَرُّكَ بأحجارِها، والاستِغاثةَ بالأمواتِ؛ فقد جَعَلوا قَبرَ مَعروفٍ الكَرخيِّ مَكانًا لزيارَتِهم، وقالوا: (قبرُ معروفٍ تِرياقٌ مجرَّبٌ) [211] يُنظر: ((طبقات الصوفية)) للسلمي (ص: 85)، ((وفيات الأعيان)) لابن خلكان (5/ 232). .
بل جَعَل بَعضُ المُتَصَوِّفةِ جُلَّ هَمِّهم بناءَ هذه القُبورِ وتَعظيمَها ودَعوةَ النَّاسِ إليها، وجَعَلوا أعظَمَ مَشاعِرهمُ الطَّوافَ بها، والتَّبَرُّكَ بها ودُعاءَ أصحابِها من دونِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، وهكذا أعادوا من جَديدٍ شِركَ الجاهليَّةِ الأولى.
وهناك عَقائِدُ وآراءٌ وأفكارٌ أخرى، فيها تَشابُهٌ وتوافُقٌ مَعَ الشِّيعةِ، قد تَدُلُّ على أنَّها مَأخوذةٌ منهم.
قال الشِّيعيُّ الإيرانيُّ الدُّكتور قاسِم: (تَذهَبُ جَماعةٌ إلى أنَّ التَّصَوُّفَ ليس إلَّا رَدَّ فِعلٍ أوجَدَه الفتحُ العَرَبيُّ الإسلاميُّ في نُفوسِ العُنصُرِ الآريِّ الإيرانيِّ، وخُلاصةُ قَولِهم أنَّ الإيرانيِّينَ بَعدَما غُلِبوا على أمرِهم بسُيوفِ العَرَبِ في مَواقِعِ القادِسيَّةِ وجَلولاءَ وحُلوانَ ونَهاوندَ، أدرَكوا أنَّهم فقدوا استِقلالَهم وأضاعوا مَجدَهم، ثمَّ إنَّهمُ اعتَنَقوا الدِّيانةَ الإسلاميَّةَ، ولكِنَّ العَرَبَ الذينَ كان الإيرانيُّونَ يَنظُرونَ إليهم مُنذُ القِدَمِ بنَظرةٍ غَيرِ راضيةٍ، لم يَستَطيعوا أن يُغَيِّروا -رَغمَ انتِصاراتِهم- مَجرى التَّفكيرِ الإيرانيِّ، وأن يَجعَلوهم مُشارِكينَ لهم في أسلوبِ تَفكيرِهم واتِّجاهاتِهم ومُيولِهم وسَليقَتِهم ومَنطِقِهم، وكذلك في آمالِهم وأمانيهم وغاياتِهمُ الرُّوحيَّةِ المِثاليَّةِ؛ لأنَّ التَّبايُنَ الشَّكليَّ والمَعنَويَّ -أيِ الفُروقَ العُنصُريَّةَ والاختِلافَ في أسلوبِ المَعيشةِ والأوضاعِ الاجتِماعيَّةِ- بَينَ هاتَينِ الأمَّتَينِ كان شَديدًا للغايةِ... ويَنبَغي أن نُضيفَ إلى هذه المُلاحَظةِ أنَّ الغَرَضَ مِن ذِكرِ الانفِعالاتِ في هذا البابِ ليس القَولَ بأنَّ الإيرانيِّينَ أقدَموا على هذا العَمَلِ اختاروا أو تَعَمَّدوا، وقد تَأتَّت في أكثَرِ الظُّروفِ بحُكمِ الانفِعالاتِ النَّفسيَّةِ وبتَأثيرِ العَواطِفِ والأحاسيسِ الخَفيَّةِ بصورةٍ ثابتةٍ، كما يَرى عُلماءُ النَّفسِ، أي: من غَيرِ أن يَعرِفَ النَّاسُ أنفُسُهم غالبًا السَّبَبَ الحَقيقيَّ أو يَستَطيعوا تَحليلَ أفكارِهم وأحاسيسِهم، فانساقَت أفكارُهم إلى أمثالِ هذه الانفِعالاتِ العَكسيَّةِ) [212] يُنظر: ((تاريخ التصوف في الإسلام)) (ص: 14). .
وأمَّا الشِّيعيُّ العِراقيُّ الدُّكتورُ كامِل مُصطَفى الشِّيبيُّ فقد كَتَبَ كِتابًا مُستَقِلًّا لإثباتِ تَأثُّرِ التَّصَوُّفِ بالتَّشَيُّعِ، واستِفادةِ الصُّوفيَّةِ منَ الشِّيعةِ، وأخْذِهم عنهم، فقال: (ويَنبَغي أن نذكُرَ الدَّورَ الذي قامَ به الفُرسُ من إدخالِهم مُثُلَهمُ الدِّينيَّةَ في التَّشَيُّعِ الغالي الأوَّلِ حينَ نَصَروا المُختارَ، وعاضَدوا حَرَكةَ الغُلوِّ العِجليَّةَ، وانضَمُّوا إلى حَرَكةِ أبي هاشِمٍ، وانضافوا إلى الحَرَكةِ السِّرِّيَّةِ العَبَّاسيَّةِ التي وَرثَت حَرَكةَ أبي هاشِمٍ، حتَّى أدَّى بهمُ الأمرُ إلى تَأليهِ أبي مُسلِمٍ الخُراسانيِّ، كما فعَلوا مَعَ أئِمَّةِ الشِّيعةِ منَ العَلويِّينَ. يُضافُ إلى ذلك أنَّهم نَصَروا حَرَكةَ عَبدِ اللَّهِ بنِ مُعاويةَ في فارِسَ أيضًا، وأسبَغوا عليه النُّورَ الإلهيَّ الذي سَنَجِدُه في التَّصَوُّفِ واضِحًا جَليًّا.
وهذا كُلُّه يَعني أنَّ الفُرسَ قد بدؤوا إضافةَ القَداسةِ إلى البَيتِ النَّبَويِّ باعتِبارِها أساسًا موازيًا لأسُسِهمُ السِّياسيَّةِ والدِّينيَّةِ السَّابقةِ من تَأليههمُ المُلوكَ، وقَولِهم بالنُّورِ الذي يَنتَقِلُ من مَلِكٍ إلى آخَرَ، فثَبَتَتِ الوِلايةُ لعليِّ بنِ أبي طالِبٍ على نَحوٍ مُبالَغٍ فيه، وانتَقَلت هذه الوِلايةُ المُقدَّسةُ مَعَ زياداتٍ وإضافاتٍ وحَواشٍ إلى الأئِمَّةِ مِن بَعدِه حتَّى بلغَ الأمرُ حَدَّ التَّأليهِ) [213] ((الصلة بين التصوف والتشيع)) (1/ 372). .

انظر أيضا: