موسوعة الفرق

المَبحَثُ العاشِرُ: نَسخُ الشَّريعةِ ورَفعُ التَّكاليفِ


منَ العَقائِدِ التي ذَهَبَ إليها بَعضُ الغُلاةِ رَفعُ التَّكاليفِ.
قال الدَّاعي الإسماعيليُّ طاهِرُ بنُ إبراهيمَ الحارِثيُّ اليَمانيُّ: (حُجَجُ اللَّيلِ هم أهلُ الباطِنِ المَحضِ، المَرفوعُ عنهم في أدوارِ السَّترِ التَّكاليفُ الظَّاهرةُ لعُلوِّ دَرَجاتِهم) [193] ((الأنوار اللطيفة)) (ص: 102). . وبمِثلِ ذلك نَقَلوا عن جَعفَرِ بنِ مُحَمَّدٍ الباقِرِ أنَّه قال: (مَن عَرَف الباطِنَ فقد سَقَطَ عنه عَمَلُ الظَّاهرِ... ورُفِعَت عنه الأغلالُ والأصفادُ وإقامةُ الظَّاهِرِ) [194] يُنظر: ((الهفت الشريف)) للجعفي (ص: 42). .
ويُشارِكُ الإسماعيليَّةَ في ذلك فِرَقٌ شيعيَّةٌ أُخرى، مُؤَوِّلينَ قَولَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ: يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ [النساء: 28] ، وقَولَه جلَّ وعلا: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [المائدة: 93] . سالكينَ في ذلك منهجَ التَّأويلِ الباطِنيِّ، فتَرَكوا الواجِباتِ، وأباحوا المُحَرَّماتِ، وأتَوا المُنكَراتِ.
والشِّيعةُ الاثنا عَشريَّةِ أيضًا كاذِبونَ على أئِمَّتِهم بمَقولاتٍ هم منها بَراءٌ. كما رَوى الكُلينيُّ عن جَعفَرِ بنِ مُحَمَّدٍ الباقِرِ أنَّه قال لشيعَتِه: (إنَّ الرَّجُلَ منكُم لتُملأُ صَحيفتُه من غَيرِ عَمَلٍ) [195] يُنظر: ((الكافي)) (1/ 78). ، بل (كان مَعَ النَّبيِّينَ في دَرَجَتِهم يَومَ القيامةِ) [196] يُنظر: ((مقدمة البرهان في تفسير القرآن)) للبحراني (ص: 21). .
وذَكَرَ ابنُ بابَوَيهِ القُمِّيُّ أنَّ عليَّ بنَ موسى الرِّضا قال: (رُفِع القَلَمُ عن شيعَتِنا، فقُلتُ: يا سَيِّدي، كَيف ذاكَ؟ قال: لأنَّهم أُخِذَ عليهمُ العَهدُ بالتَّقيَّةِ في دَولةِ الباطِلِ، يَأمَنُ النَّاسُ ويُخَوَّفونَ، ويَكفُرونَ فينا ولا نَكفُرُ فيهم، ويُقتَلونَ بنا ولا نُقتَلُ بهم، ما من أحَدٍ من شيعَتِنا ارتَكَبَ ذَنبًا أو خَطَأً إلَّا ناله في ذلك غَمٌّ يُمَحِّصُ عنه ذُنوبَه، ولو أتى بذُنوبٍ عَدَدَ القَطرِ والمَطَرِ، وبعَدَدِ الحَصى والرَّملِ، وبعَدَدِ الشَّوكِ والشَّجَرِ) [197] يُنظر: ((عيون أخبار الرضا)) (2/ 236). .
ورَوى القُمِّيُّ عن جَعفَرٍ أنَّه قال: (إذا كان يَومُ القيامةِ يُدعى بعليٍّ أميرِ المُؤمنينَ عليه السَّلامُ... ثمَّ يُدعى بالأئِمَّةِ... ثمَّ يُدعى بالشِّيعةِ، فيَقومونَ أمامَهم، ثمَّ يُدعى بفاطِمةَ ونِسائِها من ذُرِّيَّتِها وشيعَتِها، فيَدخُلونَ الجَنَّةَ بغَيرِ حِسابٍ) [198] يُنظر: ((تفسير القمي)) (1/ 128). . إلى آخِرِ ما ذَكَروا في كُتُبِهم ومَراجِعِهمُ المُعتَمَدةِ لدَيهم [199] يُنظر للاستزادة: ((الشيعة وأهل البيت)) (ص: 230)، ((الشيعة والسنة)) (ص: 51، 52). كلاهما لظهير. .
وأمَّا المُتَصَوِّفةُ ففيهم مَن قال بكُلِّ هذا، فقال أبو الحَسَنِ الأشعَريُّ: (وفي النُّسَّاكِ قَومٌ يَزعُمونَ أنَّ العِبادةَ تَبلُغُ بهم إلى دَرَجةٍ تَزولُ فيها عنهمُ العِباداتُ، وتَكونُ الأشياءُ المَحظوراتُ على غَيرِهم منَ الزِّنا وغَيرِه مُباحاتٍ لهم) [200] ((مقالات الإسلاميين)) (ص: 289). . وقالوا: (إذا وصَلتَ إلى مَقامِ اليَقينِ سَقَطَت عنك العِبادةُ، مُؤَوِّلينَ قَولَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر: 99] ) [201] يُنظر: ((إتحاف السادة)) للزبيدي (8/ 278). وينظر: ((نشأة الفلسفة الصوفية وتطورها)) لعبد الحميد (ص: 74). .
وقد أقَرَّ القُشَيريُّ بوُجودِ طائِفةٍ من هؤلاء المُتَصَوِّفةِ، فقال: (وارتَحَل عنِ القُلوبِ حُرمةُ الشَّريعة، فعَدُّوا قِلَّةَ المُبالاةِ بالدِّينِ أوثَقَ ذَريعة، ورَفضوا التَّمييزَ بَينَ الحَلالِ والحَرام، ودانوا بتَركِ الاحتِرام، وطَرْحِ الاحتِشام، واستَخَفُّوا بأداءِ العِبادات، واستَهانوا بالصَّومِ والصَّلاة، ورَكَضوا في مَيدانِ الغَفلات، ورَكَنوا إلى اتِّباعِ الشَّهَوات، وقِلَّةِ المُبالاةِ بتَعاطي المَحظورات، والارتِفاقِ بما يَأخُذونَه منَ السُّوقةِ والنِّسوان، وأصحابِ السُّلطان. ثمَّ لم يَرضَوا بما تَعاطَوه من سوءِ هذه الأفعال، حتَّى أشاروا إلى أعلى الحَقائِقِ والأحوال، وادَّعَوا أنَّهم تَحَرَّروا من رِقِّ الأغلال، وتَحَقَّقوا بحَقائِقِ الوِصال، وأنَّهم تَجري عليهم أحكامُه وهم مَحوٌ، وليس للَّهِ عليهم فيما يُؤثِرونَه أو يَذَرونه عَتْبٌ ولا لومٌ، وأنَّهم كُوشِفوا بأسرارِ الأحَديَّة، واختُطِفوا عنهم بالكُلِّيَّة، وزالت عنهم أحكامُ البَشَريَّة، وبَقُوا بَعدَ فنائِهم عنهم بأنوارِ الصَّمَديَّة، والقائِلُ عنهم غَيرُهم إذا نَطَقوا، والنَّائِبُ عنهم سِواهم فيما تَصَرَّفوا بل صُرِفوا.
ولمَّا طال الابتِلاءُ فيما نَحنُ فيه منَ الزَّمانِ بما لوَّحتُ ببَعضِه من هذه القِصَّةِ، وكُنتُ لا أبسُطُ إلى هذه الغايةِ لسانَ الإنكارِ، غَيرةً على هذه الطَّريقةِ أن يُذكَرَ أهلُها بسوءٍ أو يَجِدَ مُخالِفٌ لثَلْبِهم مَساغًا؛ إذِ البلوى في هذه الدِّيارِ بالمُخالفينَ لهذه الطَّريقةِ والمُنكِرينَ عليها شَديدةٌ) [202] ((الرسالة)) (1/ 22- 24). .
كما أقَرَّ بإباحَتِهم للمَحظوراتِ الطُّوسيُّ، فقال: (زَعَمَتِ الفِرقةُ الضَّالَّةُ في الحَظرِ والإباحةِ أنَّ الأشياءَ في الأصلِ مُباحةٌ، وإنَّما وقعَ الحَظرُ للتَّعَدِّي، فإذا لم يَقَعِ التَّعَدِّي تَكونُ الأشياءُ على أصلِها منَ الإباحة، وتأوَّلوا قَولَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ: فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا وَحَدَائِقَ غُلْبًا وَفَاكِهَةً وَأَبًّا مَتَاعًا لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ [عبس: 27-32] . فقالوا: هذا على الجُملةِ غَيرُ مُفصَّلٍ، فأدَّاهم ذلك بجَهلِهم، إلى أن طَمِعَت نُفوسُهم بأنَّ المَحظورَ المَمنوعَ منه المُسلمونَ مُباحٌ لهم إذا لم يَتَعَدَّوا في تَناوُلِه.
وإنَّما غَلِطوا في ذلك بدَقيقةٍ خَفيَت عليهم مَن جَهلِهم بالأصولِ، وقِلَّة حَظِّهم من عِلمِ الشَّريعةِ، ومُتابَعَتِهم شَهَواتِ النَّفسِ في ذلك) [203] ((اللمع)) (ص: 538، 539). .
وذَكَرَهمُ السُّهْرَوَرديُّ بقَولِه: (فقَومٌ منَ المَفتونينَ سَمَّوا أنفُسَهم "ملامَتيَّة"، ولَبِسوا لُبسةَ الصُّوفيَّةِ، ليَنتَسِبوا بها إلى الصُّوفيَّةِ، وما هم منَ الصُّوفيَّةِ بشَيءٍ، بل هم في غُرورٍ وغَلَطٍ، يَتَسَتَّرونَ بلُبسةِ الصُّوفيَّة... ويَنتَهجونَ مَناهجَ أهلِ الإباحةِ، ويَزعُمونَ أنَّ ضَمائِرَهم خَلَصَت إلى اللهِ تعالى، ويَقولونَ: هذا هو الظَّفَرُ بالمُرادِ، والارتِسامُ بمَراسِمِ الشَّريعةِ رُتبةُ العَوامِّ، والقاصِرينَ الأفهامِ المُنحَصِرينَ في مَضيقِ الاقتِداءِ تَقليدًا، وهذا هو عَينُ الإلحادِ والزَّندَقةِ والإبعادِ؛ فكُلُّ حَقيقةٍ رَدَّتها الشَّريعةُ فهي زَندَقةٌ، وجَهِلَ هؤلاء المَغرورونَ أنَّ الشَّريعةَ حَقُّ العُبوديَّةِ، والحَقيقةُ هي حَقيقةُ العُبوديَّةِ، ومَن صارَ من أهلِ الحَقيقةِ تقَيَّدَ بحُقوقِ العُبوديَّةِ وصارَ مُطالَبًا بأمورٍ وزياداتٍ لا يُطالَبُ بها مَن لم يَصِلْ إلى ذلك، لا أنَّه يَخلَعُ عن عُنُقِه رِبقةَ التَّكليفِ، ويُخامِرُ باطِنُه الزَّيغَ والتَّحريفَ... ومن جُملةِ أولئِكَ قَومٌ يَقولونَ بالحُلولِ، ويَزعُمونَ أنَّ اللهَ تعالى يَحُلُّ فيهم ويَحُلُّ في أجسامٍ يَصطَفيها، ويَسبقُ لأفهامِهم مَعنًى من قَولِ النَّصارى في اللَّاهوتِ والنَّاسوتِ، ومنهم مَن يَستَبيحُ النَّظَرَ إلى المُستحَسَناتِ إشارةً إلى هذا الوَهمِ) [204] ((عوارف المعارف)) (ص: 78، 79). .
وقال ابنُ حَزمٍ الظَّاهريُّ: (ادَّعَت طائِفةٌ منَ الصُّوفيَّةِ أنَّ في أولياءِ اللهِ تعالى مَن هو أفضَلُ من جَميعِ الأنبياءِ والرُّسُلِ، وقالوا: مَن بلغَ الغايةَ القُصوى منَ الوِلايةِ سَقَطَت عنه الشَّرائِعُ كُلُّها منَ الصَّلاةِ والصِّيامِ والزَّكاةِ وغَيرِ ذلك، وحَلَّت له المُحَرَّماتُ كُلُّها منَ الزِّنا والخَمرِ وغَيرِ ذلك، واستَباحوا بهذا نِساءَ غَيرِهم، وقالوا بأنَّنا نَرى اللهَ ونُكَلِّمُه، وكُلُّ ما قُذِف في نُفوسِنا فهو حَقٌّ) [205] ((الفصل في الملل والأهواء والنحل)) (4/ 226). .
وقال ابنُ تيميَّةَ: (كُلُّ الرُّسُلِ دَعَوا إلى عِبادةِ اللهِ وحدَه لا شَريكَ له وإلى طاعَتِهم. والإيمانُ بالرُّسُلِ هو الأصلُ الثَّاني من أصلَي الإسلامِ، فمَن لم يُؤمِنْ بأنَّ مُحَمَّدًا رَسولُ اللهِ إلى جَميعِ العالمينَ، وأنَّه يَجِبُ على جَميعِ الخَلْقِ مُتابَعَتُه، وأنَّ الحَلالَ ما أحَلَّه اللهُ، والحَرامَ ما حَرَّمَه اللهُ، والدِّينَ ما شَرَعَه؛ فهو كافِرٌ، مِثلُ هؤلاء المُنافِقينَ ونَحوِهم مِمَّن يُجَوِّزُ الخُروجَ عن دينِه وشِرعتِه وطاعَتِه إمَّا عُمومًا وإمَّا خُصوصًا، ويُجَوِّزُ إعانةَ الكُفَّارِ والفُجَّارِ على إفسادِ دينِه وشِرعَتِه، ويَحتَجُّونَ بما يَفتَرونَه: أنَّ أهلَ الصُّفَّةِ قاتَلوه، وأنَّهم قالوا: نَحنُ مَعَ اللهِ، مَن كان اللَّهُ مَعَه كُنَّا مَعَه، يُريدونَ بذلك القدَرَ والحَقيقةَ الكَونيَّةَ دونَ الأمرِ والحَقيقةِ الدِّينيَّةِ، ويَحتَجُّ بمِثلِ هذا من يَنصُرُ الكُفَّارَ والفُجَّارَ ويخفِرُهم بقَلبِه وهمَّتِه وتوجُّهِه من ذَوي الفَقرِ، ويَعتَقِدونَ مَعَ هذا أنَّهم من أولياءِ اللهِ، وأنَّ الخُروجَ عنِ الشَّريعةِ المُحَمَّديَّةِ سائِغٌ لهم، وكُلُّ هذا ضَلالٌ وباطِلٌ، وإن كان لأصحابِه زُهدٌ وعِبادةٌ) [206] ((مجموع الفتاوى)) (11/ 52، 53). .

انظر أيضا: