موسوعة الفرق

المَبحَثُ الثَّاني: سَلاسِلُ التَّصَوُّفِ


منَ المُلاحَظِ أنَّ سَلاسِلَ التَّصَوُّف كُلَّها ما عَدا القَليلَ منها تَنتَهي إلى عليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عنه دونَ سائِرِ أصحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وفي طُرُقِ إسنادِها إلى عليٍّ أسماءُ أئِمَّةِ الشِّيعةِ المَعصومينَ -بحَسبِ زَعمِهم- من أولادِ عليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه دونَ غَيرِهم.
وكان له مَقامٌ ومَنزِلةٌ عِندَ الصُّوفيَّةِ حتَّى نَقَل الشَّعرانيُّ عن أحَدِ المُتَصَوِّفينَ أنَّه قال: (إنَّ عليَّ بنَ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عنه رُفِعَ كما رُفِعَ عيسى عليه السَّلامُ، وسيَنزِلُ كما يَنزِلُ عيسى عليه السَّلامُ)، ثمَّ قال الشَّعرانيُّ: (قُلتُ: وبذلك قال سَيِّدي عليٌّ الخَوَّاصُ رَضِيَ اللهُ عنه، فسَمِعتُه يَقولُ: إنَّ نوحًا عليه السَّلامُ أبقى منَ السَّفينةِ لوحًا على اسمِ عليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عنه يُرفَعُ عليه إلى السَّماءِ، فلم يَزَلْ مَحفوظًا في صيانةِ القُدرةِ حتَّى رُفِع عليُّ بنُ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عنه) [123] ((طبقات الشعراني)) (2/44). .
قال مُحَمَّد مَعصوم: (لا بُدَّ لكُلِّ سِلسِلةٍ من سَلاسِلِ التَّصَوُّفِ منَ الأزَلِ إلى الأبَدِ، ومن آدَمَ إلى انقِراضِ الدُّنيا أن تَكونَ مُتَّصِلةً بسَيِّدِ العالَمينَ وأميرِ المُؤمنينَ) [124] ((طرائق الحقائق)) (1/ 251). ؛ لأنَّه (أزهَدُ الصَّحابةِ عِندَ المُتَصَوِّفةِ) [125] يُنظر: ((قوت القلوب)) للمكي (1/ 267). .
وقال ابنُ خَلدون: (إنَّهم لمَّا أسنَدوا لباسَ خِرقةِ التَّصَوُّفِ ليَجعَلوه أصلًا لطَريقَتِهم ونِحلتِهم رَفعوه إلى عليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه، وهو من هذا المَعنى أيضًا، وإلَّا فعليٌّ رَضِيَ اللهُ عنه لم يَختَصَّ من بَينِ الصَّحابةِ بتَخليةٍ ولا طَريقةٍ في لباسٍ ولا حالٍ، بل كان أبو بكرٍ وعُمَرُ رَضِيَ اللهُ عنهما أزهَدَ النَّاسِ بَعدَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأكثَرَهم عِبادةً، ولم يَختَصَّ أحَدٌ منهم في الدِّينِ بشَيءٍ يُؤثَرُ عنه في الخُصوصِ، بل كان الصَّحابةُ كُلُّهم أُسوةً في الدِّينِ والزُّهدِ والمُجاهَدةِ، تَشهَدُ بذلك سِيَرُهم وأخبارُهم. نَعَمْ، إنَّ الشِّيعةَ يخيِّلون بما يَنقُلونَ من ذلك اختِصاصَ عليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه بالفضائِلِ دونَ مَن سِواه منَ الصَّحابةِ ذَهابًا مَعَ عَقائِدِ التَّشَيُّعِ المَعروفةِ لهم، والذي يَظهَرُ أنَّ المُتَصَوِّفةَ بالعِراقِ لمَّا ظَهَرَتِ الإسماعيليَّةُ منَ الشِّيعةِ، وظَهر كَلامُهم في الإمامةِ وما يَرجِعُ إليها ما هو مَعروفٌ، فاقتَبَسوا من ذلك الموازَنةَ بَينَ الظَّاهرِ والباطِنِ، وجَعَلوا الإمامةَ لسياسةِ الخَلَفِ في الانقيادِ إلى الشَّرعِ...ثمَّ جَعَلوا القُطبَ لتَعليمِ المعرِفةِ باللهِ؛ لأنَّه رَأسُ العارِفينَ، وأفرَدوه بذلك تَشبيهًا بالإمامِ في الظَّاهرِ، وأن يَكونَ على وِزانِه في الباطِنِ، وسَمَّوه قُطبًا لمَدار المعرِفةِ عليه، وجَعَلوا الأبدالَ كالنُّقَباءِ مُبالغةً في التَّشبيهِ، فتَأمَّلْ ذلك. يَشهَدُ لذلك من كَلامِ هؤلاء المُتَصَوِّفةِ في أمرِ الفاطِميِّ وما شَحَنوا كُتُبَهم في ذلك ممَّا ليس لسَلَفِ المُتَصَوِّفةِ فيه كَلامٌ بنَفيٍ أو إثباتٍ، وإنَّما هو مَأخوذٌ من كَلامِ الشِّيعةِ والرَّافِضةِ ومَذاهِبِهم في كُتُبِهم. واللهُ يهدي إلى الحَقِّ) [126] ((مقدمة ابن خلدون)) (ص: 473). .
ونِسبةُ هذه الخِرقةِ إلى عليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه، ورِوايةُ لُبسِ الحَسَنِ البَصريِّ لها: كُلُّه باطِلٌ لا أصلَ له؛ لأنَّه (لم يَثبُتْ لقاءُ الحَسَنِ مَعَ عليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عنه، على القَولِ الصَّحيحِ؛ لأنَّ عليًّا رَضِيَ اللهُ عنه انتَقَل منَ المَدينةِ إلى الكوفةِ، والحَسَنُ صَغيرٌ) [127] يُنظر: ((تهذيب التهذيب)) لابن حجر (2/ 266)، ((تحفة الأحوذي)) للمباركفوري (2/ 317، 318). .
وعلى كُلٍّ، فإنَّ الصُّوفيَّةَ يَنتَهونَ بسَنَدِ لُبسِ الخِرقةِ إلى عليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عنه، كما يُنهونَ إليه سَلاسِلَهم.
قال مُحَمَّد مَعصوم: (إنَّ عليَّ بنَ أبي طالبٍ خاتَمُ الوِلايةِ المُحَمَّديَّةِ؛ فكَميلُ بنُ زيادٍ النَّخعيُّ، والحَسَنُ البَصريُّ، وأُوَيسٌ القَرنيُّ أخَذوا عن عليِّ بنِ أبي طالبٍ عليه السَّلامُ. والشَّقيقُ البَلخيُّ أخَذَ عنِ الكاظِمِ عليه السَّلامُ، والشَّيخُ أبو زَيدٍ أخَذَ عن جَعفرٍ الصَّادِقِ، والشَّيخُ مَعروفٌ أخذَ عنِ الرِّضا، والشَّيخُ سَرِيٍّ أخذَ عنه، والشَّيخُ جُنَيدٌ أخذ عنِ السَّرِيِّ، ومنَ الغَرائِبِ أنَّ المُتَصَوِّفةَ يَعتَقِدونَ للحَسَنِ العَسكَريِّ ابنًا، كالشِّيعةِ الاثنَي عَشريَّةِ، مَعَ اتِّفاقِ أهلِ السُّنَّةِ والمُؤَرِّخينَ، وشَهادةِ الشِّيعةِ ونَقيبِ الأشرافِ وأخيه العَسكَريِّ وأمِّه، بأنَّه لم يولَدْ له وَلَدٌ! وأثبتُ رِوايةٍ فيه وأقومُ حُجَّةٍ ما رَواه الكُلينيُّ بنَفسِه، والآخَرونَ من مُؤَرِّخي الشِّيعةِ وأعلامِهم أنَّ الحَسَنَ العَسكَريَّ لمَّا دُفِنَ «أخَذَ السُّلطانُ والنَّاسُ في طَلَبِ وَلَدِه، وكَثُرَ التَّفتيشُ في المَنازِلِ والدُّورِ، وتَوقَّفوا عن قِسمةِ ميراثِه، ولم يَزَلِ الذينَ وُكِّلوا بحِفظِ الجاريةِ التي تُوهِّمَ عليها الحَملُ مُلازِمينَ حتَّى تَبَيَّنَ بُطلانُ الحَملِ، فلمَّا بَطَل الحَملُ قُسِمَ ميراثُه بَينَ أمِّه وأخيه جَعفَرٍ، وادَّعَت أمُّه وصيَّتَه، وثَبَت ذلك عِندَ القاضي» [128] ((الكافي)) (ص: 505). [129] يُنظر: ((التصوف - المنشأ والمصادر)) لظهير (ص: 156، 157). .
إذًا بَعضُ المُتَصَوِّفةِ يَقولونَ: إنَّه وُلدَ للحَسَنِ العَسكَريِّ ولدٌ، وهو الذي سيَخرُجُ مَهدِيًّا، كَعَقيدةِ الشِّيعةِ تَمامًا بدونِ أدنى تَغييرٍ، فيَقولونَ: (هناكَ يُتَرَقَّبُ خُروجُ المَهديِّ عليه السَّلامُ، وهو من أولادِ الإمامِ حَسَنٍ العَسكَريِّ، ومولِدُه عليه السَّلامُ ليلةَ النِّصفِ من شَعبانَ سَنةَ خَمسٍ وخَمسينَ ومِائَتَينِ، وهو باقٍ إلى أن يَجتَمِعَ بعيسى بنِ مَريَمَ عليه السَّلامُ، فيَكونُ عُمُرُه إلى وقتِنا هذا -وهو سَنةَ ثَمانٍ وخَمسينَ وتِسعِمائةٍ- سَبعَمِائةِ سَنةٍ وسِتَّ سِنينَ. هَكَذا أخبَرَني الشَّيخُ حَسَنٌ العِراقيُّ المَدفونُ فوقَ كَومِ الرِّيشِ المُطِلِّ على بِركةِ الرَّطلِ بمِصرَ المَحروسةِ على الإمامِ المَهديِّ حينَ اجتَمَعَ به. ووافقَه على ذلك شَيخُنا سَيِّدي عليٌّ الخَوَّاصُ رَحِمَهما اللهُ تعالى) [130] يُنظر: ((اليواقيت والجواهر في عقائد الأكابر)) للشعراني (2/ 422). .
وقال الصُّوفيُّ أبو الظَّفرِ ظَهيرُ الدِّينِ القادِريُّ: (القُطبيَّةُ كانت للأئِمَّةِ الاثنَي عَشَرَ بطريقِ الاستِقلالِ، ولمَن بَعدَهم بطَريقِ النِّيابةِ) [131] ((الفتح المبين)) (ص: 18). .

انظر أيضا: