موسوعة الفرق

المَطلَبُ الثَّالثُ: الحُدودُ الخَمسةُ


في العَقيدةِ الإسماعيليَّةِ مَبدَأٌ أساسيٌّ في التَّوحيدِ والإيمانِ، هو أنَّ تَوحيدَ اللَّهِ لا يَكمُلُ إلَّا بمَعرِفةِ مَراتِبِ الحُدودِ الرُّوحانيَّةِ، والحُدودِ الجُسمانيَّةِ، والإيمانِ بهم وطاعَتِهم طاعةً تامَّةً، وهذه الحُدودُ هي: (العَقلُ، والنَّفسُ، والجِدُّ، والفَتحُ، والخَيالُ). وهذه الحُدودُ العُلويَّةُ مَمثولاتٌ لحُدودِ الدِّينِ الجُسمانيَّةِ الذين همُ النُّطَقاءُ، والأوصياءُ، والأئِمَّةُ، والحُجَجُ، والدُّعاةُ [3441] يُنظر: ((طائفة الدروز)) لمحمد كامل حسين (ص: 110). .
وذَهَبَ الإسماعيليُّونَ كذلك إلى أنَّ اللَّهَ تعالى أبدَع العَقلَ الكُلِّيَّ، وبوساطَتِه وُجِدَتِ النَّفسُ الكُلِّيَّةُ، وبوساطَتِها وُجِدَتِ المَخلوقاتُ كُلُّها.
فالعَقلُ الكُلِّيُّ عِندَهم هو الخالقُ الحَقيقيُّ، ومِن هنا قالوا: إنَّ أسماءَ اللَّهِ الحُسنى الوارِدةَ في القُرآنِ الكريمِ هي أسماءٌ للعَقلِ الكُلِّيِّ، واعتَبَروا أنَّ الإمامَ الفاطِميَّ مُمَثِّلٌ للعَقلِ الكُلِّيِّ، وأنَّ جَميعَ مَناقِبِ العَقلِ الكُلِّيِّ وصِفاتِه تُطلَقُ أيضًا على الإمامِ [3442] يُنظر: ((أضواء على العقيدة الدرزية)) للفوزان (ص: 35). .
ودُعاةُ الدُّروزِ أخَذوا آراءَ الفاطِميِّينَ في الحُدودِ، وحَوَّروها حتَّى تَتَّفِقَ مَعَ مَبادِئِهم وآرائِهم، فخالَفوا بذلك آراءَ الفاطِميِّينَ مُخالَفةً جَوهَريَّةً. ومِن ذلك: (أنَّ الحُدودَ الرُّوحانيَّةَ هم أنفُسهمُ الحُدودُ الجُسمانيَّةُ، فلا يوجَدُ عِندَهم مَثَلٌ ومَمثولٌ، أي: أنَّ الحُدودَ الجُسمانيَّةَ هم أنفُسهمُ الحُدودُ العُلويَّةُ، فذَهَبوا إلى أنَّ المَعبودَ أبدَع مِن نورِه العَقلَ الكُلِّيَّ، وهو الإرادةُ، وهو عِلَّةُ العِلَلِ، وهو القَلَمُ، وهو القَضاءُ، وهو ألِفُ الابتِداءِ وألِفُ الانتِهاءِ، وهو قائِم الزَّمانِ حَمزةُ بنُ عَليٍّ) [3443] ((طائفة الدروز)) لمحمد كامل حسين (ص: 110). .
وناقَشَ حَمزةُ رَأيَ الفاطِميِّينَ في حُدودِ الدِّينِ، فقال: (اعلَموا مَعاشِرَ الموحِّدينَ رَحِمَكمُ البارُّ العَزيزُ الجَبَّارُ بأنَّ جَميعَ المُؤمِنينَ والشُّيوخِ المُتَقدِّمينَ تَحَيَّروا في أمرِ السَّابقِ وضِدِّه، والتَّالي ونِدِّه، فبَعضُهم قالوا بأنَّ السَّابقَ هو الغايةُ والنِّهايةُ، والعِبادةُ له وحدَه دونَ غَيرِه في كُلِّ عَصرٍ وزَمانٍ، وهذا نَفسُ الكُفرِ. وقالت طائِفةٌ مِنهم: إنَّ السَّابقَ نورُ الباري، لكنَّه نورٌ لا تُدرِكُه الأوهامُ والخَواطِرُ، وهذا نَفسُ الشِّركِ بأن يكونَ الباري سُبحانَه لا يُدرَكُ، وعَبدُه لا يُدرَكُ، فأينَ الفرقُ بَينَ العَبدِ والمَعبودِ؟ وهذا مُحالٌ ونَفسُ الشِّركِ والضَّلالِ) [3444] رسالة ((كشف الحقائق)) ضمن ((رسائل الحكمة)) (1/ 130، 131). .
وهَكذا أظهَرَ حَمزةُ الحُدودَ في صورٍ تَختَلفُ عَمَّا عَهدَه أصحابُ العَقيدةِ الفاطِميَّةِ الإسماعيليَّةِ؛ فحَمزةُ بنُ عَليٍّ هو نَفسُه العَقلُ الكُلِّيُّ، وهو الإرادةُ، وهو عِلَّةُ العِلَلِ، وهو القَلَمُ، وهو القَضاءُ، إلى غَيرِ ذلك مِنَ الألقابِ التي مَنَحَها لنَفسِه، وهذا العَقلُ الكُلِّيُّ ليس هو السَّابقَ، إنَّما السَّابقُ مَرتَبَتُه أقَلُّ بكثيرٍ مِن مَرتَبةِ العَقلِ الكُلِّيِّ؛ فإنَّه في المَرتَبةِ الرَّابعةِ مِن مَراتِبِ الحُدودِ عِندَ حَمزةَ.
كذلك التَّالي، وهو النَّفسُ الكُلِّيَّةُ عِندَ الفاطِميِّينَ، فقد جَعَلَ حَمزةُ مَرتَبةً في المَرتَبةِ الخامِسةِ، وجَعَلَ الفاطِميُّونَ الكَلِمةَ مُكوَّنةً مِنَ السَّابقِ والتَّالي، بَينَما جَعَلَ حَمزةُ الكَلِمةَ هي المَرتَبةَ الثَّالثةَ مِن مَراتِبِ الحُدودِ [3445] ((طائفة الدروز)) لمحمد كامل حسين (ص: 112). .
وجَميعُ هؤلاء الحُدودِ مشخَّصون ليس في زَمَنِ الحاكِمِ وحَسبُ، بل في جَميعِ العُصورِ [3446] يُنظر: ((مذاهب الدروز والتوحيد)) للنجار (ص: 138). . فقد زاروا العالمَ بظُروفٍ وأدوارٍ مُختَلفةٍ؛ إذ هم ليسوا مَولودينَ بل مَوجودينَ، لا يمَسُّهمُ المَوتُ؛ إذ همُ الرُّوحُ الحَقيقيُّ الذي لا يخلو مِنه عَصرٌ، وهم رُسُلُ الحاكِمِ في كُلِّ دَورٍ وإن أخَذوا أسماءً مُختَلفةً وأقمِصةً مُتَعَدِّدةً.
ووضَّحَ الدَّرْزيُّ إسماعيلُ التَّميميُّ مَراتِبَ الحُدودِ وأسماءَهم، فقال: (الحَمدُ لمَن أبانَ تَوحيدَه بإقامةِ حُدودِه، وكشفَ عن مجيدِه بمَراتِبِ آياتِه، وضَربَ بذلك الأمثالَ ليعبُدوه ذَوي الألبابِ [3447] كذا في الأصل. ، فقال: «وما يتذكَّرُ أولُوا الألبابِ» [3448] الصحيح إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ [الزمر: 9] . . والشَّمعةُ أُقيمَت كامِلةً بجَميعِ آلاتِها على التَّوحيدِ المَحضِ، فشَمعةٌ: خَمسةُ أحرُفٍ دَليلٌ على الخَمسِ جَواهِرَ المَكنونةِ، وهم: الإرادةُ، والمَشيئةُ، والكَلِمةُ، والسَّابقُ، والتَّالي، فهؤلاء شَمعةُ التَّوحيدِ. وعلى بَعضِ الوُجوهِ، إنَّ الشَّمعَ لا يُقدُ إلَّا بالقُطنِ، والقُطنُ لا تُقدُ إلَّا بالشَّمعِ، ولَم يقَعْ عليها اسمُ شَمعةٍ كامِلةٍ يُستَضاءُ بنورِها إلَّا بتَعَلُّقِ النَّارِ فيها، والنَّارُ الذي يتَعَلَّقُ فيها فهو لَطيفٌ وكثيفٌ، فاللَّطيفُ فيه لسانُ العالي الأحمَرُ الذي تَعتَريه زُرقةٌ يختَفي مَرَّةً ويظهَرُ مَرَّةً، فذلك دَليلٌ على قائِمِ الزَّمانِ حَمزةَ بنِ عَليِّ بنِ أحمَدَ، والنَّارُ الذي يوقِدُ الشَّمعَ دَليلٌ على حُجَّتِه: إسماعيلَ بنِ مُحَمَّدِ بنِ حامِدٍ، والشَّمعُ دَليلٌ على الكلمةِ مُحَمَّدِ بنِ وهبٍ، والقُطنُ دَليلٌ على السَّابقِ سَلامةَ بنِ عَبدِ الوهَّابِ، والطَّستُ الذي هو الحَسكةُ دَليلٌ على التَّالي عَليِّ بنِ أحمَدَ السَّموقيِّ، فهذه الخَمسةُ حُدودٍ. كذلك مَن عَدِمَ مَعرِفةَ هذه الخَمسةِ حُدودٍ لم يعرِفِ التَّوحيدَ في وقتِنا هذا، وكان تَوحيدُه دَعوى، فليعلَموا الموحِّدونَ ذلك ويعتَقِدونَ ولا يعبُدونَ المَولى بلا مَعرِفةٍ، فقد قال: «حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ» [3449] ((الرسالة الموسومة بالشمعة)) ضمن ((رسائل الحكمة)) (1/ 277- 279). .
وعلى ضَوءِ ما ورَدَ في رِسالةِ «ذِكرُ مَعرِفةِ الإمامِ وأسماءِ الحُدودِ العُلويَّةِ روحانيَّةً وجُسمانيَّةً» يُمكِنُ تَرتيبُ حُدودِ الدُّروزِ الخَمسةِ على النَّحوِ الآتي:
أوَّلًا: النَّفسُ، وهو ذو مِعةٍ، عِلَّةُ العِلَلِ، والآمِرُ قائِمُ الزَّمانِ، وهو الإرادةُ، وهو الإمامُ الأعظَمُ حَمزةُ بنُ عَليِّ بنِ أحمَدَ، هادي المُستَجيبينَ.
ثانيًا: النَّفسُ، وهو ذو مِصةٍ، وهو المَشيئةُ، إدريسُ زَمانِه، وأخنوخُ أوانِه، هرمسُ الهَرامِسةِ، الحُجَّةُ الصَّفيَّةُ الرَّضيَّةُ، الشَّيخُ المُجتَبى، أبو إبراهيمَ إسماعيلُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ حامِدٍ التَّميميُّ، صِهرُ حَمزةَ بنِ عَليٍّ.
ثالثًا: الكَلِمةُ، وهو سَفيرُ القُدرةِ، ذو مِصةٍ، فخرُ الموحِّدينَ، وبَشيرُ المُؤمِنينَ، وعِمادُ المُستَجيبينَ، الشَّيخُ الرِّضا، أبو عَبدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بنُ وهبٍ القُرَشيُّ.
رابعًا: السَّابقُ، وهو الجَناحُ الأيمَنُ، نِظامُ المُستَجيبينَ وعِزُّ الموحِّدينَ، أبو الخَيرِ سَلامةُ بنُ عَبدِ الوهَّابِ السَّامِريُّ.
خامِسًا: التَّالي، وهو الجَناحُ الأيسَرُ، لسانُ المُؤمِنينَ وسَنَدُ الموحِّدينَ، ومَعدِنُ العُلومِ، الذي يقومُ بالأفعالِ الصَّحيحةِ المَعلومةِ، والنَّاصِحُ لكافَّةِ الخَلقِ أجمَعينَ، الشَّيخُ المُقتَني بَهاءُ الدِّينِ أبو الحَسَنِ عَليُّ بنُ أحمَد السَّموقيُّ، المَعروفُ بـ «الضَّيفِ» [3450] يُنظر: ((رسالة ذكر معرفة الإمام وأسماء الحدود العلوية روحانيًّا وجسمانيًّا)) ضمن ((رسائل الحكمة)) (1/ 240، 241). .
والحُدودُ الأربَعةُ الذين يلونَ العَقلَ الكُلِّيَّ، همُ الأربَعةُ الحُرمُ، وهؤلاء الحُدودُ يَظهَرونَ في كُلِّ عَصرٍ في صورٍ مُختَلفةٍ وأسماءٍ مُتَبايِنةٍ؛ فمَثَلًا عِندَما ظَهَرَ حَمزةُ في صورةِ سَلمانَ الفارِسيِّ في زَمَنِ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ظَهَرَتِ الحُدودُ الأربَعةُ الأُخرى بصُوَرٍ أربَعةٍ، وهم: المِقدادُ، وأبو ذَرٍّ، وعَمَّارُ بنُ ياسِرٍ، والنَّجاشيُّ [3451] يُنظر: ((الدروز والثورة السورية)) لكريم ثابت (ص: 36)، واعتبار النجاشي صحابيًّا لا يصلح بالتعريفِ المعتَمَدِ؛ لأنَّه لم يشاهِدِ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. .
ومِمَّا يُذكَرُ أنَّ التَّاليَ -أي: بَهاءَ الدِّينِ- له ثَلاثةُ حُدودٍ، هم:
الحدُّ: وهو أيُّوبُ بنُ عَليٍّ.
الفتحُ: وهو رِفاعةُ بنُ عَبدِ الوارِثِ.
الخَيالُ: وهو مُحسِنُ بنُ عَليٍّ.
وهؤلاء الثَّلاثةُ يتَلَقَّونَ أوامِرَهم مِن بَهاءِ الدِّينِ، وليس لهمُ المَكانةُ التي للحُدودِ الحُرمِ [3452] يُنظر: ((طائفة الدروز)) لمحمد حسين (ص: 114). .
وسُمِّي الحُدودُ الأربَعةُ حُرمًا؛ لأنَّ حَمزةَ مَقامَه مِنهم مَقامُ الرِّجالِ، وهم نِساؤُه، ولأنَّهم عِندَه بمَنزِلةِ النِّساءِ في طاعَتِهم له [3453] مخطوط، ذكر ما يجب أن يعرفه الموحد ويعتقد به، مكتبة القديس بولس في الجامعة الأمريكية ببيروت (رقم 206)، ويوجد شريط عنه في الجامعة الأردنية (رقم 715). .
وحتَّى يكونَ التَّوحيدُ شامِلًا جَعَلوا لمَرتَبةِ العَقلِ سَبعينَ حُجَّةً، وعن هؤلاء الحُجَجِ السَّبعينَ تَفرَّعَتِ الحُدودُ جَميعًا بَينَ دُعاةٍ ومَأذونِينَ ومُكاسِرينَ.
وجَميعُ الحُدودِ الحُرمِ وغَيرِ الحُرمِ كُلُّهم مِن قِبَلِ العَقلِ، يُسقِطُ مَن يُريدُ، ويرفعُ دَرَجةَ مَن يشاءُ، والحُدودُ السَّبعونَ بزَعمِهم همُ الذين أتى على ذِكرِهمُ القُرآنُ الكريمُ بقَولِه تعالى: ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ [الحاقة: 32] ، يعني: حُدودَ دَعوةِ التَّوحيدِ سِلسِلةٌ بَعضُها في بَعضٍ، وهم سَبعونَ رَجُلًا موزَّعينَ ومُنَظَّمينَ على النَّحوِ الآتي:
أوَّلًا: النَّفسُ الكُلِّيَّةُ، ولها اثنتا عَشرةَ حُجَّةً في الجُزُرِ، وسَبعةُ دُعاةٍ للأقاليمِ.
ثانيًا: الكَلِمةُ، ولها اثنتا عَشرةَ حُجَّةً، وسَبعةُ دُعاةٍ.
ثالثًا: السَّابقُ، وله اثنتا عَشرةَ حُجَّةً فقَط.
رابعًا: التَّالي، وله اثنتا عَشرةَ حُجَّةً فقَط.
خامِسًا: الدَّاعي المُطلَقُ، وله مَأذونٌ واحِدٌ، ومُكالبانِ -أو مُكاسِرانِ- [3454] يُنظر: ((الحركات الباطنية في الإسلام)) لمصطفى غالب (ص: 262 ،263). .
وقد أوضَحَتِ الرِّسالةُ المَوسومةُ بكَشفِ الحَقائِقِ هذه الحُدودَ بقَولِها: (فهؤلاء الحُدوُد السَّبعونَ التي ذَكرناهم هم أذرُعُ السِّلسِلةِ، الذي قال في القُرآنِ: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ [الحاقة: 30] ، أي: ضِدُّ الإمامِ إذا بَلَغَ غايتَه وتَمَّت نَظرَتُه، خُذوه بالحُجَجِ العَقليَّةِ وغُلوُّه بالعَهدِ وهو الذَّبحُ الذي قالوا بأنَّ القائِمَ يذبَحُ إبليسَ الأبالسةِ، ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ [الحاقة: 31] ، أي: غَوامِضَ عُلومِ قائِمِ الزَّمانِ.. ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ [الحاقة: 32] ، أي: ميثاقُ قائِمِ الزَّمانِ الذي هو سِلسِلةٌ بَعضُها في بَعضٍ، وهم سَبعونَ رَجُلًا في دَعوةِ التَّوحيدِ.
فهذه السِّلسِلةُ الحَقيقيَّةُ ومَعانيها، لا كما ذَكرَه الجُهَّالُ الحَشويَّةُ [3455] يقصد المسلمين. ، ولو كان كما قالوا في الظَّاهرِ لم يكُنْ قَولُهم حِكمةً؛ لأنَّ مَن كان في غُلِّ جَهَنَّمَ وعليه مُتَوكِّلو الزَّبانيةِ لا يحتاجُ إلى سِلسِلةٍ؛ لأنَّه لا يستَطيعُ الخُروجَ مِنَ النَّارِ ولو كان نَسيًّا، فكيف وقد غَلُّوه؟ فإن قالوا: بأنَّ اللَّهَ أرادَ بالسِّلسِلةِ تَهديدَ أهلِ النَّارِ والتَّعظيمَ عليهم، فقد بَطَلَت حُجَّتُهم هاهنا؛ لأنَّه قال سَبعونَ ذِراعًا، ولو كان بسَبَبِ التَّعظيمِ لَكان يجِبُ أن يكونَ ألفَ ذِراعٍ، فلَمَّا لم يذكُرْ غَيرَ سَبعينَ ذِراعًا أعلَمَنا أنَّه أرادَ بذلك أشخاصًا مَعروفةً دينيَّةً تَوحيديَّةً، لا يجوزُ لأحَدٍ أن يتَجاوزَ حَدَّهم، ولا يزيدَ ولا ينقُصَ) [3456] يُنظر: ((الرسالة الموسومة بكشف الحقائق)) ضمن ((رسائل الحكمة)) (1/138). !
وقالوا في تَأويلِ (بسمِ اللَّهِ الرَّحمَنِ الرَّحيمِ) أنَّها: (تِسعةَ عَشَرَ حَرفًا؛ إشارةً إلى حُدودِ حَمزةَ تِسعةَ عَشَرَ رَجُلًا؛ فلذلك عِندَما يكتُبونَ «بسمِ اللَّهِ الرَّحمَنِ الرَّحيمِ» يُلحِقونَها بقَولِهم: حُدودُ عَبدِه الإمامِ) [3457] مخطوط في تقسيم جبل لبنان: الجامعة الأمريكية في بيروت (رقم 31)، ويوجد شريط عنه في الجامعة الأردنية (رقم 699). .
فعِندَهم (بسمِ اللَّهِ) سَبعةُ أحرُفٍ دَليلٌ على سَبعةِ دُعاةٍ أصحابِ الأقاليمِ السَّبعةِ، و (الرَّحمَنِ الرَّحيمِ) اثنا عَشَرَ حَرفًا دَليلٌ على اثنَي عَشَر دُعاةَ الجَزائِرِ [3458] يُنظر: ((طائفة الدروز)) لمحمد كامل حسين (ص: 115). .
وقد ورَدَ هذا التَّأويلُ في (الرِّسالةِ المَوسومةِ بسَبَبِ الأسبابِ) التي كتَبَها حَمزةُ؛ حَيثُ قال: (وفي السَّطرِ الرَّابعِ صِفاتُ العِلَّة «بسمِ اللَّهِ الرَّحمَنِ الرَّحيمِ» وهم صِفاتُ هذه العِلَّةِ المَذكورةِ الذي هو الإمامُ؛ لأنَّ «بسمِ اللَّهِ» سَبعةُ أحرُفٍ دَليلٌ على سَبعةِ دُعاةٍ، أصحابِ الأقاليمِ السَّبعةِ، و«الرَّحمَنِ الرَّحيمِ» اثنا عَشَرَ حَرفًا دَليلٌ على اثنا عَشَر داعيًا، أصحابُ الاثنا عَشَرَ [3459] كذا في الأصل. جَزيرةً، وأيضًا دَليلٌ على سَبعةِ أفلاكٍ، واثنا عَشَرَ بُرجًا، وهم كُلُّهم مَوجودونَ في عَصرِ مَولانا جَلَّ ذِكرُه مُستخدَمون تَحتَ أمرِ هذا الإمامِ) [3460] ((الرسالة الموسومة بسبب الأسباب)) ضمن ((رسائل الحكمة)) (1/155). .
ولذا يوجَدُ في مُقدِّمةِ كثيرٍ مِن رَسائِلِ الدُّروزِ ذِكرُ (بسمِ اللَّهِ الرَّحمَنِ الرَّحيمِ) على أنَّها حُدودُ عَبدِه الإمامِ، مِن ذلك (المَوسومةُ برِسالةِ النِّساءِ الكبيرةِ)؛ حَيثُ يقولُ مُؤَلِّفها: (تَوكَّلتُ على مَولانا البارِّ العَلَّامِ العَليِّ الأعلى على جَميعِ الأنامِ، جَلَّ ذِكرُه عن وَصفِ الواصِفينَ وإدراكِ الأنامِ، حُروف «بِسمِ اللَّهِ الرَّحمَنِ الرَّحيمِ» عَبده الإمام) [3461] ((الموسومة برسالة النساء الكبيرة)) ضمن ((رسائل الحكمة)) (1/195). .
واحتِرامُ الحُدودِ عِندَهم مُعتَقَدٌ أكيدٌ؛ لأنَّهم وسائِطُ اللَّهِ تعالى وأبوابُه وسُفراؤُه، ومِنهمُ الوُصولُ إليه.
قال حَمزةُ بنُ عَليٍّ: (واعرِفوا الحُدودَ بأسمائِهم وصِفاتِهم، ونَزِّلوهم في رُتَبِهم ومَنازِلهم؛ فإنَّه أبوابُ الحِكمةِ، ومَفاتيحُ الرَّحمةِ) [3462] ((رسالة التحذير والتنبيه)) ضمن ((رسائل الحكمة)) (1/ 245). .
وبَعدَ هذا التَّعريفِ الإجماليِّ عنِ الحُدودِ ومَكانتِهم عِندَ الدُّروزِ، يأتي الحَديثُ عن كُلِّ واحِدٍ مِنهم على انفِرادٍ.
الحَدُّ الأوَّلُ: العَقلُ
العَقلُ: هو أوَّلُ الحُدودِ، وإمامُهم عِندَ الدُّروزِ، وقد ظَهَرَ بزَعمِهم في جَميعِ الأدوارِ بأسماءٍ مُختَلفةٍ:
في دَورِ آدَمَ كان اسمُه شطنيلَ.
في دَورِ نوحٍ كان اسمُه فيثاغورسَ.
في دَورِ إبراهيمَ كان اسمُه داوُدَ.
في دَورِ موسى كان اسمُه شُعَيبًا.
في دَورِ عيسى كان اسمُه المَسيحَ يَسوعَ، وهو المَسيحُ الحَقيقيُّ صاحِبُ الإنجيلِ.
في دَورِ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان اسمُه سَلمانَ الفارِسيَّ.
في دَورِ الحاكِمِ كان اسمُه حَمزةَ [3463] يُنظر: ((مذهب الدروز والتوحيد)) للنجار (ص: 123)، ((ذكر ما يجب أن يعرفه الموحد ويعتقد به)) مخطوط في الجامعة الأمريكية ببيروت - مكتبة القديس بولس (رقم 206)، ويوجد شريط عنه في الجامعة الأردنية (رقم 715). .
وقد خَصَّ حَمزةُ نَفسَه بعِدَّةِ ألقابٍ وصِفاتٍ لم يُسبِغْها نَبيٌّ مِنَ الأنبياءِ على نَفسِه؛ فهو الآيةُ الكُبرى، والعَقلُ الكُلِّيُّ، والإرادةُ، وعِلَّةُ العِلَلِ، وذو مِعةٍ. ووصَف نَفسَه في (رِسالةِ التَّحذيرِ والتَّنبيِه): (بأنَّه صلُ مُبدِعاتِ المَولى، وأنا سِراطُه والعارِفُ بأمرِه، وأنا الطُّورُ والكِتابُ المَسطورُ والبَيتُ المَعمورُ، أنا صاحِبُ البَعثِ والنُّشورِ، أنا النَّافِخُ في الصُّدورِ، وأنا الإمامُ المَتينُ، وأنا صاحِبُ النِّعَمِ، وأنا ناسِخُ الشَّرائِعِ ومُبطِلُها، وأنا مُهلِكُ العالَمينَ، وأنا مُبطِلُ الشَّهادَتَينِ، وأنا النَّارُ الموقَدةُ التي تَطَّلعُ على الأفئِدةِ، وأنَّه هو الذي أملى القُرآنَ على مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، إلى غَيرِ ذلك مِنَ النُّعوتِ التي أسبَغَها على نَفسِه وذَخَرَت رَسائِلُه بها) [3464] ((التحذير والتنبيه)) لحمزة- ضمن ((رسائل الحكمة)) (1/ 243). .
ولحَمزةَ أعظَمُ ذِكرٍ وأجَلُّه بَعدَ الحاكِمِ حتَّى اليومِ عِندَ الدُّروزِ، باعتِبارِه العَقلَ الكُلِّيَّ والإمامَ وقائِمَ الزَّمانِ.
قال الدَّرْزيُّ سامي مَكارِم عن هذا الإجلالِ: (إنَّ العَقلَ الأرفَعَ أوِ الكُلِّيَّ، حَسِبَ عَقيدةِ التَّوحيدِ، هو مَصدَرُ انبثاقِ جَميعِ الكائِناتِ، وهو عَينُ بَقائِها في هذا الوُجودِ الظَّاهرِ، ومِنه ابتُدِعَت، فهي لا تَنفصِلُ عنه ولا ينفصِلُ عنها مِن حَيثُ العِلَّةُ والمَعلولُ؛ فالعَقلُ الأرفَعُ هو واسِطةُ الكَشفِ والمَعرِفةِ، أداةُ المُشاهَدةِ في كُلِّ نَفسٍ مُؤمِنةٍ) [3465] ((أضواء على مسلك التوحيد)) (ص: 123 – 124). .
وفي رِسالةِ (من دون قائِمِ الزَّمانِ) الاستِدلالُ فيها على إمامةِ قائِمِ الزَّمانِ بأنَّه: دَعا إلى عِبادةِ مَوجودٍ ظاهرٍ وإلهٍ في جَميعِ الأُمورِ قادِرٍ، فجاءَ فيها: (أوَّلُ دَليلٍ على إمامةِ القائِمِ أنَّه أتى بضِدِّ العالَمِ؛ لأنَّ جَميعَ النُّطَقاءِ والأُسُسِ وأصحابِ الأدوارِ والأكوارِ أشاروا إلى عَدَمٍ مَوهومٍ، وأبعَدوه عن حَواسِّ العالمِ، وأنَّ قائِمَ الزَّمانِ والهاديَ إلى طاعةِ الرَّحمَنِ عليه مِنَ المَولى السَّلامُ دَعا إلى مَوجودٍ ظاهرٍ وإلهٍ في جَميعِ الأُمورِ قادِرٍ، وكُلُّ مَن دَعا إلى الحاكِمِ المَعبودِ الإلهِ المَوجودِ فقد أنصَف مِن نَفسِه. ووجهٌ آخَرُ أنَّه أظهَرَ أغراضَه في دَفعةٍ واحِدةٍ، وقد عَلمَ أهلُ الشَّرقِ والغَربِ أنَّه دَعا إلى تَوحيدِ مَولانا جَلَّ ذِكرُه، ثُمَّ بَعدَ ذلك خَيَّروا العالمَ ومَكَّنوا مِن أديانِهم وإظهارِها، فصَحَّ أنَّ ذلك لأهلِ التَّوحيدِ... وأيضًا فإنَّ عِمارةَ الكنائِسِ، وإزالةَ حَملِ الصُّلبانِ، وعِزَّهم على المُسلمينَ في كُلِّ مَكانٍ، أدَلُّ دَلالةٍ على أنَّ الإسلامَ قدِ اضمَحَلَّ وبَطَلَ، وأنَّه الحَقُّ قد أنارَ واشتَعَلَ، والحَقُّ هو تَوحيدُ مَولانا جَلَّ ذِكرُه، الحاكِمِ بذاتِه، المُنفرِدِ عن مُبدِعاتِه) [3466] ((رسالة من دون قائم الزمان والهادي إلى طاعة الرحمن)) ضمن ((رسائل الحكمة)) (2/ 531، 532). .
الحدُّ الثَّاني: النَّفسُ
وهذا عِندَهم على اعتِبارِ أنَّ النَّفسَ فَيضٌ مِنَ العَقلِ، وجُزءٌ مُتَمِّمٌ له انبَثَقَت عنه، فنُسِبَت إلى العَقلِ كنِسبةِ العَقلِ إلى الخالقِ [3467] ((أصل الموحدين الدروز)) لأمين طليع (ص: 94). . والمُرادُ به إسماعيلُ بنُ مُحَمَّدٍ التَّميميُّ.
وقد وجَّهَ إليه حَمزةُ مَرسومَ تَقليدٍ أسماه (سِجِلَّ المُجتَبى) جاءَ فيه: (إلى أخيه وتاليه، وذي مِصةِ عِلمِه وثانيه؛ آدَم الجزوي، الذي اجتَباه بعِلمِه وهداه بحِلمِه، وغَداه بسلمِه؛ أخنوخِ الأوانِ، وإدريسِ الزَّمانِ، هرمسِ الهَرامِسةِ: أخي وصِهري أبو إبراهيمَ إسماعيلُ بنُ مُحَمَّدٍ التَّميميُّ... إنِّي نَظَرتُ إليك بنورِ مَولانا جَلَّ ذِكرُه، وبما أيَّدَني به مَولانا علينا سَلامُه ورَحمَتُه... فجَعَلتُك خَليفتي على سائِرِ الدُّعاةِ والمَأذونينَ والنُّقَباءِ والمُكاسِرينَ... وأسمَيتُك بصَفوةِ المُستَجيبينَ، وكَهفِ الموحِّدينَ، وذي مِصةِ عِلمِ الأوَّلينَ والآخِرينَ، وجعَلتُ لَك الأمرَ والنَّهيَ على سائِرِ الحُدودِ، فتُوَلِّي مَن شِئتَ وتَعزِلُ مَن شِئتَ) [3468] ((سجل المجتبى)) ضمن ((رسائل الحكمة)) (1/ 206، 207). .
وللتَّميميِّ عِدَّةُ رَسائِلَ؛ مِنها: (رِسالةٌ في تَقسيمِ العُلومِ)، و (رِسالةُ الزِّنادِ) و (رِسالةُ الشَّمعةِ)، و (رِسالةُ الرُّشدِ والهدايةِ).
ومَعَ أنَّ للتَّميميِّ هذه القيمةَ عِندَ الدُّروزِ إلَّا أنَّه بَعدَ اختِفاءِ حَمزةَ إثرَ مَقتَلِ الحاكِمِ سَنةَ 411هـ، لم تَذكُرْه رَسائِلُ الدُّروزِ مُطلَقًا، ولم يقُمْ بأيِّ نَشاطٍ، غَير أنَّ الدَّرْزيَّ عَبدَ اللَّهِ النَّجَّار يفتَرِضُ أنَّه بَقيَ حَيًّا حتَّى سَنةِ 427هـ [3469] يُنظر: ((مذهب الدروز والتوحيد)) (ص: 140). ، وهذا يعني أنَّه اختَفى مَعَ حَمزةَ وباقي الدُّعاةِ حتَّى ماتَ في تلك السَّنةِ.
الحَدُّ الثَّالِثُ: الكَلِمةُ
وهو مُحَمَّدُ بنُ وهبٍ القُرَشيُّ، وهو أوَّلُ الثَّلاثةِ الذين أُضيفوا إلى العَقلِ والنَّفسِ.
والمَعلوماتُ عنه مَوجودةٌ في تَقليدِه الذي قَلَّدَه إيَّاه حَمزةُ، واسمُه: (تَقليدُ الرِّضا سَفيرِ القُدرةِ)، وذلك حينَ رَفعَ دَرَجَتَه، وعُيِّن خَلَفًا لسَلَفِه (المُرتَضى) [3470] ((مذهب الدروز والتوحيد)) للنجار (ص: 140). .
إذ إنَّ التَّقليدَ يقولُ: (هي المُنزِلةُ التي كانت للشَّيخِ المُرتَضى قدَّسَ اللَّهُ سِرَّه، وأنتَ تَسَلَّمتَ عُلومَه وحدَه، وقد سَلَّمتُ إليك جَميعَ كُتُبِه التَّوحيديَّةِ، وجَعَلتُك مُقدَّمًا على جَميعِ الدُّعاةِ والمَأذونينَ والنُّقَباءِ والمُكاسِرينَ والمُستَجيبينَ الموحِّدينَ، لا فوقَك أحَدٌ أعلى مِنك غَيرُ صَفوةِ المُستَجيبينَ وكَهفِ الموحِّدينَ) [3471] ((تقليد الرضى سفير القدرة)) ضمن ((رسائل الحكمة)) (1/ 209). .
وكما أنَّ التَّميميَّ ليس له ذِكرٌ بَعدَ الحاكِمِ، كذلك ابنُ وهبٍ لم يصِلْ عنه خَبَرٌ بَعدَ هذا التَّقليدِ.
الحَدُّ الرَّابِعُ: السَّابِقُ
وهو سَلامةُ بنُ عَبدِ الوهَّابِ السَّامِريُّ.
قال الدَّرْزيُّ عَبدُ اللَّهِ النَّجَّار عنه: (لا شَكَّ أنَّ السَّابقَ قُلِّدَ السُّلطةَ بمَرسومٍ لم يُنقَلْ إلينا) [3472] ((مذهب الدروز والتوحيد)) (ص: 141). .
والسَّابقُ هو الجَناحُ الأيمَنُ في الحُدودِ، وهو والتَّالي يُعتَبرانِ اليَّنبوعَ الذي يجري بالمَعرِفةِ الإنسانيَّةِ.
الحَدُّ الخامِسُ: التَّالي
وهو عَليُّ بنُ أحمَدَ السَّموقيُّ، واشتَهَرَ باسِمِ بَهاءِ الدِّينِ، بالإضافةِ إلى الأسماءِ والنُّعوتِ التي أُطلِقَت عليه، مِثلُ: (لسانِ المُؤمِنينَ)، و(سَنَدِ الموحِّدينَ)، و(العَبدِ المُقتَني)، وغَيرِ ذلك مِنَ الألقابِ التي أطلَقَها عليه حَمزةُ.
ويُعتَبَرُ بَهاءُ الدِّينِ مِن أخطَرِ دُعاةِ الدُّروزِ بَعدَ حَمزةَ؛ إذ قامَ بأعظَمِ نَصيبٍ في نَشرِ المَذهَبِ الدَّرْزيِّ بَعدَ اختِفاءِ حَمزةَ، فلَولا جُهودُه لَما بَقيَ لهذا المَذهَبِ أثَرٌ يُذكرُ. كما أنَّ الكثيرَ مِن رَسائِلِ الدُّروزِ هي مِن تَأليفِ بَهاءِ الدِّينِ هذا؛ مِنها: (التَّنبيهُ والتَّأنيبُ)، و(مَثَلٌ ضَربه بَعضُ حُكماءِ الدِّيانةِ)، و(الإيقاظُ والبِشارةُ)، و(رِسالةُ اليمَنِ)، و(رِسالةُ الهندِ) وغَيرُ ذلك.
وقد جاءَ في نُسخةِ تَقليدِه ما يلي: (فاخدُمْ ببَرَكةِ المَولى في الحَدِّ الجَليلِ الذي أُهِّلتَ له، واستَعدَّ لَك كأخيك الجَناحِ الأيمَن ثَلاثينَ حَدًّا دُعاةً مَأذونينَ ونُقَباءَ ومُكاسِرينَ، واعلَمْ أنَّ أوَّلَ السَّبعةِ المُفتَرَضاتِ: سِدقُ اللِّسانِ، والسِّدقُ هو المَولى وضِدُّه الكَذِبُ، والسِّدقُ والكذِبُ يتَشابَهانِ في التَّخطيطِ، كذلك الصِّدقُ يتَشَبَّهُ بالمَولى؛ لأنَّ المَولى جَلَّ اسمُه لا ضِدَّ له.
وكذَبَ ثَلاثةُ أحرُفٍ، وسَدَقَ ثَلاثةُ أحرُفٍ، فإذا أحسَبناها في حِسابِ الجُمَّلِ افتَرَقا؛ لأنَّك تَقولُ: «ك» عِشرونَ، «ذ» أربَعةٌ، «ب» اثنَتانِ، الجَميعُ سِتَّةٌ وعِشرونَ حَرفًا...
والسِّدقُ: «س» سِتُّونَ، «د» أربَعةٌ، «ق» مِائةٌ، فذلك مِائةٌ وأربَعةٌ وسِتُّونَ حَرفًا، دَليلٌ على مِائةٍ وأربَعةٍ وسِتِّينَ حَدًّا، يكونُ للإمامِ مِنها تِسعةٌ وتِسعونَ حَدًّا، كما قال: «إنَّ للَّهِ تِسعةً وتِسعينَ اسمًا مَن أحصاها دَخَلَ الجَنَّةَ» [3473] أخرجه البخاري (2736)، ومسلم (2677) من حديثِ أبي هريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، ولفظُه: ((إنَّ للهِ تسعةً وتسعين اسمًا، مائةً إلَّا واحدًا، من أحصاها دخَل الجنَّةَ)). ، أي: لإمامِ التَّوحيدِ تِسعة وتِسعينَ داعيًا مَن عَرَفهم دَخَلَ حَقيقةَ دَعوتِه) [3474] ((تقليد المقتنى)) ضمن ((رسائل الحكمة)) (1/215). .
ويبدو أنَّ بَهاءَ الدِّينِ كان على اتِّصالٍ مَعَ حَمزةَ أثناءَ غيابِه بَعدَ مَقتَلِ الحاكِمِ، وكان أيضًا على مَعرِفةٍ بمَقَرِّه السِّرِّيِّ الذي يختَبئُ فيه، وكان يتَلَقَّى مِنه الأوامِرَ والتَّوجيهاتِ، وقد قامَ بَهاءُ الدِّينِ بجُهودٍ كبيرةٍ لإبعادِ مَن حاولوا أن يُغَيِّروا شَيئًا مِنَ المَذهَبِ مِن أمثالِ سِكينٍ وغَيرِه مِنَ الذين انقَلَبوا على آراءِ حَمزةَ؛ لذلك نَجِدُ بَهاءَ الدِّينِ يبعَثُ إليهم برَسائِلِ التَّنبيهِ والتَّأنيبِ والتَّوبيخِ، على ما حاولوا تَغييرَه في المَذهَبِ.
وهو لهذا أعلَنَ غَيبَتَه سَنةَ 434هـ في مَنشورِ الغَيبةِ، والذي أعلَنَ فيه إقفالَ بابِ الاجتِهادِ في المَذهَبِ، وذلك ليُحافِظَ على آراءِ حَمزةَ، وآراءِ الحُدودِ والدُّعاةِ الآخَرينَ مِثلِ التَّميميّ.
ثُمَّ إنَّ لكُلِّ حَدٍّ مِنَ الحُدودِ الخَمسةِ لَونًا مُخَصَّصًا له؛ فاللَّونُ الأخضَرُ مُخَصَّصٌ لحَمزةَ، والأحمَرُ مُخَصَّصٌ للتَّميميِّ، والأصفرُ مُخَصَّصٌ للقُرَشيِّ، والأزرَقُ لسَلامةَ بنِ عَبدِ الوهَّابِ السَّامِريِّ، أمَّا الأبيضُ فهو لبَهاءِ الدِّينِ؛ ولهذا عِندَما أعلَنَ الاستِعمارُ الفرَنسيُّ قيامَ (إمارةِ جَبَلِ الدُّروزِ المُستَقِلَّةِ) ارتَفعَ عَلَمٌ مُكوَّنٌ مِن تلك الألوانِ الخَمسةِ، على المَراكِزِ الرَّسميَّةِ في الجَبَلِ، ولا يزالُ هذا العَلَمُ يرتَفِعُ على دارِ طائِفةِ الموحِّدينَ الدُّروزِ في بَيروتَ [3475] يُنظر: ((أيها الدرزي  عودة إلى عرينك)) (ص: 112). .

انظر أيضا: